الإرث، التعصيب، تزويج الطفلات، التعدد، المساواة، حقوق الأطفال والنساء: عن ندوة “مراجعة مدونة الأسرة” التي نظمتها قيادات إسلامية في المغرب - Marayana - مرايانا
×
×

الإرث، التعصيب، تزويج الطفلات، التعدد، المساواة، حقوق الأطفال والنساء: عن ندوة “مراجعة مدونة الأسرة” التي نظمتها قيادات إسلامية في المغرب

كنا على يقين، حتى قبل تفريغ معطيات الفيديو الذي تضمن وقائع هذه الندوة، بأن طروحات القيادات الإسلامية حول المدونة، لن تختلف عما عهدنا سماعه على وسائط التواصل الاجتماعي أو في الصحف الموالية لهم: شخصنة فجة، مغالطات منطقية مكشوفة، والكثير من التهديد بالويل والثبور، لكل من تسول له نفسه الاقتراب من القطعيات.
القطعيات التي لم يتبق منها اليوم إلا النزر اليسير، بفعل تآكلها، جراء ضربات القوى الدولية، منذ مطلع القرن الماضي، حيث منعت تجارة الرقيق في السعودية، مرورا بتعطيل حدود مثل القتل أو الصلب أو قطع عضو أو أكثر من الجسم، والرجم وجلد “الزناة”، وحد مرتكبي جريرة قذف المحصنات، وحد الردة و”اللواط” وشرب الخمر…
نحن نتفهم طبعا سبب هذه الهستيريا التي تملكت الإسلاميين في الآونة الأخيرة، إلى الحد الذي هدد فيه بعض السلفيين المتطرفين بحرب أهلية دموية، إن تم المساس بالقطعيات؛ فموضوع المرأة والطفل هي آخر القلاع التي يحتمون بها، لتأبيد سيطرتهم على العقول والضمائر. فإن تلاشت هي أيضا، ستتلاشى معها سطوتهم إلى غير رجعة.

نظمت حركة التوحيد والإصلاح، بتاريخ 10 فبراير 2024، ندوة بعنوان: “مراجعة مدونة الأسرة، السياق والقضايا والمآلات“، شاركت فيها ثلة من القيادات الإسلامية في المغرب. وقد نشرت فعالية هذه الندوة كاملة، في فيديو، على البوابة الرسمية لجماعة العدل والإحسان، في اليوم الموالي.

المشاركون في الندوة هم:

رشيد العدوني: نائب رئيس حركة التوحيد والإصلاح ورئيس لجنة مراجعة مدونة الأسرة بها (للحركة)،

عبد العالي المسئول: عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان ورئيس اللجنة المشتركة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة بها.

بثينة قروري: رئيسة منتدى الزهراء للمرأة المغربية.

نبيل صبحي: عضو المكتب التنفيذي للحركة من أجل الأمة.

حسن الكتاني: رئيس رابطة علماء المغرب العربي

وقد أدار الندوة، عبد الرحيم شيخي، الرئيس السابق للحركة.

يمكننا اعتبار التنظيمات التي ينتمي إليها المشاركون في الندوة، عينة دالة على التوجه السياسي الإسلامي، الذي يصر على وضع عصى الدين في عجلة السياسة، والتمترس خلف شعارات الواضح من الدين بالضرورة، والقطعيات التي لا مجال فيها للنقاش، كلما داهمهم استحقاق يرمي إلى إعادة النظر في مجال من المجالات التي يعتقدون أن القول والقرار فيها، حكر عليهم دون غيرهم.

كان ينقصنا فقط ممثل عن حزب العدالة والتنمية، كي “تكتمل الولائم”. لكن، يبدو أن عبد الإله بنكيران ارتأى التغريد خارج سربه الأصلي، هذه المرة، حتى ولو كانت النغمة هي نفسها.

في هذا هذا المقال، سننقدم عرضا موجزا لأهم الطروحات المنبثقة عن تصورات المشاركين، باعتبارهم ممثلين لفصائل إسلامية بالأساس، لاستجلاء المرتكزات التي تحكم تصوراتهم ومواقفهم، من النقاش الدائر حاليا، والتي تمخضت عنها جملة اقتراحات لتعديل مدونة الأسرة، تعميما للفائدة، قبل مناقشتها. على أن ندع جانبا، كل الاقتراحات ذات الطابع التقني، لتطابقها، أو على الأقل، لتشابهها مع باقي الإجراءات المقترحة من قبل مختلف الفعاليات السياسية والجمعوية.

انطلقت الندوة بقراءة آيات من الذكر الحكيم، وهي إشارة متعمدة إلى الخلفية الإيديولوجية التي تميز الإسلاميين عن غيرهم، قبل أن يعمد مدير الندوة، في كلمته التقديمية، إلى حشر القضية الفلسطينية حشرا، في موضوع ذي بعد وطني، حصريا.

بعد توطئة موجزة لموضوع الندوة، طرحت على المشاركين الأسئلة التالية:

– سؤال حول سياق مراجعة المدونة

توافق متدخلان، في المجمل، على أن هناك سياقا دوليا وسياقا محليا. السياق الدولي يتجلى في الضغوط الخارجية المتمثلة في “تيار نسوي شمولي يتحكم في مواقع القرار”، بغرض فرض نموذج معين للأسرة، ومراجعة التشريعات المحلية لمجموعة من الدول، ومن بينها المغرب، كي تتطابق مع النموذج المملى عليها.

أما السياق المحلي، فيتجلى في التدافع بين منظورين (والمقصود طبعا، الحداثيون والأصوليون) “بعدما آل النموذج الغربي للأسرة إلى الفشل ولتوترات اجتماعية وثقافية وقيمية في هذه المجتمعات الغربية”.

ممثلو التيار الحداثي، عبارة عن مجموعة تيارات يراها أحد المتدخلين كوكلاء لهذا التيار، يسعون “إلى تغيير نظام الأسرة، الذي ينبني على مجموعة من القطعيات في الشريعة الإسلامية، تحت مسمى أنه يتوافق مع المواثيق الدولية”.

داخليا دائما، فالاختلالات التي اعتورت المدونة الحالية، أفضت إلى ضرورة المراجعة، كما دعت إلى ذلك أيضا توصيات لهيئات رسمية.

سؤال حول المرجعية (هل الدستور أم الثوابت الجامعة أم الدين الإسلامي السمح، أم المواثيق الدولية…)

حيث تم التركيز على أن “هناك آيات قرآنية فصلت في كل ما يتعلق بالأسرة تفصيلا دقيقا. وحين يقول الله: “تلك حدود الله” فمعناه أنها أمور من القطعيات التي لا ينبغي المساس بها”. هذه القطعيات هي بمثابة مرادف للنظام العام في لغة القانون، “لا يمكن أن نشرع فيها ونعدل”. لكن. في الشريعة الإسلامية، هناك جملة متغيرات، يمكن للعلماء الاجتهاد فيها، “لأن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان”. والمقصود طبعا بالعلماء. أولئك الذين لهم الحق في الاجتهاد، الفقهاء.

في الجانب الآخر، من يستندون على مرجعية الاتفاقيات الدولية، تحكمهم خلفية ثقافية “متأثرة بالغرب”، حيث “العلاقات الشخصية للأفراد، صار ينظمها الأفراد بعد القضاء على سلطة الكنيسة”. ومع ذلك، فإن “الاتفاقيات الدولية ليست كلها شرا، والإسلام كانت له مساهمة كبيرة في إرساء منظومة حقوق الإنسان. ففي المرجعية الدولية ما يمس بخصوصيتنا، وفي اتفاقية جنيف ما يسمح بالتحفظ على كل ما يمس بالخصوصية”.

إذا لم تحترم خصوصيتنا، يشرح أحد المتدخلين، فإن المواثيق الدولية ستنتقل “إلى مرحلة الحديث عن المثلية، حتى يصبح أمر المثلية معتادا”.

لذلك، يضيف المتدخل، “يجب أن نفكر في موضوع الأسرة بعيدا عن هذه الضغوطات والمواثيق الدولية. نحن مع المواثيق الدولية، ما لم تتعارض مع شرع الله تعالى، وما لم تخالف الفطرة”.

سؤال: حول المذهب المالكي في موضوع الاجتهاد

التيار العلماني المرتهن للاستعمار سابقا وللغرب حاليا، حسبما يومئ إليه المتدخل، استطاع “أن يقحم العديد من الأمور التي كان العلماء وخاصة رجال ووجوه الحركة الإسلامية غير راضين عنها، (..) إلا أنه بعد تفجيرات 16 ماي، مررت الكثير من الأمور… استغل ذلك الجو الذي أرهب فيه أهل الدين، فقررت مسائل وسكت الناس عنها اضطرارا”.

الآن، يتابع المتدخل، “ما يراد تغييره أكبر بكثير مما غير”، علما بأن ما نتج عن التعديلات الأخيرة هو “اتساع باب الطلاق، اتساع انهيارات في الأسرة وما إلى ذلك. هذه حلقة من حلقات محاربة الشريعة الإسلامية”؛ علما بأننا نحن المغاربة “لدينا مذهب (المذهب المالكي) استطاع أن ينظم حياتنا، لمدة أكثر من ألف عام، وهو من أوسع المذاهب وأغناها في الأصول والقواعد “. لذلك فنحن لا نحتاج إلا إلى “قضاة علماء ومتدربين يستطيعون أن يستخرجوا من تلك الموسوعات الضخمة أحكاما تتناسق وتتواكب مع العصر”. لكن، “حيث إن لدينا ضغوطا دولية، وحيث إن لدينا تيارات علمانية حداثية تضغط، فنحن يجب أن نتكاثف لنقف في وجه هذه التيارات”.

أسئلة تفصيلية

بعد أن تطرق مدير الندوة إلى جواب المجلس العلمي الأعلى عن استفتاء الملك حول المصلحة المرسلة في علاقتها بقضايا تدبير الشأن العام، بتاريخ 23 أكتوبر 2005، المنشور على موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (هذا رابطها، لكل غاية مفيدة: https://tinyurl.com/mrn8c5s6)، انتقل إلى الأسئلة التفصيلية، والتي جاءت على الشكل التالي:

سؤال حول تبسيط مسطرة الزواج

حيث دعا المتدخلون إلى تيسير بعض الشروط الإدارية، كحذف إصدار الإذن بالزواج خاصة بالنسبة لزواج الراشدين، والإبقاء عليه في الحالات الخاصة: التعدد، الزواج دون سن الأهلية، الزواج المختلط وزواج المصابين بإعاقة ذهنية.

سؤال حول سن الأهلية لتزويج الفتيات:

حيث تم التأكيد على أن “من المغالطات التي تقال، أن هؤلاء الطفلات، يتم الاعتداء على حقهن في التمدرس، وأن الزواج يفرض عليهن، وأن الطفلات يتم استغلالهن في التعدد”. غير أن هناك دراسة تفيد بأن “80 % من الزيجات، فوق 17 سنة” وبأن “76 % هن منقطعات عن الدراسة، منهن تقريبا 70 % انقطعن في مستوى الابتدائي، إما بسبب عدم وجود مدارس أو لانعدام النقل أو الإمكانيات”.

بناء على ذلك، تقترح حركة التوحيد والإصلاح “رفع سن الزواج إلى 15 سنة”. والمبرر هو أننا، إذا “ألغينا استثناء السن، سنعاقب هذه الفئة عقابا مزدوجا: نحرمها من التمدرس ونحرمها من الزواج. ويمكن أن ندفعها إلى أمور وإلى إشكالات أخرى كثيرة”.

رئيسة منتدى الزهراء للمرأة المغربية، دعت بدورها إلى اعتبار سن 16 كحد أدنى، وهي نفس السن الذي اقترحها عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، “لأنها سن المسؤولية الجنائية”، متسائلا عن “المانع من “تزويج فتاة في عمر 15 أو 16 إو 17 سنة، إذا رأينا أنها ستقع في مشكل، إلا إذا كنا نبحث عن “الخروج على الطريق”. لا مانع من زواج القاصر بإذن القاضي الذي سيستمع إليها، ونستحضر شروطا منها النضج الجسدي والعقلي للقاصر”.

ممثل الحركة من أجل الأمة لم يقترح سنا أدنى لتزويج القاصر، واكتفى بإبداء رأيه في الموضوع في نقطتين:

– “إذا ألغينا ما يسمى بزواج القاصر، فسنفتح المجال للزواج غير الموثق”؛ مما يدفع إلى التساؤل عن العلاقة المنطقية بين طرفي هذه المعادلة العجيبة.

– “البنية الجسدية للشباب تختلف من منطقة لأخرى، فمسألة سن الزواج يجب أن تبقى مفتوحة”.

أخيرا، يلاحظ رئيس رابطة علماء المغرب العربي بدوره، أنهم (الحداثيون) “يرفعون سن الزواج ويخفضون سن العلاقات الرضائية”، وبسبب ذلك، يضيف: “في الغرب، ابتعد الناس عن الزواج لتعقده، وأصبحوا يعيشون كالحيوانات”.

سؤال حول تعدد الزوجات

صرحت  رئيسة منتدى الزهراء للمرأة المغربية بخصوص التعدد، بأن الإحصائيات تقول إن “نسبة التعدد هي 0,61 %” وتساءلت: “لماذا نحدده إذا كان منخضا؟” إلم تكن “الخلفية هنا إيديولوجية”.

عضو الحركة من أجل الأمة أكد بدوره أن “هناك حالات لا يمكن التصريح فيها بالأسباب الحقيقية الداعية للتعدد، وبالتالي يجب تعميق البحث فيها”.

سؤال حول ثبوت النسب

اكتفى مدير الندوة بالتذكير بأنه “في الشرع، توجد أقوى الأدلة على أن ابن الزنا لا يلحق بأبيه غير الشرعي” مقترحا “تجريم الزنا”. هكذا، يستطرد، فالأب “الذي خرج الولد من صلبه بواسطة الزنا، يمكن أن يبرم له عقد كفالة” إذ أن “الأساسي عندنا هو ألا يدخل في النسب، لأن في هذا إشكالا” (لم يشرح ما هو) والدولة “عليها رعاية الأولاد غير الشرعيين”.

سؤال بخصوص منظومة الإرث

حيث يؤكد رئيس رابطة علماء المغرب العربي أن “الإسلام لم يظلم المرأة بحال من الأحوال. لا يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر” وأن “من يستنكرون التعصيب جهال، لا يعرفون الأحكام الشرعية، لكن أوعزت إليهم من طرف من درس الفقه الإسلامي، ثم نكص على عقبيه”.

كما يؤكد على أن “أبواب الميراث، غالبها  موجود في القرآن، وفي آخر كل آية: “فريضة من الله”، “وصية من الله”. معناه أن هذا الأمر، لا مجال فيه للاجتهاد”. وأن الخلافات بين أغلب المذاهب الفقهية في الميراث “طفيفة جدا”. ثم يخلص إلى أن “من يزعمون أن قانون الميراث ظلم المرأة يضخمون الصور، والواقع أنها صور نادرة في المجتمع، وقلما تحدث،  فالعم يأتيه نصيب صغير وهو يهتم بأبناء أخيه” ثم علق أخيرا: “مشكلة هؤلاء (الحداثيون) أنهم يعيشون في باريس وفي أمريكا وغيرها مع أننا نحن الآن في الرباط”.

كانت هذه أهم المداخلات التي يعنينا الرد عليها، بما أمكن من إيجاز، إسهاما في الحوار الدائر اليوم حول مدونة الأسرة، على أمل تطوير المكتسبات في هذا الشأن، والإرساء لتقليد الحوار المتحضر، أيا كانت النتائج التي ستتمخض عنها المدونة في شكلها النهائي، بعد صدورها على العلن.

بخصوص المرجعية، فبداية القصيدة كانت كفرا، حيث استُعملت مغالطة تسميم البئر، أي اتهام الحداثيين بالارتهان للغرب، بغرض نزع كل مشروعية عن كل ما سيقولونه أو يطالبون به لاحقا، وتصويرهم كإمعات لا مشروع ولاتصور لديهم، إلا ما يوعز به الغرب إليهم. فهم إذ يطالبون بالعدل والإنصاف للمرأة والطفل، فليس هاجسهم أبدا رفع الظلم الواقع عليهما، بل فقط الارتهان إلى أجندات خارجية، ومن يدري، فقد تكون هناك جهة ما، تدفع لهم بسخاء، مقابل تغريب الناس عن واقعهم “المثالي”.

نفس المغالطة تستمر، حين يتحدثون عن التدافع بين الحداثيين والأصوليين محليا، إذ يؤكدون بأن النموذج الغربي باء بالفشل، وأفضى إلى توترات اجتماعية وثقافية وقيمية، يفترض أن يكون الحداثيون قد أخذوا العبرة منها، وعادوا إلى رشدهم، والعود أحمد.

لا يسعنا، في الحقيقة، إلا أن نهنئ هؤلاء على سعة خيالهم وجموحه. فما رأيناه وما زلنا نراه، هو أن المرأة تتمتع بكامل حقوقها، وأن الاستقرار والسلم الاجتماعي، صارا عنوانا قارا للغرب.

ربما يقصدون بالتوترات، الأوضاع التي يعيشها االمسلم المهاجر إلى تلك الديار، حيث يصطدم بواقع لم يكن يتصوره في أسوء كوابيسه، حين يرى زوجته تسجنه لأنه عنفها، ويرى المصالح الاجتماعية للبلد المضيف تسحب منه أبناءه، لأنه ليس كفؤا لتربيتهم.

بخصوص سؤال المرجعية، لنا أن نتساءل: إذا كان القرآن قد فصل في كل شيء، فلماذا ظلت هناك متغيرات يجتهد فيها “العلماء” ويختلفون؟ أبرز مثال على ذلك، هو أنهم، بعد قرون من الاجتهاد، مازالوا لم يتوصلوا لاتفاق بخصوص الحد الفاصل بين القطعيات والمتغيرات.

لذلك، تراهم يشهرون في وجه الحداثيين باستمرار، راية الخصوصية. الخصوصية المتوحشة، البعبع الذي ظل لعقود يرعب اليسار المخصي، ويثنيه عن المطالبة بعلمنة الدولة، بل حتى عن المطالبة بإصدار تشريعات ولو جزئية، تضمن حقوق المرأة في حدودها الدنيا، بمبرر أن الخلاف مع الإسلاميين ثانوي، ولا ينبغي أن يحجب عنا معالم المعركة الرئيسية، معركة الخبز.

الخصوصية المتوحشة، التي ترانا ككائنات فضائية منعزلة، لا تحس بنفس ألم الآخرين، ولا تفرح كما يفرحون. لا يؤذيهم الظلم ولا يتوقون للعدل كباقي البشر.

إذا لم تحترم هذه الخصوصية، وإذا طبقنا المواثيق الدولية دون تحفظ، يقول أحد المتدخلين، فسيصبح أمر الحديث عن المثلية، شيئا معتادا. هذه مغالطة يطلق عليها المناطقة إسم “المنحدر الزلق”، ومؤداها القفز من مقدمة ما، إلى نتائج كارثية، لا تتمخض بالضرورة عن تلك المقدمة. سيما وأن المقصود هو تخويف الناس البسطاء من أن يتحول كل أبنائهم الذكور إلى مثليين، وقد ينقطع نسلنا وننقرض، لا قدر الله، إن هم انقادوا إلى ما يوسوس لهم به الغرب المنحل وأزلامه بالداخل.

واضح أن الهدف، في النهاية، هو حمل الناس على الربط الآلي بين الحرية والعدالة وبين الخروج عن “القيم الفضلى”.

ثم يستدركون، بعد أن يكونوا قد دسوا السم في العسل:”نحن مع المواثيق الدولية، ما لم تتعارض مع شرع الله تعالى، وما لم تخالف الفطرة”.

التذرع بشرع الله، يعني للإسلاميين، الإبقاء على شرائع سنت منذ أكثر من اثني عشر قرن، ويراد لها أن تستمر إلى ما لا نهاية، في التحكم في حيوات الناس، بصرف النظر عن عدم ملائمتها لأوضاعهم اليوم.

السدنة لا يهمهم لا سعادة ولا شقاء “الرعية”. وأخوف ما يخافونه هو أن تنهار آخر القلاع التي يتمترسون خلفها: قلعة الأحوال الشخصية. فبعد تخفف القانون المغربي من الشرع في الكثير من أحكامه، ظلت مدونة الأسرة متأرجحة بين الشرعي والوضعي. ولأن هناك من يطالب اليوم بالإبعاد الكلي للشريعة المتكلسة عن القانون وعن حيوات الناس، تراهم الآن يتحسسون امتيازاتهم وأحلامهم البائدة، ويستأخرون يوم خروجهم من دائرة التحكم في عقول المؤمنين وضمائرهم.

يقصر أحد المتدخلين التفكير في موضوع الأسرة على الاجتهاد (اجتهاد الفقهاء طبعا) ولأنه ينتبه إلى أن في هذا الكلام إقصاء لجميع الفاعلين الآخرين، يستدرك: ” نحن نتحدث عن الاجتهاد الذي يحضر فيه الفقيه والطبيب والمهندس وعالم الاجتماع وعالم النفس…”.

ونحن نود أن نفهم: في ماذا سيجتهد الطبيب وعالم الاجتماع وغيرهم؟ هل لهؤلاء ما يكفي من العلم الشرعي لكل يجتهدوا، أم أنهم سيمتحون من آخر ما وصلت إليه البشرية من اكتشافات ومن نظريات انبثقت في المختبرات والمراصد العلمية الغربية الكافرة؟

المقصود، في نظري المتواضع، أنهم يريدون اجتهادا على المقاس: أن يدلي العلماء (الحقيقيون) بآرائهم واقتراحاتهم، على أن تكون لهم هم، الكلمة الفصل، في ما يجب أن أن يُعتد به، وما ينبغي أن تذروه الرياح.

جوابا عن سؤال الاجتهاد في المذهب المالكي، أومأ المتدخل إلى أن الدولة هي التي دبرت أحداث 16 ماي 2003 بغرض إرهاب رجال الدين، وحملهم على الصمت، من أجل تمرير إصلاحات 2004، التي كان من سوءاتها، بالنسبة لهم، اتساع دائرة الطلاق.

استنطاق الإحصائيات المبثورة من سياقها، لعبة سمجة، يمكننا أن تستدل بها على ما شئنا من خلاصات. إذ المفروض هو أن تكون مجمل حالات الطلاق، موضوعا لبحث سوسيولوجي معمق، لاستكناه الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الوضع. هذا دون أن نتحدث عن الأخطاء التي شابت الإحصاء نفسه، بسبب غياب الرقمنة، منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم (أنظر مثلا: https://tinyurl.com/57k3vkvf)

بخصوص سن الأهلية لزواج البنات، لن ندخل في التفاصيل الإحصائية المتشعبة، لأن المشكل لا يخص التطبيق بقدر ما يتعلق بالنص التشريعي الشاهر سيفه دوما على رقاب الطفلات.

ليس هناك نص تشريعي في الإسلام ينص صراحة على شروط الأهلية اللازم توفرها في الفتاة المقبلة على الزواج. لا يوجد، لا في القرآن ولا في السنة، ما يحدد السن الدنيا لزواج البنت، ولا أية شروط أخرى. والدعاة الذين يدعون أن الحيض شرط، يكذبون دون أن يرف لهم جفن.

بالمقابل، هناك نصوص فقية كثيرة، تفيد بأن الأب له أن يزوج ابنته في المهد. على أن يكون الدخول متى ما أضحت الطفلة قادرة على الوطء، وهذا ما جعل ممثلي الهيئات المشاركة في الندوة، يختلفون حول سن مرجعية لتزويج القاصر؛ فقد امتدت الاقتراحات من 15 إلى 17 سنة. وتقهقرت عند غيرهم إلى 14 سنة.

وحين يدعون أن ظاهرة تزويج القاصرات، دون سن 17 سنة، لا تتجاز الخمس، فليس معنى هذا أن الشريعة هي التي أفضت لهذا الوضع.

بمعنى آخر، ألا يزوج الآباء، في المغرب، بناتهم وهن رضيعات، فليس معناه أن الشريعة شيء جيد. هذا يعني فقط، أن الآباء ينطلقون في ذلك، من حسهم الإنساني السليم.

باسم هذا الحس السليم نسألهم: من منكم يزوج بناته في سن 15؟

ذهب أحد المتدخلين إلى أننا “إذا ألغينا استثناء السن، فسنحرم الصغيرات من حقهم في الدراسة، ومن حقهم في الزواج”! نعم، إذا فاتت القاصر فرصة التعليم، فالحل ليس في أي من البدائل الممكنة، غير الزواج من شيخ يستبيح جسدها بقية العمر (إلم يرمها وأطفالها إلى الشارع). وإلا، يومئ الشيخ، فدور الدعارة فقط، هي من ستقبل بها. نفس المغالطة السابقة: المأزق المفتعل.

وقال أحدهم: “البنية الجسدية للشباب تختلف من منطقة لأخرى”. لهذا، “فمسألة سن الزواج يجب أن تبقى مفتوحة”. وهذا من أقدم وأغرب الميررات التي يقدمها الإسلاميون لتسويغ زواج القاصر، لسببين: أولهما أن لا وجود لأي تفاوت في البنيات الجسدية للشباب على أساس الانتماء الجغرافي. ثانيهما، أنه، حتى لو افترضنا صحة هذا الادعاء، فإن النضج الجسدي لا يعني النضج العقلي والسلوكي بأي حال. إلا إذا كانوا يعتبرون المرأة بهيمة، تركب حالما تطيق ذلك.

ذهب رئيس رابطة علماء المغرب العربي بدوره، إلى أنهم (الحداثيون) “يرفعون سن الزواج ويخفضون سن العلاقات الرضائية”، وبسبب ذلك، يضيف، “في الغرب ابتعد الناس عن الزواج لتعقده، وأصبحوا يعيشون كالحيوانات”.

وهذا  كذب صراح! إذ، على حد علمنا، لم يدع أحد لخفض سن العلاقات الرضائية، لسبب بسيط، هو أنها علاقات تتم بالتراضي، ولا أحد يتدخل ليفرض على طرفيها أية حدود، من أي نوع كان.

صدق من قال: إذا كنت تكذب دفاعا عن قضية ما، فاعلم أن قضيتك هي الكاذبة.

بخصوص التعدد، قيل بأن الإحصائيات تقول إن “نسبة التعدد هي 0,61 %”، فلماذا نحدده إذن، إذا كان منخضا، إلم تكن “الخلفية هنا إيديولوجية؟”.

مرة أخرى، كون المغاربة لا يلجؤون إلى التعدد في غالبيتهم، لا يلغي النص المشرع لتعدد الزوجات، ولا يجعله أمرا جيدا أو مستساغا أخلاقيا. والأسوء أن تدافع امرأة، بكل ما أوتيت من قوة، عن نمط من الزواج، يهينها شخصيا قبل أن يهين بنات جنسها. هذا بالضبط ما نسميه “متلازمة ستوكهولم”. الإيديولوجيا، في أحد تعاريفها، هي الاستلاب، هي الانفصال التام للناس عن واقعهم.

ادعى أحدهم أن هناك حالات للتعدد، لا يمكن التصريح فيها بأسباب التعدد. والواقع أننا لا نعرف من الأسباب، غير المرض، سوى ادعاءات الفحولة الخرافية، أو الرغبة في تغيير رفيقة الدرب العجوز.

فيما يتعلق بثبوت النسب، فالإسلاميون لا تعنيهم المآسي التي سيعيشها “ابن الزنا” بسبب عدم إلحاقه بأبيه البيولوجي (ندعوكم هنا لقراءة ملف مرايانا: الأطفال المتخلى عنهم في المغرب: حين يصبح الحب جريمة بأرقام مرعبة). كل ما يهمهم  هو ألا تختلط الأنساب، عملا بأحاديث مثل “كُفر بامرئ، ادعاء نسب لا يعرفه أو جحده، وإن دق”. علما بأن فكرة نقاء الأنساب، عبارة حن خرافة افتراها النسابون القدامى، وأثبت العلم تهافتها.

الكفالة من أقوى الأدلة على شذوذ الفكرة من الأصل. فبعد أن نحرم صبيا بريئا من أهم حقوقه (الإلحاق بالنسب، والإرث)، نتحايل على الشرع كي نجد للمأزق مخرجا: نبرم له عقد كفالة، ثم تتكفل الدولة به، وكفى الله المؤمنين القتال.

هل يجهل هؤلاء أن مفهوم الزنا بمدلوله الديني، وتشدد الدولة سابقا، في التعاطي مع ظاهرة التخلي عن الأطفال غير الشرعيين، هما السببان الرئيسيان لتصاعد أعدادهم؟

أما بخصوص ثبوت النسب، فلم يعلق أحد من المتدخلين على المطالبة باعتماد تحليل الحمض النووي لإثبات النسب، كما لم يعلق أحد على حديث “الولد للفراش، وللعاهر الحجر“. فالموضوع غاية في الإحراج، لأنهم إن اعترفوا بتحليل الحمض النووي، فسيكون لزاما عليهم رمي حديث صحيح في أقرب سلة مهملات.

بخصوص منظومة الإرث، أكد رئيس رابطة علماء المغرب العربي أن “من يستنكرون التعصيب جهال، لا يعرفون الأحكام الشرعية، لكن أوعزت إليهم من طرف من درس الفقه الإسلامي، ثم نكص على عقبيه”.

شخصنة مقيتة وتصفية حسابات مع رفيق الدرب القديم، مستشار وزير العدل، في شأن المدونة تحديدا (يا للمصادفة!)، حيث شبهه بالشيطان، باستعمال تعبير “نكص على عقبيه”.

ننبه الرجل فقط، إلى أن الولوج للمعلومة، سواء تعلقت بالتعصيب أو بغيره، لم يعد مستعصيا كما كان عليه الأمر قبل الغزوة المباركة للإنترنيت لحيواتنا. اليوم، صار كل من يتقن اللغة العربية قادرا على أن يبحث بنفسه، في أمهات الكتب، المقدسة لدى الشيخ، بمجرد نقرة زر.

ناهيك عن كون هذا التصريح اعترافا صريحا بأن الشيوخ كانوا يخفون عن العوام، أشياء عن دينهم، إن تبد لهم تسؤهم.

يناقض الشيخ نفسه أيضا، حين يؤكد بأن الإرث في الإسلام فريضة متكاملة وقطعية، لا اجتهاد فيها، وفي نفس الوقت، يدفع بأن الخلافات بين المذاهب طفيفة جدا.

إن كانت الفريضة متكاملة ودقيقة إلى الحد الذي يوهمنا به الشيخ، ففيم يختلف الفقهاء والمذاهب إذن؟ الشيخ يعرف تماما بأن الإرث الإسلامي في موضوع المواريث تعتوره الكثير من النقائص، وفيه الكثير من الأخطاء الحسابية البدائية. لا أدل على ذلك، مثلا، من مسألة العول، التي سنها عمر، وأنكرها ابن عباس، قبل العودة إليها لاحقا. (أنظر مثلا: حمع الجوامع للسيوطي).

بعد هذه المراوغات المكشوفة، يخلص المتدخل إلى أن “من يزعمون أن قانون الميراث ظلم المرأة، يضخمون الصور، والواقع أنها صور نادرة في المجتمع، وقلما تحدث، فالعم يأتيه نصيب صغير وهو يهتم بأبناء أخيه”.

حتى إن سايرنا الشيخ، وافترضنا أن صور ظلم المرأة في المجتمع نادرة، فهل هذا يلغي كونه ظلما؟ وهل ندرته دليل على عدم أهمية الموضوع؟ الظلم، سواء ضخمناه أو قزمناه، يبقى ظلما.

ثم، ما هي الضمانة على أن العم سيهتم بأبناء أخيه؟ هل هناك في كل النصوص الشرعية، المكدسة على رفوف المكتبات، ما يلزمه بذلك؟

المجتمع المغربي يحبل بالعديد من الحالات التي خرجت فيها بنات الأخ صفر اليدين من ميرات أبيهن، وذقن شتى صنوف العذاب في سبيل استرجاع ولو جزء يسير من حقهن، دون أن يفلحن.

أخيرا، يعود الشيخ للشخصنة، ديدنه المفضل، ويعلق: “مشكلة هؤلاء (الحداثيون) أنهم يعيشون في باريس وفي أمريكا وغيرها مع أننا نحن الآن في الرباط”.

كنا نفترض أن الشيخ سيتحلى ولو بالقليل من الحصافة، ويبتعد قليلا عن الشخصنة والكذب، لتفادي الإحراج الذي تسببه له الشريعة البدائية التي يدافع عنها. لكن الشيخ أصر على أن الأصبع التي تشير إلى موطن الداء، يتبغي أن تقطع.

حتى على افتراض وجود مغاربة في المهجر، يهتمون بشؤون المرأة في بلد المنشإ، أفليس من حقهم الإدلاء برأيهم في أحوال أهلهم؟ هل يعتبر بعد المسافة، في زمن التواصل الفوري اليوم، سببا كافيا للجم الناس عن الاهتمام بالموضوع؟

كم إسلاميا يعيش فقط بجسده فوق هذه الأرض، بينما رأسه مشدودة شدا إلى واقع، بيننا وبينه آلاف الأميال ومئات القرون؟

كنا على يقين، حتى قبل تفريغ معطيات الفيديو الذي تضمن وقائع هذه الندوة، بأن طروحات القيادات الإسلامية حول المدونة، لن تختلف عما عهدنا سماعه على وسائط التواصل الاجتماعي أو في الصحف الموالية لهم: شخصنة فجة، مغالطات منطقية مكشوفة، والكثير من التهديد بالويل والثبور، لكل من تسول له نفسه الاقتراب من القطعيات.

القطعيات التي لم يتبق منها اليوم إلا النزر اليسير، بفعل تآكلها، جراء ضربات القوى الدولية، منذ مطلع القرن الماضي، حيث منعت تجارة الرقيق في السعودية، مرورا بتعطيل حدود مثل القتل أو الصلب أو قطع عضو أو أكثر من الجسم، والرجم وجلد “الزناة”، وحد مرتكبي جريرة قذف المحصنات، وحد الردة و”اللواط” وشرب الخمر…

نحن نتفهم طبعا سبب هذه الهستيريا التي تملكت الإسلاميين في الآونة الأخيرة، إلى الحد الذي هدد فيه بعض السلفيين المتطرفين بحرب أهلية دموية، إن تم المساس بالقطعيات؛ فموضوع المرأة والطفل هي آخر القلاع التي يحتمون بها، لتأبيد سيطرتهم على العقول والضمائر. فإن تلاشت هي أيضا، ستتلاشى معها سطوتهم إلى غير رجعة.

لذلك، تراهم اليوم يجيشون ويهددون بمسيرات “مليونية”، كما فعل عرابهم بنكيران الذي هدد وتوعد، وأرعد وأزبد، في محاولة لإعادة التموقع داخل المشهد السياسي الذي لفظه كجورب رث.

لكن، قريبا، سيعرض مشروع إصلاح المدونة على البرلمان، وسيتم إقراره والشروع في تطبيقه، وسيبتلع كل هؤلاء ألسنتهم. بل سيبسملون ويحمدلون، قبل أن يُخرجوا لنا من كتبهم الصفراء ألف مبرر ديني، يسوغ الإجراءات الجديدة، بل ويحولها، بقدرة قادر، إلى تعاليم من صميم الدين. ومنهم من سيدعي بأن التعديلات الجديدة هي عين ما كانوا يطالبون به.

… في انتظار فرصة أخرى يخرجون فيها، فقط ليذكروننا بأنهم ما زالوا هنا.

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *