العلمانية… أسبابُ “الشّيطنة” وتأصِليها في الفكر السّياسي العربي! 2 - Marayana - مرايانا
×
×

العلمانية… أسبابُ “الشّيطنة” وتأصِليها في الفكر السّياسي العربي! 2\3

تجد شيطنة العَلمانية مصدرها في الفكر “الإسلاموي”، الذي يرى بأنّ العَلمانية مُصطلح غربي، جاء ليحلّ مُشكلة غربية بحتة. وأعطى نتائجه هناك، في خضمّ سياقات تاريخية حاسمة، وأنّه لا يمكن تطبيقه في النطاق الإسلامي لأن الأرضية تختلف وكذلك السياقات والأسباب والمآلات.

في الجزء الأول من هذا الملف، رصدنا بعض السياقات الحتمية التي تمخّض منها مفهوم العلمانية في الغرب الأوروبي.

في هذا الجزء الثاني، نقدم لمحةً عن أسباب “محنة” رفض العلمانية والمغالطات والتحريفات التي بثتها الأنظمة السياسية، للحفاظ على سطوتها، حتى نجحت في ترسيخ “عداء” جماهيري ضدّ العلمانية.

يختلفُ تطبيق العلمانية من بلد إلى آخر، بل وداخل الدولة الواحدة.

الحقّ أنه ليس ثمّة نموذج أوحد للعَلمانية يمكنُ تعميمه، بل هناك “علمانيات”. الحديث عن الاختلاف لا يعني بالضّرورة تفاصيلاً صغيرة، وإنما هُناك، بالفعل، فوارق دالّة.

لهذا يرى الباحث المغربي عبد الرحيم العلام، في حوار أجراهُ مع مجلّة ذوات سنة 2018، أنه رغم أن جميع الدول الغربية تقريباً تعلن عن كونها علمانية، إلا أن دولاً قليلة جدا هي من أعلنت في دستورها كونها علمانية، في الوقت الذي أقرت فيه دساتير أخرى “الكنيسة المقررة” كما في اليونان، أو أناطت برئيس الدّولة رئاسة الكنيسة أو فرضت على الدّولة جمع الضّرائب لصالح الكنيسة، كنموذج ألمانيا.

هذا في الغرب طبعاً، ولكن لماذا رُفضت العلمانية في البلدان الإسلامية؟

شيطنة العَلمانية… أصلُ “المحنة“!

تجد شيطنة العَلمانية مصدرها في الفكر “الإسلاموي”، الذي يرى بأنّ العَلمانية مُصطلح غربي، جاء ليحلّ مُشكلة غربية بحتة. وأعطى نتائجه هناك، في خضمّ سياقات تاريخية حاسمة، وأنّه لا يمكن تطبيقه في النطاق الإسلامي لأن الأرضية تختلف وكذلك السياقات والأسباب والمآلات.

من المغالطات والتّحريفات التي تشيعُ عن العَلمانية، أنها دعوة غربية لنشر الرذيلة والإسفاف والانحلال الخلقي والفساد القيمي، وغيرها من المسكوكات التي أدّت إلى رفض الجماهير العربية للعَلمانية من داخل المجتمع وعُمقه، حتى أصبحت العلمانية ملازمةٌ للكفر!

محمد عمارة، يذهب إلى الاعتقاد أن مفهوم الدولة الدينية لا وجود لهُ في الإسلام، ويعتبر أن الإسلام “يقدّم في شؤون المجتمع وسياسة الدولة وأمور الدنيا – المصلحة على النصّ… ويؤمن بقانون التطوّر وبالتحديد في كل الميادين. كذلك، فإنّ انحياز الإسلام للعقل والعقلانية واضح، وأكيد وحاسم… ومشهور فالعقل هو الحاكم حتى في إطار النصوص”.

يدفع هذا القول الكثير من المتتبعين إلى التّساؤل: هل عمارة على دراية بتفوّق النقل على العقل في الخطاب الديني الإسلامي؟ وهل الإسلام فعلاً، كما نراه اليوم، يتضمّن هذه العناصر التي تحدّث عنها عمارة؟ ولكن…

يبدو أنّ هذا الفهم، الذي يقدمه عمارة، تمليه اعتبارات أيديولوجية أكثر مما تمليه الرغبة في الوصول إلى فضّ المكنون الجوهري لمفهوم العَلمانية. والدافعُ الأساسي لعمارة وغيره من الإسلامويين هو الحفاظ على مقولة إن الإسلام دين ودولة بحكم طبيعته. [1]

كان ضرورياً لهم أن يفترضوا أمرين، وفق الباحث عادل ظاهر: “الأوّل هو أنّ العلمانية، في جوهرها، رفض للدولة الثيوقراطية في الغرب المسيحي؛ والثاني هو أنّ الإسلام، بما هو دين ودولة، لا يحملُ في طياته مفهوم الدولة الثيوقراطية، ولا أي مكون من مكوناتها، بل العكس تماماً هو الصحيح”.

التّسليم بالرأيين يجعل الإسلام، بما هو دين ودولة، في مأمن تام من الدعوات العَلمانية.

في “حِلف” المُفكرين “الإسلامويين” أيضاً، يردُ إسم محمد يحيى، الذي يعتبرُ أنّ المطالبة بالعَلمانية، تأتي “بالكامل في سياق حركة التّغريب و”الأوربة” والاستعمار الثّقافي التي “يعاني منها الإسلام” منذ أكثر من قرن من الزمان والتي تعتمد أسلوب تصوير ومفاهيم أفكار الغرب على أنها مطلقة… ومن ثمّ فرض هذه المفاهيم دون مناقشة لها وإحلالها محلّ أي عقائد أخرى”.

… هذا الحلف ضخمٌ جدّا، وما جاءت حركات الإسلام السياسي إلا لتفضح أنّ التعامل “الإسلاموي” مع مفاهيم من قبيل العقلانية والعلمانية والحرية، يأتي على نحو فجّ، يحاول استفراغها من الأسس الفلسفية والمبررات النّظرية… فيؤدي إلى “مأساة” يكُون الشّعب والوطن والحداثة في النّهاية ضحاياها.

من المغالطات والتّحريفات التي تشيعُ عن العَلمانية، أنها دعوة غربية لنشر الرذيلة والإسفاف والانحلال الخلقي والفساد القيمي، وغيرها من المسكوكات التي أدّت إلى رفض الجماهير العربية للعَلمانية من داخل المجتمع وعُمقه، حتى أصبحت العلمانية ملازمةً للكفر!

“نحن في عالمنا العربي والإسلامي نحتاج إلى عملية تربية شاملة للعلمانية تنطلق من المدرسة الابتدائية، ووصولا إلى إقرارها في الدساتير؛ وحتى لا تكون العلمنة عملية فوقية كما حدث في تركيا، في حين تقع أسلمة المجتمع من قبل الإسلام السياسي”

تفاعلاً مع هذا الرّفض، أصبح البعض يستعمل مفهوم “الدولة المدنية” بدل “العَلمانية”، من باب الملاطفة وتجنّب الرفض الذي يخبو في الأذهان العربية.

بالعودة إلى الدّولة المدنية، نجد أنّها “دولة تحافظُ وتحمي كل أعضاء المجتمع بغضّ النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية”… [2] فتكون الدولة المدنية هي الوجه الآخر للعَلمانية في كُنهها!

العلمانية… في الفكر السّياسي العربي

حسم المفكّر عبد الله العروي هذا النّقاش باقتضاب شديد في حوار تلفزيوني قائلاً: السياسة ميدان المصالح والدين ميدان العقائد، لذلك لا ينبغي الجمعُ بين الاثنين.

من جهة أخرى، يميلُ المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز إلى رأي الفيلسوف سبينوزا فيما يخصّ العَلمانية. هذا الرأي يقول بإمكانية أن تحتكر الدولة الدين، وليس النظام السياسي.

بحسب هذا التّصور، تسهرُ الدولة على ضمان حق كل فرد في التدين والاعتقاد، وهو الرّأي الذي يعيدنا إلى حِيادية الدّولة؛ وإن كان لا يتحدّث بالضرورة عن ضرورة ضمان حق الأفراد في عدم التدين وفي حرية الاعتقاد!

يقول عادل سمارة: “لا يمكِن التفكير بمفهوم العلمانية وأسئلتها في الفكر السياسي العربي الإسلامي خارج إطار التفكير في الإشكالات النظرية والتاريخية التي صاغت هذا الفكر على مر تاريخه؛ والتي تطرحُ علاقة الديني بالسياسي، وعلاقة المقدّس بالتاريخ؛ فأيّ فكر سياسي يحتوي على قواعد وأصول صياغته، ويتطوّر ضمن آليات نظرية وتاريخية خاصّة”. [3]

في معالجته لقضايا “الدّين والدّولة”، ضمن مشرُوع “نقد العقل العربي”، اعتبر محمد عابد الجابري أنّ العَلمانية تعني فصل الكنيسة عن الدولة، وهذا في نظره غير موافق للواقع العربي الإسلامي، حيثُ يطرحُ بديلاً عنه يكمنُ في فكرة الدّيمقراطية، التي تحفظُ حقوق الأفراد والجماعات، والعقلانية التي تدلّ في رأيه على “الممارسة السياسية الرّشيدة”. [4]

جورج طرابيشي، الذي قضى وقتاً غزيراً في نقد مشروع الجابري، يعتبرُ أنّه لا ديمقراطية بدون علمانية، إذ إن العلمانية وحدها، من شأنها تحرير الأفراد من العقلية الدينية المتصلّبة أو الطائفية والعرقية، وذلك بغية أن يفكّر وينتخب اتكاءً على العقل حصراً.

أكثر من ذلك، يرى طرابيشي أنه لا يجب أن نقول: إنّ العلمانية ليست ثمرة برسم القطف، بل هي بذرة برسم الزرع، و”نحن في عالمنا العربي والإسلامي نحتاج إلى عملية تربية شاملة للعلمانية تنطلق من المدرسة الابتدائية، ووصولا إلى إقرارها في الدساتير”.

وحتى لا تكون العلمنة عملية فوقية كما حدث في تركيا، في حين تقع أسلمة المجتمع من قبل الإسلام السياسي، فإن طرابيشي يقترحُ أن تكون عملية العَلمنة شاملة، وهذا دون أن تكون معادية للتدين الذي يبقى أمرا شخصياً”. [5]

عملية العلمنة، في نظر طرابيشي، ستتيح للإسلام الفرصة حتى ينعتق من طوق التّسييس والأدلجة الذي يكبله به دعاة الإسلام السياسي، وبالتالي تعاد له روحانيته التي انتزعت منه بسبب عملية التّسييس.

لا يعني هذا أن العلمانية بالنسبة لطرابيشي هي أيديولوجيا، بل يعتبرها بمثابة البذرة التي من الممكن أن تقي المجتمعات العربية شرور الاقتتال الطائفي، كما يجري في العراق اليوم وباكستان وتركيا أيضاً، التي تحتوي على طائفة علوية كبيرة مرشّحة للاقتتال في أي لحظة.

كما يعتقد طرابيشي بأن “العلمانية -كما قلت في دراستي “العلمانية كجهادية دنيوية”- هي الخيار الوحيد للإنقاذ في عالم أقلعت جميع قاراته وأشباه قاراته، والعالم العربي إن لم يتقدم فهو مهدد بالانكفاء نحو قرون وسطى جديدة”.

من جهته، يميّز المفكّر الإسلاميّ محمد أركون، بين مفهومين: “العلمانية” و”العلمانوية”، ويذهبُ إلى رفض الثانية ووصفها بالمُغالاة، على اعتبار قيامها على معاداة الدّين بالأساس.

العلمانية، التي أنتجها عصر التنوير، كانت في بداياتها طاقة تحرّرية، ما لبثت أن تحوّلت إلى الثبات والرغبة في السلطة والهيمنة، وأخذت اتجاهات مصلحية ومادية لم يعد فيها مجال للأخلاق والروحانيات. [6]

حسم المفكّر عبد الله العروي هذا النّقاش باقتضاب شديد في حوار تلفزيوني قائلاً: السياسة ميدان المصالح والدين ميدان العقائد، لذلك لا ينبغي الجمعُ بين الاثنين.

لكنّ… عقل التنوير “راح بدوره يتجمّد في مرحلة لاحقة، وهذه عادةُ كل شيء ينتصرُ ويترسّخ. استنفد هذا العقل التحرري طاقاته الأخلاقية والروحية بسرعة، وتولى إلى عقل توسعي راغب في السلطة والهيمنة على الآخرين (تجربة الاستعمار)”.

كما تحوّل هذا العقل التّحرري إلى “عقل دوغمائي في فرنسَا بشكل خاص، إلى درجة أنّه ولّد ديناً علمانوياً كشف عن دوغمائية، وعجز عن استيعاب التعددية بعد مائتي سنة من التجارب الغنية والخصبة”. [7]

… تبقى هذه النقاشات الفكرية صحيةً، مادامت تمتّح من سجال “فلسفي”، ولم تمارس عداءً أُدْلُوجِيا تجاه المفاهيم، سيما مفهوم العَلمانية!

في الجزء الثالث والأخير، نرصد مفهوم العَلمانية في السياق المغربي.

هوامش:

[1] عادل ظاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، الطبعة الثانية 1998.

[2] أحمد زايد، ماذا تعني الدّولة المدنية؟.

[3] عادل سمارة، في الحداثة، ما بعدها، التفكير النقدي، فعل الاشتباك.

[4] عزيز العرباوي، العلمانية والدين، قراءة في علاقة التنافر والتجاذب، مجلة ذوات عدد 49، 2018.

[5] العلمانية مطلب إسلامي، حوار مع المفكر جورج طرابيشي، منشور بموقع المكتبة العامة.

[6] عزيز العرباوي، المرجع السابق.

[7] محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم، ترجمة هشام صالح، دار الطليعة بيروت.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *