ثورة الزنوج: عنوان الخسائر الاقتصادية… وهزائم الجيوش العباسية! 3\3
تابعنا في الجزء الأول من هذا الملف، طبيعة حركة الزنج، وأسباب قيامها والأوضاع الحاسمة في تفجّرها، وتعرفنا في الجزء الثاني إلى الشخصية المنظرة لها.
في هذا الجزء الثالث والأخير، نقتفي نهاية هذه الثّورة والحرب الضّارية التي خاضتها ضدّ الجيوش العباسية والخسائر المادية والبشرية التي تسببت فيها.
الجدير بالذكر أن كثيراً من المراجع تشير إلى أنه من أهم أسباب فشل حركة الزنج، أنها كانت حركة طبقية ضيقة، لا تنطوي على برنامج شامل وأسس فكرية ثابتة، فكان نجاحها رهينا ببقاء زعيمها وحماس أتباعه العبيد من ناحية، وبضعف الخلافة وانشغالها من ناحية أخرى. [1]
“كوارثُ” الزنوج
انطوت ثورة الزنج على خسارة كبيرة لملاك الأراضي وأصحاب العبيد.
كان قوام ربح هذه الفئة البورجوازية وكيانهم المادي، يقومان على تسخير أعداد العبيد الضخمة في الزراعة وإصلاح الأراضي بإزالة الطبقة الملحية عنها، كما رأينا في الجزء الأول، بدون مقابل يذكر. [2]
كان ذهابُ العبيد، بالنّسبة للملاك، يعني سقوطاً حتمياً في الخسارة والحرمان من أدوات الإنتاج الرخيصة، أو المجانية، وتعريض الإقطاعات الفلاحية للخراب.
لعلّ هذه، ببساطة، هي حلقة الوصل في الحرب بين الزنج والملاكين، والتي اتسمت بالحقد والعنف، واستمرت دون هوادة… مدة خمسة عشر سنة.
استمرار حركة الزنج طوال هذه المدة أثر تأثيراً سيئا على اقتصاديات العراق الأدنى، لأن غارات الزنج على البصرة وواسط والأهواز والمناطق المجاورة، واحتلالهم لهذه المدن، أدى بطبيعة الحال إلى شلل الزراعة وعرقلة التجارة. [3]
لقد استطاع الزنج أن يسيطروا، بين عامي 255 – 269، على مدن كبيرة وغاية في الأهمية، كالأبلة وعبادان وجبی، وفرضوا سلطانهم على مصب دجلة، واستولوا على مقاطعات زراعية شاسعة، فأثر كل ذلك على بغداد نفسها، لاسيما بعد انقطاع اتصالها بالعراق الأدني، مما ألحق بالتجارة خسائر فادحة. [4]
الوضع بات يدور في حلقة مفرغة، وكلما أعاد قواد العباسيين هذه المواصلات، قطعها الزنج من جديد، حتى أن السفن النهرية لم تستطع السير في شط العرب مدة عشر سنوات.
اتسم دخول الزنوج لأي مدينة بالعنف الصّارخ والخوف النّافذ. إذ كلّ مدينة يدلفونها إلا ويقتُلون بعضاً من أهلها، وتضرمُ النيران لتحرق كل ما فيها من حياة. [5]
إذا علمنا أن “البصرة كانت ميناء العراق الوحيد، وعليها اعتمدت تجارة العباسيين الصادرة والواردة، أدركنا أية خسارة فادحة تعرضت لها الدولة بعد دخول الزنج هذه المدينة، واستطعنا أن نعلل الحماس الخارق الذي بذَله أبو أحمد الموفق في حربهم”. [6]
الزنوج: “حربُ عصاباتٍ”؟
حين انطلقت المعارك، ودُقت طبول الحرب في الميدان بين العباسيين والزنج، ساعدتهم طبيعة المناطق التي دار فيها القتال، وجعلت الكفة تميل لصالحهم…
لقد كان العبيد الزنوج أدرى الناس بالأرض التي دارت فيها رحى المعارك الضارية، إذ اتسم المكان بالوعورة، والامتلاء بالآجام والبطائح. [7]
الجيوش العباسية واجهت، أيضا، صعوبات في القتال داخل الأدغال وغابات النخيل والأنهار والجداول المتفرّعة بالآلاف والقنوات والسدود… بالإضافة إلى المستنقع الكبير الذي يدعى البطيحة، حيث يغلب الماء وتعيث الملاريا. [8]
على عكس الزنج، الذين كانوا يحفظون مسالك هذه المنطقة وتعرجاتها، فنصبوا فيها الكمائن لجنود الخليفة. لذلكَ، شبّه الباحثون حرب الزنوج بحرب العصابات، لقدرتها على التشويش على الدولة العباسية واستنزاف قوى جيشها. [9]
يقول أحد الباحثين: لم يكن للزنج، المسخرين في كسح السباخ، سوابق صراع تجعلهم مؤهلين لمجابهة مثل هذا الجيش، وإنما قاتلوا بروح الصراع الطبقي الذي أذكاه فيهم قائدهم. [10]
استدعى الخليفة المعتمد العباسي قائده أبا أحمد الموفق، لأن المعتمد تكونت لديه قناعة بأن الزنوج باتوا مصدر خطر للخلافة، وثورتهم كاسحة وليست له القدرة على التحكم فيها.
كان أبو أحمد الموفق رقماً تعوّل عليه الخلافة، نظرا لكونه ذا كفاءة عسكرية فذّة.
تم تكليف الموفق بالمهمة سنة 266 هـ، وكانت هذه الفترة تعرف بداية استعادة العباسيين لقواهم الميدانية، وتراجع الزنج، فاستعدّ الموفق لحملة حاسمة ضد الزنج، واستعرض جيشا قوامه عشرة آلاف مقاتل، وكان يرافقه سفن حربية.
تحرك أبو العباس بن الموفق نحو جرجاريا، بعد أن عبأ جيشه تعبئة دقيقة واستقر قرب واسط، واستطاع أبو العباس أن يهزم سليمان بن جامع (أحد قواد الزنج) فأجبره على الانسحاب من واسط والتقهقر”. [11]
حينها، بدأ الزنوج الاستعداد لواقعة أخرى، وهُزموا فيها أيضاً قرب واسط… ويبدو أن سليمان بن جامع شعر بقوة الجيش العباسي، فقد امتنع عن الحرب لمدة شهر كامل، واعتمد استراتيجية الهجوم السريع والانسحاب. وكان الزنج يقومون بعملية حرق السفن الحربية العباسية، ويزيلون القناطر وينسحبون… وعلى الرغم من شجاعة الجيش بقيادة أبي العباس، لكنه لم يستطع الانتصار على الزنج حتى حضر الموفق العباسي بنفسه سنة 267 هـ لإدارة دفة القتال، وكان هدفه احتلال المنيعة مركز الزنج قرب واسط”. [12]
دخل الجيش فعلا هذه المدينة المحصنة، وقد تأثر صاحب الزنج لسُقوط هذه المدينة بيد الخلافة العباسية، التي ما فتئت أن حرّكت جيوشها مجدداً نحو طهيثيا بقيادة الموفق ودخلها، أيضاً، وقتل الجبائي، الذي كان من أعظم قواد صاحب الزنج وأكثرهم طاعة له.
بعدها، دخل الموفق المنصورة بسهولة ثم توجه نحو الأهواز، واستطاع دخولها كذلك، واقتصر سلطان الزنج على المختارة وما جاورها من أرجاء أبي الخصيب، وظل الموفق في هذه المنطقة يعد العدة للحرب.
عمد هناك إلى بناء مدينة على ضفاف شط العرب اسمها الموفقية لكي يضرب حصاراً على المختارة عاصمة الزنج. فرض عليهم الحصار، وبدأ يصادر أكلهم.
أخذ الزنج يقاسون المجاعة وندرة الأقوات، مما أدى إلى شل قوّتهم، وإضعاف صفوفهم.
مع ذلك، ظلت المختارة تقاوم الهجوم والحصار حتى 269، حيث “تمكن الموفق من دخول المدينة واحتلالها من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، وبدأ الزحف براً ونهراً، وكان تعداد الجيش خمسين ألف مقاتل، واستطاع الموفق احتلال المختارة وحملت نساء صاحب الزنج وأولاده وبناته إلى الموفقية. وقد بلغ قتلى هذه الحرب، على ما يروى، آلافاً من المسلمين، من الفريقين”. [13]
و… أرسل رأسُ علي بن محمد إلى بغداد سنة 270… وانتهى التصدّع الذي أحدثه الزّنوج للخلافة.
هكذا، نسجّل في نهاية هذا الملف أنّ ثورة الزنج كانت، بدون منازع، من أبرز الحركات التي تبوأ فيها الوضع الاجتماعي مركزَ الصدارة في التراث الإسلامي إبان القرن الثالث الهجري.
ويبدو أنها تلك الشعلة الصغيرة التي قدحت الأفكار الثورية وفجّرت الخبايا النافرة من الأوضاع والخلافة. فهل انتهت هذه الثورة إلى العدم؟
مرايانا تجيبُ بالنفي، وما انفجار حركة القرامطة فيما بعد… إلاّ دليلٌ على ذلك.
هوامش:
[1] السامر فيصل، ثورة الزنج، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثانية، 2000.
[2] المرجع نفسه.
[3] نفسه.
[4] نفسه.
[5] علي أحمد، ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثالثة 2007.
[6] المرجع نفسه.
[7] نفسه.
[8] نفسه.
[9] نفسه.
[10] العلوي هادي، شخصيات غير قلقة في الإسلام، دار المدى للثقافة والنشر.
[11] ياسر جاسم قاسم، ثورة الزنج والتأسيس النظري لها والواقع العملي.
[12] المرجع نفسه.
[13] نفسه.
- الجزء الأول: ثورة الزنج: خمسة عشر سنَة من نضال العبيد… في التّراث الإسلامي! 1\3
- الجزء الثاني: ثورة الزنج: علي بن محمد، زعيم ثورة العبيد في الإسلام؟ 2\3
مقالات قد تثير اهتمامك:
- الجانب المظلم من فكر الخوارج… الدّماءُ أفقاً! 4/4
- قرامطة البحرين: جمهورية “اشتراكية” رائدة… لكن عنوانها الدّماء! 4\4
- الأزارقة: مؤسسو داعش في القرن الأول الهجري
- ما بعد السقيفة… إقصاء علي بن أبي طالب وتهميش آل البيت والأنصار
- على هامش مجازر نيس وفيينا… في حاجة الإرهاب إلى “قول في التسامح” 2/2
- محمد شحرور… عندما نادى المفكر الإسلامي بتجفيف منابع الإرهاب داخل النص الديني! 3/3
- علي اليوسفي: البعد الشيطاني للخطاب الديني… أصل الإرهاب والتطرف 3\3
- التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!
- علماء حاربهم الفقهاء… هؤلاء 6 من أهم علماء الإنسانية المسلمين الذين اتهموا بالزندقة والكفر (الجزء السادس والأخير)
- الأمن الروحي… مفهوم “مستحدث” لمواجهة التطرف أم حجر على حرية التعبير؟ 2/1
- ذكرى الأحداث الإرهابية لـ 16 ماي: من هنا كانت البداية!