على هامش مجازر نيس وفيينا… في حاجة الإرهاب إلى “قول في التسامح” 2/2 - Marayana - مرايانا
×
×

على هامش مجازر نيس وفيينا… في حاجة الإرهاب إلى “قول في التسامح” 2/2

الإيمان بالله ليس طاقة انفعالية “حرة” موجودة خارج محددات كل ما يأتي من الثقافة والتاريخ والجغرافيا…
هي جزء من وعي جَمْعي لعب فيه الشرط الإنساني دورا أساسيا: يتعلق الأمر بمزيج غريب من قلق مصدره الخوف من المجهول وضياع البدايات، وخشية من جبروت القوى الطبيعية والاجتماعية على حد سواء.

تابعنا في الجزء الأول من هذا الملف، بعض تفاصيل ترجمة سعيد بنكراد لكتاب “قول في التسامح”  لفولتير، وكيف اعتبر المترجم أن الكتاب لا يذكرنا بما يجري الآن عندنا، بل نقرؤه وكأنه معاصر لنا، فهو يصف بالحرف ما يجري في الفضاء الإسلامي. فيكفي أن نغير أسماء الفرق وأسماء الأعلام، لكي ينطبق كل ما يقوله على حالتنا.

في هذا الجزء الثاني، نواصل اقتفاء بعض تفاصيل الحكاية، من خلال تشريح تيمة التسامح كقيمة، وعلاقتها بالتعددية والعيش المشترك.

التسامح كقيمة…

يسعى بنگراد في مقدمة الكتاب، إلى إبراز أن “السماح في اللسان العربي عطاء وكرم وجود. والسمْح من الرجال والنساء من كان سباقا إلى فعل الخير داعيا إليه، ذلك أن السماح رباح، أي مصدر لراحة النفس والعقل، ومنه اشتُق التسامح”، لأن، بالنسبة إليه، من تسامح فقد قبل بالآخرين رغم اختلافهم، فهذا تعبير عن “محدودية الإنسان وكشف عن وعي يتأمل الكون في تعدديته وغناه. لذلك قد يكون التسامح حاصل قناعة مصدرها الفرد ذاته، فنحن كائنات مختلفة في الطبائع والأمزجة والأحاسيس، ولكنه في الأصل مبدأ عام يمكن، وفقه، إدارة الشأن الجماعي”.

اقرأ أيضا: هل ستنهار الأخلاق من دون الإيمان والدين؟ 2/1

هذا المبدأ، في نظر المترجم، هو الذي جعل جل الأخلاقيين يصنفونه ضمن ما يفصل أو يربط بين مقولتي الخير والشر في النفس وفي المجتمع على حد سواء. فـ”التسامح حاجة، وليس اختيارا حرا، فهو في العادة يُمارس عندما يعترف الناس بسيئات شيء قد تقود محاربة السوء فيه إلى ما هو أسوأ منه”. لذلك “وجب علينا التوقفُ عن محاربة ما يستحيل تغييره”، كما يقول جون لوك، في رسالته حول التسامح. إنه لا يشير، من هذه الزاوية، ومن كل الزوايا، إلى موقف سلبي من الآخرين، وإنما يعبر عن رغبة في حياة مشتركة لا يمكن أن تقوم دون وجود حد أدنى من مزاياه.

وهو ذاتُ المبدأ، يشدد بنگراد، الذي تبناه أيضا الوعاظ والمربون والمعالجون وكل الذين يحاولون محاربة الآفات التي تتطور على هامش المجتمع، أو هي إفراز طبيعي لكل سيرورات التطور داخله. فـ”نحن لا يمكن أن نربي أطفالنا بالتعنيف والزجر والأمر والنهي، تماما كما لا يمكن أن نقتل كل “المدمنين” و”المنحرفين” و”الضالين” أو نزج بهم في السجون”.

الواقع أن في هذا وذاك قبولٌ بشيء ما “مختلف” أو خارج عن “المألوف”. وهو ما يؤكد المترجم، أنه يجعل التسامح سلوكا يُصنف ضمن محددات العيش المشترك، فهو الأساسُ الأولي الذي “قاد الإنسان إلى اكتشاف الجدران العازلة درءا للعين المتلصصة، وقاده أيضا إلى بناء التجمعات السكنية التي قَبِل داخلها بالتخلي طوعا عن جزء من حريتّه لكي يعيش في طمأنينة وأمان وسط آخرين يتقاسمون معه وَحْشة الوجود على الأرض”.

التعددية والعيش المشترك!

يقولُ سعيد بنكراد في تقديم ترجمته للكتاب، إن الإنسان قد استطاع أن “يحمي نفسه من الاندفاع الأهوج داخله، من قبيل رغباته المجنونة في أن يكون قويا وجبارا عتيا وأكثر من واحد، وأن يتعرى ويحقق كل نزواته، ويمارس ما يحلو له في فضاء عمومي هو مِلْك لكل الناس”. وذاك، حسبهُ، مصدر الحاجة إلى “الآداب” و”الأخلاق” و”الحياء” و”المشاعر الخاصة”، فهي ضوابط تَحُد من فوضى الانفعالات والأهواء وتسيبها.

اقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: حكاية اسمها التربية الإسلامية

يؤكدُ المترجم أن الأمر لا يتعلق بتضييق على حرية هي الأصل في الوجود الإنساني، وإنما هو تحديد لمساحات خاصة “بالمحظور”، ذلك المبدأ الذي يقوم عليه كل انتماء طوعي إلى فضاء قيمي يستوعب “الأنا المخصوصة” ضمن مجموع ما يشكل دوائر “النحن” الثقافية والأخلاقية، ويقيه، في الوقت ذاته، من شر “حيوانية” ليست معنية بإكراهات “الغيرية” عند القريب في الفصيلة، أو عند الغريب من الفصائل الأخرى.

وهذا ما يثبتُ، كما يضيفُ المترجم، أن الإنسان ليس عدوانيا بطبعه، كما تَوَهم البعض وهم يتحدثون عن كائن بدائي متوحش لا يشكل الآخر عنده “حدا”، أو قيمة في ذاتها. فـ”الكائن الذي اهتدى “بطَاقات الحَدس وحدها”، دون الاستعانة بوعي وجودي مسبق، وخارج محددات ما نعرفه اليوم من القوانين والضوابط الأخلاقية، إلى إمكانية العيش مع “شبيه” لا يعرف عنه إلا ما يمكن أن تقوله أفعاله الحسية، أو ما يمكن أن يكشف عنه الانفعال المباشر، لا يمكن أن يكون حاملا لبذور عنف “طبيعي” سابق في الوجود على الممارسة ومتحكم فيها”.

الإنسان تعلم، منذ لحظات وعيه الأولى في الوجود، كيف يَشْكُم عدوانيته ويروضها، فتبادل الناس بضائع وسلعا من كل الأنواع، كما تبادلوا خِبِرات ومعارف خارج أي تبادل لسني أو ثقافي صريح. لقد سُوقت العقائد والثقافات وأنماط العيش كما يمكن أن تُسوق كل البضائع (لعب التجار دورا كبيرا في انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية).

اقرأ أيضا: هذا أخطر أنواع اللاتسامح وأكثرها شيوعا في المجتمعات… وهكذا يمكن مواجهته! 3/1

ومن زاوية التعدد دائما، فإنّ الإيمان بالله ليس طاقة انفعالية “حرة” موجودة خارج محددات كل ما يأتي من الثقافة والتاريخ والجغرافيا، بل هي جزء من وعي جَمْعي لعب فيه الشرط الإنساني دورا أساسيا: يتعلق الأمر بمزيج غريب من قلق مصدره الخوف من المجهول وضياع البدايات، وخشية من جبروت القوى الطبيعية والاجتماعية على حد سواء. فلا يَدَ للعقل، حسب بنگراد، “في ما يأتي من العقائد أو يقود إليها، فالناس يتوارثون الإيمان كما يتوارثون انتماءاتهم إلى الأهل واللغة والثقافة. نحن في حاجة إلى قانون يحمي من جرائم الحق المدني، ولكننا في حاجة أيضا إلى دين يحمينا من إغراءات النفس الأمَّارة بالسوء”.

 

لقراءة الجزء الأول: “قول في التسامح” بعد أحداث فيينا ونيس… لمَاذا يحتاجُ الإرهَابيّون باسم الدّين إلى قِراءة فكْر فُولتير! 1/2

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *