القرامطة: عن… ثورة الكادحين في الإسلام! 1 - Marayana - مرايانا
×
×

القرامطة: عن… ثورة الكادحين في الإسلام! 1\4

هل الحركة القرمطية حركة دينية، هدفها تحجيم الإسلام، وترك الشّرائع، ونسف العبادات كما يقول فقهاء السنة؟ أم أنها حركة ذات بنية اجتماعية، مؤسسة على حقائق مادية وظروف ذاتية وموضوعية تروم تحقيق العدل الاجتماعي؟

وأنت تقرأ تاريخ الفرق الإسلامية، والحركات السرية، والثورات الاجتماعية التي انفجرت في عهد الخلافة العباسية، عليك فقط أن… تحذر!

ليس من السهل قراءة تاريخ محفوف بالأيديولوجيا، حيثُ يعمدُ فقهاء السلطة على تشويه الفرق، في وقتٍ ينظر باحثون معاصرون للحركات الإسلامية كنماذج واضحة للمسألة الاجتماعية في التّراث الإسلامي.

القرامطة ليسوا خارج هذه الثنائية. يكفي أن نقرأ ما كتبه ابن الجوزي عن الحركة: “واعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض وباطنه الكفر، ومفتتحه حصر العلوم في قول الإمام المعصوم، وعزل العقول أن تكون مدركة للحق لما يعترضها من الشبهات، وإن غاية مقصدهم نقض الشرائع؛ لأن سبیل دعوتهم ليس متعينا في واحد، بل يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه؛ لأن غرضهم الاستتباع، وقد ثبت عنهم أنهم يقولون بإلهين قدیمین لا أول لواحد منهما من حيث الزمان، إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني، واسم العلة: السابق، واسم المعلول: التالي، وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه”.

ثمّ يحكي حسين مروة حادثة، نقلها عن ابن الاثير، حيث يقول إن أحد قواد جيش المعتضد، فاجأ القرامطة في أحد مراكزهم من منطقة الكوفة عام 287 هجرية، فقتل رؤساءهم وأسر الآخرين. لكنه اضطر إلى تسريحهم جميعاً، لأنهم كانوا من الفلاحين، ولأن قتلهم أو إبقاءهم في الأسر يومئذ، يعني تعطيل الأرض هناك من الزراعة”.

في هذه الواقعة، وفق مروة، “دلالة على الجانب الطبقي من القضية أوّلا، وعلى كثرة الفلاحين الداخلين في الدعوة القرمطية ثانيا، إلى حد أن غيابهم عن الأرض، كان يؤدي إلى شلل حركة الزراعة في المنطقة”.

فهل الحركة القرمطية حركة دينية، هدفها تحجيم الإسلام، وترك الشّرائع، ونسف العبادات كما يقول فقهاء السنة؟ أم أنها حركة ذات بنية اجتماعية، مؤسسة على حقائق مادية وظروف ذاتية وموضوعية تروم تحقيق العدل الاجتماعي؟

هذا ما تحاول مرايانا الإجابة عنه في هذا الملف، بكثير من الحذر… طبعاً!

ظهور القرامطة

تقول الرواية التي تؤسس لقيام الحركة القرمطية في سواد الكوفة بالعراق، إنّ رجلا، هو الحسين الأهوازي، “قدم من منطقة الأهواز بخوزستان بإيران إلى هذه المنطقة، وكان من دعاة الإمام الإسماعيلي أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، أو أنه هو الإمام أحمد نفسه، تخفی تحسبا من ملاحقة العباسيين؛ وكان هذا الداعي يكثر من الصلاة، حتى أنه كان يصلي خمسين صلاة في اليوم والليلة”. [1]

عندما انتشر خبره بين الناس، “أعلمهم بأنه يدعو إلى إمام من آل بيت النبي، وراح يفصل لهم مبادئه، وأفكاره الدينية، فالتف الناس حوله، ومن بينهم، حمدان بن الأشعث قرمط، الذي آواه في منزله. لمّا اطمأن إليه، شرح له برنامج إنقاذ أهل هذه القرية، وأفهمه بأنه مأمور من الله، وأنه رفع إليه جرابا فيه علم وسر من أسرار الله، فرغِب حمدان في مَعرفة هذا السّر، فناشَده بأنْ يعلّمه شيئاً من علمه، فاشترط الأهوازي أن يأخذ عليه عهدة، فكان حمدان بذلك أول من انتسب إلى الحركة، ورعی ولادتها في منزله”. [2]

محمد سهيل طقوش يرى أن المقابلة بين الرجلين لم تأخذ عامل الصدفة، كما توحي بذلك بعض الروايات، ذلك أن حمدان بن الأشعث قرمط، كان “مائلا إلى الزهد والديانة”؛ بمعنى أنه كان لديه الاستعداد والمؤهلات لتحمل العمل الدعوي الإسماعيلي. كما أن سرعة تقبله لما دعي إليه، وتسلمه العمل الدعوي، وقيامه بتنظيم هذا العمل، دليل على ذلك. [3]

هناك شبه إجماع بأنّ ظهور القرامطة من رحم الإسماعيلية، كان مؤكدا؛ رغم أن بعض الدارسين يذهبون إلى أن هناك اختلافات عقدية بين القرامطة والإسماعيلية. لكنّ البراغماتية الواقعية وفّقت بين الفريقين، قبل أن تعجل أسباب كثيرة بالانشقاق، ومباشرة القرامطة للدعوة بنوع من الاستقلال. [4]

حتى لو، بالفعل، احتوت الدعوة الإسماعيلية الثورة الاجتماعية للقرامطة في العراق، أو أن الثورة الاجتماعية لهؤلاء، استترت بالدعوة الشيعية لخدمة أغراضها؛ فـ “الثابت أن اللقاء بين الدعوة والثورة قد تم، وأسفر عن نجاح الثورة، التي انفصلت عن الدعوة الاسماعيلية”، يقول محمود إسماعيل.

غير ذلك، ما كان للجماهير الساخطة أن تحقق مطالبها. لقد أذكت الدعوة فيها الوعي الثوري، وأعطت الثورة مشروعية الانطلاق، كما أن الدعوة الدينية وحدها لم تكن لتحقق أهدافها، ما لم تضع وزناً لمسألة العدل الاجتماعي”. [5]

في ذات السياق، يصفُ عبد العزيز الدوري ظهور حركة القرامطة بأنها: “زلزال أصاب العالم الإسلامي”. كما قال عنها، أيضاً، أنها “حركة متشعبة النواحي: دينية، اجتماعية، فلسفية، سياسية هدّدت أسس كيان الخلافة ولعبت دورا مهما في كتابة التّراث الإسلامي“. [6]

الأكثر من ذلك، فقد استطاعت أن تنظم وتوجه السخط الاجتماعي والديني في البلاد الإسلامية، باتخاذها حق العلويين الشرعي في الحكم، هدفاً للدّعاية السياسية.

تمكّن حمدان بن الأشعث، ذلك القروي النبطي، بالدفع بالحركة، ورئاسة الجهاز السري الإسماعيلي في العراق خلفا للحسين الأهوازي الداعية الإسماعيلي[7]

في الفترة ما بين عامي 261 هـ و278هـ، دأب على تنظيم الدعوة وإحكام خططها، وفي عام 278 أعلن الثورة على بني العباس ودحر جيوشهم الواحد تلو الآخر، واستطاع إرساء قواعد دولة مستقلة في سواد العراق وتولى حكمها حتى عام 296هـ.

تطلع القرامطة، بعد ذلك، إلى الاستيلاء على بلاد الشام، وأحرزوا عدة انتصارات في هذا الصدد. لكن العباسيين أفلحوا في إيقاف توسعهم ثم القضاء على دولتهم بالعراق في النهاية، بينما أخفقوا في إسقاط قرامطة البحرين. [8]

القرامطة: أوضاع بداية التّشكل

لا ينكرُ أي من الباحثين الذين درسوا تاريخ القرامطة، وجود عوامل اجتماعية وحقائق مادية وظروف ذاتية وموضوعية، ساهمت في التقريب بين الثورة الاجتماعية للقرامطة ومذهب الإسماعيلية في بادئ الأمر.

من بين هؤلاء، نجد النويري يحاول إجمال الأوضاع فيقول: تشاحن السلطان، وخراب العراق، وفساد البلدان فتمكن الدعاة ومن تبعهم لهذا السبب، وبسطوا أيديهم في البلاد وعلت كلمتهم”.

وقول النویري “بتشاغل السلطان”، يرى فيه الباحث محمود إسماعيل أنه “یعنی حالة الفوضى السياسية التي أسفرت عن ضعف الخلافة وتسلّط الأتراك على مقدرات الحكم والسياسة”.

لا ينفرد محمود إسماعيل بهذا الرأي، فكثير من المصادر أكدت على بطش الأتراك بالخلافة، خلال العصر العباسي الثاني. أفرغوهم من سلطتهم وصلاحيتهم، وتركوا لهم فتات السلطة، كأن يُذكر اسمهم في الخطب، أو يُنقش في العُملة.

الباحث عبد العزيز الدوري يجد أنّ تلك الفترة تمثّل “مرحلة حاسمة في تطور الحياة الاقتصادية في العراق، فقد أدى التغلب الترکي (…) إلى إحداث تبدلات وبدع كثيرة؛ إذ اتخذ الإقطاع لأول مرة صفة عسكرية، وتكاثرت المكوس والضرائب غير المشروعة وحصل التلاعب بالعملة كوسيلة للتوفير، ووصل النظام الصيرفي أوج التطور، وظهرت طبقة رأسمالية مهمة ونشأت حركة منظمة بين الطبقة العاملة”.[9]

في وقتٍ كانت أوضاع الفلاحين تسقط في المزيد من الانحدار، كانت طبقة الإقطاع تزداد ثراء وتسلّطا، بالموازاة مع ضُعف الخلافة وعدم قدرتها على الردع، فبقي المقطعون من غير تفتيش… ومن غير إشراف على احتراس من الخراب. [10]

حتى العمال والحرفيون، عانوا الأمرين بسبب هذه الأوضاع، فتشكلت “نقابات” عمالية، ساهم القرامطة في تقويتها.

لا شكّ أنّ ثورية القرامطة وجدت في ثورة الزنج المعاصرة لها تلك الأرض الخصبة للانطلاق. رغم زعم الباحثين بوجود تنسيق بين الحركتين، إلا أن الباحث فيصل السامر يستبعد ذلك.

السامر يعتبر أن نوعا من التفاعل الفكري غير التّام وقع بينهما، بحكم كون الحركتين متعاصرتين، وكلتاهما راحت تنشر دعواها في أوساط الطبقات الدنيا. ثورة الزنج مهدت الجو لانتشار القرامطة وهيأت الأذهان لها وشغلت الدولة العباسية، مما هيأ الفرصة للقرامطة لترويج دعوتهم في سواد العراق. [11]

لكل ذلك، اتسعت الفجوة وتعمّق انهيار العدالة الاجتماعية بين الطبقات، ووصل التناقض الاجتماعي إلى أقصاه، فكانت هذه الأوضاع السيوسو- اقتصادية، أرضاً خصبةً لنبتة الدعوة القرمطية.

حركة القرامطة جمعت كل الألوان والأعراق والحساسيات المذهبية المطروحة، فكان الخيطُ الناظمُ بينها، أنها تؤمن بالعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة.

نخلصُ هنا لكون الظروف الموضوعية تساعد في معرفة المناخ، الذي أتاح لهذه الحركة أن تنمو وتنضج في زمن الخلافة العباسية، خصوصاً في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.

في الجزء الثاني، سنرصد أسالب الدعوة والتنظيم الفريد الذي أشاد به عديد من الباحثين للقرامطة، وكذلك ملامح النظام “الاشتراكي” الذي قدموه بديلاً للبنية الاقتصادية والاجتماعية السائدة.

هوامش:

[1] طقوش محمد سهيل، تاريخ الزنج والقرامطة والحشاشين، الطبعة الأولى 2014، بيروت لبنان.

[2] المرجع نفسه.

[3] نفسه.

[4] عليان محمد عبد الفتاح، قرامطة العراق: في القرنين الثالث والرابع الهجريين، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970.

[5] إسماعيل محمود، الحركات السرية في الإسلام، سينا للنشر، الطبعة الخامسة 1997.

[6] الدوري عبد العزيز، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، معهد دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت 1995.

[7] محمود إسماعيل، المرجع السابق.

[8] المرجع نفسه.

[9] الدوري عبد العزيز،المرجع السابق.

[10] إسماعيل محمود، المرجع السابق.

[11] السامر فيصل، ثورة الزنج، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1971.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *