من مصر، منى حلمي: محاربة الأم التاريخية الخبيثة والميثاق العالمي لحقوق الإنسان - Marayana - مرايانا
×
×

من مصر، منى حلمي: محاربة الأم التاريخية الخبيثة والميثاق العالمي لحقوق الإنسان

لا تحرر حقيقيٌّ للنساء والرجال والمجتمع، إلا إذا تمت إزالة ومسح وشطب وحرق كلمة “الطاعة” من الأبجدية الحياتية التي نستخدمها.

كلمات كثيرة مازالت تخنق أنفاسنا، تكبل خطواتنا، تغسل عقولنا بالأشياء العطبة، وتغلف قلوبنا بالعواطف الفاسدة.

كلمات ندعمها بعدم الوعي واللامبالاة واستسهال الانقياد وراء المألوف والسائد والمعتاد، المستأثر بالمديح والتصفيق والجوائز.

كلمات تضيع قوتنا الكامنة، تهدر إيجابيات مرت فى تاريخنا، تصور لنا الظلام نورا، والعدالة رجسا من عمل الشيطان، والجمال فسقا وفجورا.

كلمات خبيثة تضع السموم فى العسل، وتكمم أفواهنا حتى إذا شعرنا بمفعول السم، لا نطلب العون والنجدة.

من هذه الكلمات، كلمة “الطاعة”.

ولأننا في مجتمعات ذكورية، تتوحش ذكوريتها يوما بعد يوم، فإن “الطاعة” تكون موجهة أكثر إلى الكائن الذي يحيض ويحمل.

“الطاعة”، بالنسبة إلى النساء، ليست مجرد عنوان للفضيلة في أسمى معانيها. لكنها هي التي تمنحهن أصلاً انتماءهن البيولوجي إلى جنس النساء. هي “الرخصة” التي لابد أن تُجدد يومياً، حتى لا يُسحب من المرأة وجودها الإنساني، وتظل “مصنفة”، في خانة “الأنثى”. هي معادلة بسيطة يجب الحفاظ عليها: كلما زادت “طاعة” المرأة، زادت “أنوثتها”، كلما زاد “ثمنها” في سوق الزواج.

إذا كنا نريد نهضة حقيقية، لابد من إلغاء كلمة “الطاعة”، من الأبجدية الأخلاقية، واستخدام مقياس أخلاقي واحد، يُطبق على الجميع

أما بالنسبة للرجل، فلابد أن يكون له شخصية مستقلة، نابعة من أفكاره ومزاجه وطباعه، ليبقى مسجلا في خانة “الذكر”.

المرأة نفسها لا تحب الرجل “المطيع”؛ بل “تزدريه” وتتجنبه، ولا تجد سببا واحدا مشرفا يدفعه إلى “الطاعة” التي تراها خادشة للرجولة، معيبة للذكورة، مما يسقطه من “عينها”. حتى الأطفال في البيت لا يحترمون الأب المطيع. أليست هذه كارثة أخلاقية وإنسانية وأسرية، يجب تدميرها؟

الرجل لابد أن يتحرر من “الطاعة” حتى يثبت رجولته. هو لا يطيع الناس، بل يطيع نفسه؛ وكلما تساءل وجادل وناقش وعارض وتمرد وشاغب وشاكس، يعتبر “بطلاً”،  و”شجاعاً”. بالطبع، وخاصة فى مجتمعاتنا، حيث الوصاية الدينية والثقافية والأخلاقية على أشدها، بل وتتنمر وتتشرس، هناك “خط أحمر” لعدم طاعته، تحدده السلطات السياسية والدينية. لكنه، على الأقل، لا يُقذف بالاتهامات والإدانات التي تُقذف بها المرأة التي تسأل وتجادل وتعترض.

لأننا في مجتمعات ذكورية، تتوحش ذكوريتها يوما بعد يوم، فإن “الطاعة” تكون موجهة أكثر إلى الكائن الذي يحيض ويحمل.

المرأة التي لا تطيع إلا عقلها وعواطفها ومزاجها، هي “مريضة”، مرضاً متأصلاً… لديها اختلال عقلي وارتباك عاطفي واضطراب في الهرمونات. عندها ميول انحرافية وعُقد منذ الطفولة. تعاني من تشوش البوصلة البيولوجية..  تكره الرجال… تكره الحياة… تكره النساء… تكره الأنوثة وتكره نفسها.

هذا كله يجعلها “منبوذة”، حتى تزف إلى العريس المتاح دائما، “القبر”. تصبح مغضوبا عليها من الله والرسل والأنبياء. تستنكرها الأعراف والعادات والتقاليد ومقررات التعليم ونظرات الجيران.

في بعض الأحيان، يجرها بالقوة واحد من ذكور العائلة، لتصبح سجينة إحدى المصحات العقلية.

أليس تعبير “بيت الطاعة” يشد المرأة غير المطيعة لزوجها، رغما عنها، بقوة البوليس وبأول بند فى قانون الزواج الشرعي، وجبروت القانون الذكوري، وتسلط التقاليد الموروثة، خير دليل على أن “الطاعة” هي عنوان المرأة، وهي “هوية” النساء المخلوقات من ضلع أعوج؟

المفروض أن هناك مقياسا واحدا للأخلاق، يطبق على الرجال وعلى النساء. فكما نمتدح الرجل الذي “لا يطيع”، علينا أن نمتدح أيضا المرأة التي “لا تطيع”.

“الطاعة” ليست فضيلة. لكنها أعظم الآفات الأخلاقية  وأكبر الأمراض الاجتماعية وأبشع الجرائم. هي أصل الشرور والإحباطات والتعاسة وضياع أحلام البشر وفقدانهم ذواتهم المتفردة،  المبدعة، التي هي مثل بصمات الأصابع، لا تتكرر.

إذا كنا نريد نهضة حقيقية، لابد من إلغاء كلمة “الطاعة”، من الأبجدية الأخلاقية، واستخدام مقياس أخلاقي واحد، يُطبق على الجميع. لا النساء تطيع ولا الرجال يطيعون. هذا هو الجوهر الذي يجب أن نعيه ونؤمن به وأن نحققه وأن نربط كل مظاهره بعضها ببعض: الطاعة فى الأسرة والطاعة في الدولة. الطاعة في الخاص والطاعة في العام، الطاعة في الشخصي والطاعة في السياسي.

لا تسرق.. لا تقتل.. لا تكذب… إلى آخر الوصايا الملقنة للبشر منذ نعومة أظافرهم. لكن أين وصية: لا تطع، طيعي؟.

“ولدنا أحرارا”. لكن ليس جميعنا “نموت أحرارا”.

والسبب، هو أن ما بين “الولادة”، و”الموت”، تستلمنا “الطاعة”، لترضعنا من ثديها الشهي

هل وصية “لا تطع” أو “طيعي”، سقطت سهوا أم عمدا؟

هل “عدم الطاعة”، أرذل من السرقة والقتل؟

لا تحرر حقيقيٌّ للنساء والرجال والمجتمع، إلا إذا تمت إزالة ومسح وشطب وحرق  كلمة “الطاعة” من الأبجدية الحياتية التي نستخدمها.

“الطاعة” من إرث عصور العبودية، حيث طبقة الأسياد “تأمر”، وطبقة العبيد “تطيع”.

بكل أسف، انتهت العبودية “زمنيا”، و “تاريخيا” . لكن جوهرها وأساسها الإسمنتي العتيد موجود، بل ويزداد رسوخا، في أشكال عصرية، تتأقلم مع المتغيرات، وتفكك الكتلة الشيوعية والاشتراكية، وتوحش النظام العالمي الرأسمالي الأوحد المسيطر على كوكب الأرض، وتحالفاته مع الجريمة المنظمة عبر الحدود، ومبدعي فنون الصخب والمخدرات والعنف والدعارة، وقادة الإرهاب الديني الدموي.

نحن الآن  فى نظام عالمي “حديث”، “مودرن”، متقدم تكنولوجيا وصناعيا وفلوسيا وعسكريا وعلميا وفضائيا وإعلاميا وطبيا و”فيروسيا” . لكنه في منتهى التأخر الإنساني والتخلف في المعايير والأولويات والسياسات والقرارات والغايات والمفاهيم والقيم.

في الماضي، كانت “حقوق الإنسان” للأفراد والمجتمعات، تنتهك في جميع المجالات، فقرر المجتمع الدولي إقرار ميثاق عالمي لحقوق الإنسان، فى 10 ديسمبر 1948، لضمان الحقوق الغائبة والمنتهكة.

“الطاعة”، بالنسبة إلى النساء، ليست مجرد عنوان للفضيلة في أسمى معانيها. لكنها هي التي تمنحهن أصلاً انتماءهن البيولوجي إلى جنس النساء. هي “الرخصة” التي لابد أن تُجدد يومياً، حتى لا يُسحب من المرأة وجودها الإنساني، وتظل “مصنفة”، في خانة “الأنثى”. هي معادلة بسيطة يجب الحفاظ عليها: كلما زادت “طاعة” المرأة، زادت “أنوثتها”، كلما زاد “ثمنها” في سوق الزواج.

هل بعد 74 عاما، منذ إقرار هذا الميثاق العالمي، انتعشت حقوق الإنسان والشعوب، نساء ورجالا وأطفالا ، “محليا”، و”عالميا”؟

ما هو هذا الكيان المبهم الهلامي المتأنق غير المحدد، المؤرق بحقوق البشر في العالم، المتخذ اسم “المجتمع الدولي”؟

وهل هذا “المجتمع الدولي” متحرر من نفوذ وهيمنة “العبودية الحديثة المودرن”؟

هل هذا “المجتمع الدولي” له كلمة عليا على الرأسمالية العالمية السائدة على كوكب الأرض؟

ومنْ هو “الإنسان” المقصود في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان؟

“الطاعة”، هل رأينا كيف أوصلتنا إلى النظام الرأسمالي الكوكبي الحديث، والذي بالضرورة، يعتمد للبقاء والإزدهار على إبقاء وترسيخ وإنعاش جوهر “الطاعة”، الإسمنت المسلح لجوهر النظام العبودي؟

نسمع طوال الوقت المقولة التي فقدت معناها من كثرة ترديدها المزيف، الذي يستر “غيابها”، وهي: “ولدنا أحرارا”.

نعم، “ولدنا أحرارا”. لكن ليس جميعنا “نموت أحرارا”.

والسبب، هو أن ما بين “الولادة”، و”الموت”، تستلمنا “الطاعة”، لترضعنا من ثديها الشهي، المغري، الضروري لنشبع ونكبر.

“الطاعة”، تلك الأم التاريخية الخبيثة، التي تنتظر كل مولودة وكل مولود لكي تواصل مهمتها الموروثة المتجددة عبر الأزمان.

النساء اللائي “يمتن أحرارا” ، هن اللائي رفضن هذا الثدي الفاسد، والرجال الذين “ماتوا أحرارا”، فضلوا اللبن الصناعي عن الرضاعة الطبيعية المهلكة. الفضيلة الكبرى والكفاح البطولي وأقصى إبداع، يكمن فى الخروج من الصفوف والطوابير.

ليست هناك متعة تجعلنا نعيش فى علياء الاستغناء مثل متعة تكسير العلب الصفيحية المجهزة من قبل أن نولد، لتعبئتنا وحفظنا فى الملح والزيت.

نحن لسنا “سلعة” أو “منتجا”، علينا التزين والتجمل لكي نرضي شخصا أو نظاما أو جماعة أو ذوقا معينا أو مزاجا محددا.

nawal essaadaoui نوال السعداويأندهش من نساء ورجال يصفونهم بأنهم من “زعيمات وقادة التنوير”، وهم في الحقيقة “متشابهات ومتشابهون”، ليس فقط مع بعضهم البعض، ولكن مع آراء فلاسفة وعلماء، وأدباء وشعراء، ينقلون عنهم، وينصبوهم القدوة والمعيار والمرجع فى التنوير والثورة والتغيير. أين ذواتهم المتفردة؟ أين الإضافة غير المسبوقة؟ أين الجموح الجذري الذي لا يجعلهم “فاترينة” عرض ، تتفنن في حصد الإعجاب وترقيع ثوب “الطاعة”؟

سأعيش مرة واحدة فقط. حتى لو آمنت بتناسخ الأرواح، فإن الحياة التي أعيها وأدركها “هنا والآن” ، هي التي حقا أمتلكها. لذلك، سيكون من الحماقة أن أضيعها لإرضاء أحد غير نفسي، فيها تكمن أسرار الكون كله.

لو كانت هناك حيوات أخرى مؤكدة أعيشها، فما المانع أن أكررها وأنا أزهو على الملأ بأنني امرأة “غير مطيعة”؟

أدرك أن تصوراتي بعالم “خالٍ من الطاعة”، هو مثل تصوري لفنجان قهوة رائع المذاق، أرتشفه مساء، قبل النوم، فلا يسهرني على وسادة الأرق. أو مثل تصوري، أن أمي “نوال“، قد عادت من الموت، أقبلها وأحتضنها وأذوب فى رائحة جسدها وشعرها ودفء عيونها.

وأتذكرها دائما، أمي، حينما كانت تقول لي: “كلما استحال الحلم، كان أجمل وأنبل وله قيمة تشرفك وتميزك”.

ارفضي الطاعة.. وارفض الطاعة… هكذا التحرر وانتزاع الحقوق. حينئذ، لن نكون فى حاجة إلى الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

الشِعر خاتمتي

قصيدة : في إحدى الأمسيات

انتصف الليل

واكتمل الإرهاق

تتلألأ أنوار المدينة

تنطفئ الأحلام والأشواق

انتصف الليل

واكتمل الزهد

لا أسمع إلا الصمت

ونداء الأوراق

انتصف الليل

واكتمل حصار الذكريات

أخفي وجهي

تحت الوسادة والملاءات

لكنها أصبحت خبيرة في اقتحامي

وبارعة فى التحايل وإيجاد الثغرات

انتصف الليل

واكتمل وجه القمر

لكنني أريد وجهك أنت

لا وجه القمر

انتصف الليل

اكتملت آهات الألم

تتسارع محمومة دقات قلبي

وتم بخير أنين الجسد

تهتز السماء .. تتساقط فوقي النجوم

لا أحد معي.. لا أحد

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *