محمد رشيد رضا… حين ترفض الإصلاحيّة العقلانية والعلمانية! 3/3
المشروع النهضوي، في بداياته، بدا غير مترِدد في الانتهال من الغرب والمصالحة مع العلم ومع النظام السياسي الحديث؛ وبالتالي، الارتكان إلى العقلانية في قراءة الدين وتخليصه من التفسيرات التي أدت به إلى الانغلاق والتخلف… لكنّ محمد رشيد رضا انقلب في المراحل الأخيرة على كل هذا… حين ارتمى في أحضان السلفية الوهابية
رأينا في الجزأين الأول والثاني من هذا الملف، كيف أنّ محمد رشيد رضا ساهم في الانقلاب على التيار الإصلاحي، لصالح آخر متشدد ومنغلق على الذّات، وانحاز عن مبادئ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وناصر الفكر السلفي الوهابي.
في هذا الجزء الثالث والأخير، نرصُد كيف رفض إحدى ركائز المدرسة الإصلاحية، وهي العقلانية في التعامل مع أحكام النصّ، وكذا العلمانية، أو فصل الدين عن الدولة.
لا شكّ أن الإمام محمد عبده وأتباعه، نقلوا الأفكار السّائدة في أوروبا وطبّقوها على مجتمعهم، فكان لذلك تأثير أقوى مما توقّع عبده نفسه [1]، حيثُ كان مؤدّى ذلك، محاولة صياغة مبادئ المجتمع الإسلامي صياغة جديدة تقوم على فكرة مجتمع إسلامي علماني، يكون الإسلام فيه مقبولاً ومحترماً، بل مساعداً على شدّ الروابط العاطفية بين المواطنين، دون أن يكون مصدراً لقواعد الشّريعة والسياسة. [2]
هذه الآراء التي قال بها ألبرت حوراني، لقيت انتقادات متعددة من طرف الكثير من الباحثين، ناظرين إليها أنّها مؤدلجة، وتضع الغرب في مرتبة المؤثر في المدرسة الإصلاحية…
لكن… سرعان ما لقيت انتقاداتهم نقداً مُضادا بأنها مؤدلجة أيضاً، تقوم على نرجسية العربي، الذي ينظر عادةً لنفسه بنوعٍ من التفوق.
ما موقف رشيد رضا من العقلانية؟
ينحازُ الباحث محمد جبريل إلى الصفّ القائل بأنّ رشيد رضا عطّل وظيفة العقل، تقريباً، بحصر دوره في إقامة الدلائل على صحة العقائد، ومن ثّم تحدّد مسبقاً موقفه من الاجتهاد. [3]
رغم رفضه “النّظري جداً” لإغلاق باب الاجتهاد، إلا أنّه، يضيف جبريل، بتعريفه للاجتهاد بأنّه “تقيّد محض بأحكام القرآن والسنّة وسيرة السلف الصالح”، يكون قد وضع حجراً إضافياً خلف باب الاجتهاد المُوصد. [4]
طبيعي في مسار كهذا أن يعيد رضا تثبيت مفهوم “الإجماع” كسلطة مقيدة للاجتهاد، حتى كاد أن يساويه مع سلطة القرآن والسنّة، وطبيعي أيضاً أن يكُون موقفه في علم الكَلام متناغماً مع موقفه في الفقه؛ إذ كان منذ بداياته الأولى رافضاً للمعتزلة ومنحاهم العقلاني، وظلّ مُحصناً طويلاً من تأثيرات أستاذه محمد عبده، الذي تميّز بحسّ اعتزالي رصين… [5]
ثمّة من ذهب إلى أن رشيد رضا سيحاول لاحقاً تطهير محمد عبده من درائن الاعتزال؛ وسيحشد كلّ الأدلة الممكنة والمتخيلة حتى يُثبت أنّ الآراء الاعتزالية المنسوبة إلى الإمام مدسوسة عليه، وفق محمد جبريل.
حتّى عبد الإله بلقزيز، في كتابه “العرب والحداثة”، الذي ميّز فيه بين الإصلاحية والسلفية، أخرج الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرة العقلانية، وأدرجهُ في إطار السلفية، لاسيما مع ما آلت إليه المدرسة الإصلاحية في عهد محمد رشيد رضا.
يرى بلقزيز أن المشروع النهضوي، في بداياته، بدا غير مترِّدد في الانتهال من الغرب والمصالحة مع العلم ومع النظام السياسي الحديث؛ وبالتّالي، الارتكان إلى العقلانية في قراءة الدين وتخليصه من التفسيرات السّابقة التي أدت به إلى الانغلاق والتخلّف… لكنّ رشيد رضا انقلب في المراحل الأخيرة على كلّ هذا… حين ارتمى في أحضان السلفية الوهابية!
العلمانية… مَا أرعبَ رَشيد رضَا!
كان التّيار الإصلاحي قد حاول إحياء التّراث الإسلامي تحتَ تأثير الفِكر اللّيبرالي الأوروبي، فسَاهم ذلك في تفسير المفاهيم الإسلامية بغية جعلها مُعادلةً للمبادئ الموجّهة للفكر الأوروبي في ذلك الحين. [6]
غدا بذلك “عمران” إبن خلدون هو “تمدّن” غيزو، و”مصلحة” الفقهاء المالكيين وابن تيمية هو “منفعة” جون ستورات مل، و”إجماع” الفقه الإسلامي هو “الرأي العام” في النّظرية الديمقراطية، و”أهل الحل والربط” … صاروا أعضاء المجالس البرلمانية. [7]
أفرز الأمر ما سمّاه ألبرت حوراني بالجناح العلماني لمدرسة محمد عبده، الذي انبثق منه الفصل الواقعي الحاسم بين دائرة الحياة المدنية ودائرة الدّين… ثم بدأت العلمانية على مستوى الدولة تلوح في الأفق وقتئذٍ.
لكن محمد رشيد رضا اعتبر، فيما بعد، أنّ الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، التي كان ينادي بها بعض زملائه، تلامذة محمد عبده، قد تفوّقت، في خطرها على الإسلام، على كلّ دعاوي “المفسدين للإسلام عبر التاريخ بل وتفوقت وفق رضا على أحلام إبليس”.[8]
بدا مفهوم الدّين عند رشيد رضا يخلطُ بين الدنيا والآخرة ويقوم على الوصاية على الأفراد، ظانّاً بأنّ قواعد الدين تتجلّى في تصحيح العقائد، وتهذيب الأخلاق وإحسان الأعمال! [9]
يظهر بجلاء في النهاية، أنّ الدين عند محمد رشيد رضا يشمل دنيا الأفراد أيضاً وتسيير شؤون الدّولة، وهذا ما تجلى في دعوته للخلافة الإسلامية وحربه الضّارية ضدّ العلمانية، التي كانت مطلباً في بِدايات القرن المَاضي!
في النهاية ، يبقى السؤال قائماً:
… هل المدرسة الإصلاحية النهضوية، بأقطابها الثّلاثة، كانت مجرّد انقلاب على نتائج الكلام القديم فقط، أم بلغ الأمر حد الانقلاب على الأصول البديهية للتراث الإسلامي، والتي من شأنها إحداث تغيير وإصلاح فعلي؟
الهوامش:
[1] حوراني ألبرت، الفكر العربي في عصر النّهضة: 1798 – 1939، ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر.
[2] نفسه.
[3] محمد جبريل، رشيد رضا والإصلاح الديني…انقلاب على الانقلاب.
[4] نفسه.
[5] نفسه.
[6] حوراني ألبرت، المرجع السابق.
[7] نفسه.
[8] عمارة محمد، الشيخ رشيد رضا والعلمانية والصهيونية والطائفية، دار السلام للطباعة والنشر والترجمة.
[9] نفسه.
- الجزء الأوّل: محمد رشيد رضا… مُجهضُ النّهضة الإسلامية والمنقلب على التيار الإصلاحي 1/3
- الجزء الثّاني: محمد رشيد رضا… الإصلاح الديني في لونِ السّلفية! 2/3
مقالات قد تثير اهتمامك:
- محمد شحرور… المفكر الإسلامي الذي نظر للقرآن بعيون القرن الحادي والعشرين! 1/3
- المعتزلة… جذور الأنسنة في التراث العربي الإسلامي! 2\3
- “نصوص متوحشة”… عن خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/1
- العَلمانية… أسبابُ “الشّيطنة” وتأصِليها في الفكر السّياسي العربي! 2\3
- محمد أركون… المفكر الذي لم يهادن التراث والفكر الإسلامي!
- حسين مروة: صوت الفكر الذي اغتاله الرصاص
- من نقد التراث إلى نقد العقل، كيف أسس الجابري لنقد العقل العربي 1/3
- من اليمن، حسين الوادعي يكتب: من “صحيح الدين” إلى “صحيح الدنيا”… لحظة العلمانية العربية