من اليمن، حسين الوادعي يكتب: من “صحيح الدين” إلى “صحيح الدنيا”… لحظة العلمانية العربية - Marayana - مرايانا
×
×

من اليمن، حسين الوادعي يكتب: من “صحيح الدين” إلى “صحيح الدنيا”… لحظة العلمانية العربية

صار لدينا ما يشبه “فاتيكان إسلامي” مزدوج بمركزين دينيين- سياسيين، أولهما في الرياض يحرك حوله كل أوراق السنة ويحولها إلى سكاكين وقنابل، وثانيهما في طهران يلعب ويشعل أوراق وفتائل الأقليات الشيعية.

صار العالم الإسلامي يواجه نفس الحقيقة المرة التي واجهتها الكنيسة المسيحية في العصور الوسطى: لم يعد الدين قادرا على التوحيد الاجتماعي أو التنظيم السياسي، بل صار عامل فرقة وتنازع وفتيل حروب لا تنتهي.

شائع ذلك القول إن العلمانية نشأت إستجابة لصراع السلطة الدينية (الكنيسة) والسلطة الزمنية (الدولة) في أروبا العصور الوسطى. وتأسيسا عليه، خلص الكثيرون الى أن العلمانية إشكالية مستوردة لا تصلح إلا لسياقها التاريخي الأوربي الذي قاسى هذا الصراع.

لكن هذا غير صحيح.

نشأت العلمانية أساسا كحلٍ إجرائي للحروب المذهبية المسيحية (الكاثوليك والبروتستانت) التي هزت أوربا لأكثر من مائة وثلاثين عاما.

قسمت هذه الحروب “الإمبراطورية المسيحية” إلى دول تخضع إما للمذهب البروتستانتي أو للكنيسة الكاثوليكية. بل قسمت كل دولة إلى جماعات مقاتلة من المؤمنين الكاثوليك والمؤمنين البروتستانت.

ظهر المذهب البروتستانتي في البداية كمذهب إصلاحي احتجاجي على فساد الكنيسة الكاثوليكية وبيع صكوك الغفران. ولم تتسامح الكنيسة الكاثوليكية مع هذا الانشقاق، فقادت حربا تطهيرية ضد المتحولين وقامت بإبادة مدن بأكملها وممارسة القتل والحرق والتقطيع والتعذيب حتى الموت ضد كل خارج على “العقيدة الصحيحة”.

تحولت البروتستانتية نفسها مع الزمن إلى مذهب متعصب إقصائي، ولم يكن رد فعله اتجاه الكاثوليك مختلفا.

اذا كان الشرخ المذهبي ظاهرة متأخرة في الحياة المسيحية، إذ لم يظهر أول انشقاق ديني مسيحي مؤثر إلا بعد 1500 سنة من ظهورها، فإن الشرخ الإسلامي السني – الشيعي يعود إلى العصر الأول للإسلام بعد تبلور معسكري علي ومعاوية

حاولت الكنيسة إيجاد حل يوقف وحشية الصراع الديني، لكن الشرخ المذهبي كان أعمق من محاولات الالتئام.

كالعادة، ارتفعت الأصوات التي تعتقد أن الحل هو العودة الى “الدين الصحيح“. لكن المشكلة أن كل مذهب كان يرى نفسه التفسير الصحيح للمسيحية، ولم تؤد محاولات إيقاف الحرب بالعودة إلى صحيح الدين إلا إلى مجازر أكثر دموية.

واجهت الكنيسة الحقيقة المرة.

لم تعد المسيحية إطارا جامعا للناس بل فتيلا للفرقة والنزاع. فقدت المسيحية قدرتها على التوحيد الاجتماعي أو الانتظام السياسي، وكان لا بد من إطار جديد يلم شتات المجتمعات المدمرة بحروب المذاهب.

لم يكن هذا الإطار في الحقيقة إلا “العلمانية” بأبعادها التي تؤكد على الانتماء للوطن لا للدين، وحرية المعتقد والضمير واعتبار الدين شيئا شخصيا لا تديره الدولة.

هذا هو السياق التاريخي لنشأة وصعود الفكرة العلمانية. وهو سياق متطابق الشبه مع السياق الإسلامي الوسيط والحديث والمعاصر.

لم نعد نتحدث عن الإسلام في عمومه بل عن “الإسلام السني” أو “الاسلام الشيعي”. وصار الإخوان والسلفيون والطيف الإسلامي كاملا يموضع نفسه داخل المذهب لا داخل الدين؛ ويحاول أن يثبت ما أمكنه الإثبات أن إسلامه السني هو الأقدر على حماية الحريات والحقوق، أو أن إسلامه الشيعي هو الأقدر على بناء علاقات صحية مع الغرب ومع العصر.

وما أشبه ليلة المسلمين ببارحة المسيحيين!

فاذا كان الشرخ المذهبي ظاهرة متأخرة في الحياة المسيحية، إذ لم يظهر أول انشقاق ديني مسيحي مؤثر إلا بعد 1500 سنة من ظهورها، فإن الشرخ الإسلامي السني – الشيعي يعود إلى العصر الأول للإسلام بعد تبلور معسكري علي ومعاوية.

أما الحروب المذهبية والصراع الطائفي، فكان القاعدة وليس الاستثناء.

ينطبق هذا على الحروب بين السنة والشيعة أو الحرب بين مذاهب السنة نفسها. فإذا كان صلاح الدين شهيرا بحروبه ضد الصليبين، فإن حروبه الأوسع والأطول كانت ضد الشيعة. وظل الانقسام المذهبي حقيقة مرة وقاسية طوال تاريخ اليمن للألف عام الأخيرة.

حديثا، بدأ الشرخ المذهبي السني- الشيعي يظهر مع صعود المواجهات بين السنة والشيعة في عراق ما بعد صدام.

غذت إيران نزعة التشيع القتالي في العراق من الشرق، وغذت السعودية نزعة التسنن القتالي من الجنوب، وتحول العراق إلى ساحة لأول حرب مذهبية إسلامية في العصر الحديث.

ما بدأ في العراق توسع وانتشر.

حتى على المستوى الفكري، تراجع الطابع الأممي للطروحات الإسلامية لصالح الطرح الطائفي.

بدأ حزب الله في لبنان ابتلاع المجال العام وفرض أجندته السياسة بالقوة والتهديد على جميع القوى السياسية. وبسبب الطبيعة الطائفية للحزب الذي يعمل تحت مرجعية ولاية الفقية، بدأ الصراع يكتسب وجها طائفيا.

بلغ الشرخ السني- الشيعي عمقه بعد تحول الانتفاضة الشعبية في سوريا إلى حرب أهلية، ثم إلى حرب مذهبية بعد سيطرة السلفيات الجهادية على أغلب مناطق السنة في سوريا.

وما إن بلغت قوات داعش وجبهة النصرة حدود الطائفة العلوية في اللاذقية حتى أصبحت خطوط الحرب المذهبية مرسومة بالخطوط العريضة وباللون الأحمر القاني.

وما كان سقوط صنعاء في يد الحركة الحوثية ببعدها السلالي المذهبي، إلا فتيلا إضافيا اشتعل ليؤكد أن الشرخ المذهبي صار حقيقة لا سبيل لإنكارها.

حتى على المستوى الفكري، تراجع الطابع الأممي للطروحات الإسلامية لصالح الطرح الطائفي.

لم نعد نتحدث عن الإسلام في عمومه بل عن “الإسلام السني” أو “الاسلام الشيعي”. وصار الإخوان والسلفيون والطيف الإسلامي كاملا يموضع نفسه داخل المذهب لا داخل الدين؛ ويحاول أن يثبت ما أمكنه الإثبات أن إسلامه السني هو الأقدر على حماية الحريات والحقوق، أو أن إسلامه الشيعي هو الأقدر على بناء علاقات صحية مع الغرب ومع العصر.

ما أشبه ليلة المسلمين ببارحة المسيحيين!

بل صار لدينا ما يشبه “فاتيكان إسلامي” مزدوج بمركزين دينيين- سياسيين، أولهما في الرياض يحرك حوله كل أوراق السنة ويحولها إلى سكاكين وقنابل، وثانيهما في طهران يلعب ويشعل أوراق وفتائل الأقليات الشيعية.

صار العالم الإسلامي يواجه نفس الحقيقة المرة التي واجهتها الكنيسة المسيحية في العصور الوسطى: لم يعد الدين قادرا على التوحيد الاجتماعي أو التنظيم السياسي، بل صار عامل فرقة وتنازع وفتيل حروب لا تنتهي.

استوعبت أوروبا المسيحية بوضوح أن إيقاف الحروب المذهبية لن يكون بالعودة إلى “صحيح الدين” وإنما بتأسيس “صحيح الدنيا”.

ولن يكون بتطبيق الشريعة لأن الشريعة (القانون الديني) مذهبية بطبيعتها، وإنما بسيادة القانون المدني الذي يعامل الجميع على قدم المساواة.

ترجمت أوروبا هذا الدرس بالانتقال من رابطة الديانة إلى رابطة الوطنية وبتأسيس الدولة العلمانية والمجتمع العلماني والسياسة العلمانية.

صعود الإسلام السياسي والأصوليات المقاتلة وضعنا أمام لحظة الحقيقة.

لحظة العلمانية العربية أو حرب المائة عام…

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *