المعتزلة… جذور الأنسنة في التراث العربي الإسلامي! 2 - Marayana - مرايانا
×
×

المعتزلة… جذور الأنسنة في التراث العربي الإسلامي! 2\3

قراءة أفكار المعتزلة قد تصيب الذّات برجّة فكرية ترمي إلى الاستغراب… إذ، كيف يعقلُ أن تكون فرقةٌ، منذ صدر الإسلام، قد دافعت عن شعارات الحداثة والإنسانية، من قبيل الفردانية والعقلانية والحرية والعدالة الاجتماعية… حقّا، ودون تبخيس، يندرُ أن تجد هذا النّور العقلي في التّراث الإسلامي!

في الجزء الأول من هذا الملف، قدمنا بعض ملامح استنارة فكر المعتزلة فيما يخصّ خلق القرآن والتوحيد، وبحثنا في أصل التسمية.

في هذا الجزء الثاني، نقدّم بعض مظاهر الحداثة والأنسنة في الفكر الاعتزالي.

لقد اتسمتْ الإمكانيات الفِكرية للمعتزلة بنوع من الاكتمال غداة انتقالها من البصرة الى بغداد، وإطلاعها على الفلسفة اليونانية.

عندئذ، حصل اتفاق بين جميع تيارات المعتزلة على مبادئ أساسية: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

العقل بالنسبة للمعتزلة كان مسلكاً لا بد منه، لأنه شبه ردّ فعل لحالة بعض العقائد في زمنهم إلى آخره.

يرى بعض الباحثين أن إرهاصات تشكّل هذه المبادئ، التي يمكن عدّها بمثابة العقيدة الفكرية للمعتزلة، كانت مع أبو الهذيل العلاف، وقد أوردها في “كتاب الحجج”.

لكن…

قراءة أفكار المعتزلة قد تصيب الذّات برجّة فكرية ترمي إلى الاستغراب… إذ، كيف يعقلُ أن تكون فرقةٌ، منذ صدر الإسلام، قد دافعت عن شعارات الحداثة والإنسانية، من قبيل الفردانية والعقلانية والحرية والعدالة الاجتماعية…؟ حقّا، ودون تبخيس، يندرُ أن تجد هذا النّور العقلي في التّراث الإسلامي!

في الفردانية والحرية

لا شكّ أن فكر المعتزلة في جوهره، كما قال عنه أحد الباحثين، فكرٌ إيجابيّ يعلي من منزلة الفرد، ويحطم القيود التي تحد من حريته في الرأي والعمل، ويدشّن أمام العقل سبلاً للخلق والإبداع، من خلال إقرار مبدأ “الاختيار” على عكس الفكر الجبري، الذي يقضي على جوهر الفرد، حين يغدو عبداً للقضاء والقدر، متواكلاً عاجزاً مهزوز الشّخصية. [1]

برهانُ المعتزلة في مسألة الحرية يستمد شرعيته من بعد واقعيّ، فهم تمثّلوا إحساس الإنسان من نفسه، أنه يأتي هذا الفعل أو ذاك حين تتوافر عنده الدوافع الذاتية والموضوعية للإقدام على الفعل. كما أنه سيترك ذات الفعل في الوقت الذي تحضر فيه الصوارف الذاتية والموضوعية عن الإقدام عليه. في الحالين، يفعل أو يترك باختياره وحده.[2]

المعتزلة ارتقوا، توسّلا بالعقل الإنساني والمنطق، إلى درجة التكلم في نطاقات “محرّمة” على غرار الله وصفاته.

من جهة أخرى، تمثّل المعتزلة حقيقة مستخلصة من الواقع، مفادها أن الإنسان ما كان ليحسّ ذلك الإحساس من نفسه لو لم تكن ثمّة شروطٌ واقعية متوفرة، قد تدفع إلى إتيانهِ فعلاً ما أو العُدول عنه بمحض إرادته.

للتفصيل، فإنّ معنى ذلك أنّ “ذلك الإحساس الموجود بالبداهة عند الإنسان في حالات الفعل والترك، هو ظاهرة من ظاهرات القدرة، وهو يثبت وجود هذه القدرة واقعياً، وذلك يثبت حرية الإنسان”.

ينقل حسين مروة عن الشهرستاني، في تفريق المعتزلة بين الحركة الضرورية والحركة الاختيارية، بأنّ الأولى خاضعة بصورة حتمية لفعل قانون موضوعي مستقلّ عن إرادة الإنسان وقدرته… بينما الثانية مرتبطة بإرادة الإنسان وقدرته، وهي لذلك لا تخضع لغير ما يتوافر للإنسان من دواع تدعوه للفعل أو من صوارف تصرفه عنه، وأن توافر هذه الدواعي أو الصوارف هو الذي يحقق له حرية الاختيار، ثم العزم على الفعل أو الترك. [3]

بهذا المنطق العقلي، يكون المعتزلة قد ميزوا بين الحتمية الآلية التي تحرّك الطبيعة ولا يستطيع الإنسان صدّها، وبين الإرادة التي تحرك إرادة الإنسان.

عرف المعتزلة أيضاً بـ”أهل العدل والتوحيد”. لذلك، كانوا دعاة للمساواة والعدل بين النّاس، ما جعل بعض الباحثين يذهبون إلى أن تفكيرهم أيضاً ذو أساس اجتماعيّ. لذلك انحازوا إلى جانب الخوارج فيما يخصّ الخليفة، بأنه ليس حصراً أن يكون قريشياً. بل هم ذهبوا إلى أنه في حال تقدم للخلافة مسلم وأعجمي، رجحوا الأعجمي، لأنه سيكون عدلاً، ولن تحضر في حكمه نزعة القرابة أو العشيرة، أو احتكار الحكم والسلطة لخدمة الأقارب وتفضيل طرف على آخر داخل الدولة الإسلامية. [4]

رغم تأكيدهم لحرية الاختيار، فقد حثّ المعتزلة على الأمر المعروف والنهي عن المنكر كمسؤولية جماعية تقع على جميع الأفراد. حسبهم، فالإنسان كائن اجتماعي، لا يمكن له أن يصرف النّظر عن المسيئات التي قد تصيبُ مجتمعه وأمته. سيسود الشّر وقتها ويسيطر على الكل.

يقول الجاحظ، وهو أحد أعلام المعتزلة: “حاجة الناس إلى بعضهم صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم”.

هكذا يتضح أن المعتزلة بالفعل كانوا عقلانيين، حتى فيما يخص الشأن السياسي والاجتماعي أيّامئذٍ!

في العقلانية

في كتابه مفهوم العقل، يقول عبد الله العروي: تروي لنا كتب الفرق كيف نشأ الجدل بين المسلمين حول مسائل تتعلّق بالسياسة (الإمامة) أو بالسّلوك الفردي (الإيمان) والجماعي (الأمر بالمعروف) وعن حياة الآخرة (الجنة والنار)؛ ثم كيف انتقل إلى مستوى أعمّ عندما تكلم الناسُ في القدر؛ ثم جاء المعتزلة فتكلموا في الله والصفات. نلاحظُ نوعاً من التدرج والإرتقاء نحو التجرد وإن لم يحصل دائماً وبالفعل انطباقٌ الأعمّ على الأخصّ، وإنما وضعت المسائل العامة بجانب الخاصّة. [5]

فكر المعتزلة في جوهره، فكرٌ إيجابيّ يعلي من منزلة الفرد، ويحطم القيود التي تحد من حريته في الرأي والعمل، ويدشّن أمام العقل سبلاً للخلق والإبداع، من خلال إقرار مبدأ “الاختيار” على عكس الفكر الجبري…

نستنتج من قول العروي، هنا، أن المعتزلة ارتقوا، توسّلا بالعقل الإنساني والمنطق، إلى درجة التكلم في نطاقات “محرّمة” على غرار الله وصفاته.

بينما يرى أحمد أمين في كتابه “ضحى الإسلام”، أن العقل كان مسلكاً لا بد منه، لأنه شبه ردّ فعل لحالة بعض العقائد في زمنهم إلى آخره”.

محمود إسماعيل يُعزي الفضل إلى المعتزلة في اعتبار العقل مصدر المعرفة. إذ من ثمّ حاربوا الخُرافات والسّحر والشّعوذة وغيرها من الظّواهر التي لا تخضعُ لمنطق العقل كرؤية الجنّ وانشقاق القمر… إلخ. [6]

لم يتورّعوا، يقول إسماعيل، عن نقد الروايات الأسطورية في هذا الصدد، حتى ما كان منسوباً منها إلى كبار الصحابة، وفي ذلك ما ينمّ عن وضع المعتزلة لأول أصول النهج العلمي في التفكير.

أيضاً، من مظاهر التفكير العلمي عند المعتزلة، تعويلهم على الشّك والتجربة، وتفسير ظواهر الكون أو المادّة أو المجتمع أو الإنسان.

نستشفّ من هذا القول أن عقل المعتزلة كان تفكيكياً، يسائل المقدّس من القول، سواء قرآنياً أو حديثياً نبوياً أو أي نصّ آخر، خارج أي تأثير أو تأثر بما قد جاء من قبل، أو ما قد يأتي فيما بعد.

ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن تفكير المعتزلة ذو أساس اجتماعيّ. لذلك انحازوا إلى جانب الخوارج فيما يخصّ الخليفة، بأنه ليس حصراً أن يكون قريشياً.

إذا أعطينا لكلمة نصّ معنى عامّا، دون أن نعين اتصاله بالإنسان، وهذا المعنى الموسوعي هو الذي يعترضنا في المؤلفات الاعتزالية والأدبية منها خاصّة، صحّ القول إنّ الموقف الاعتزالي لا يعدو أن يكون الفهم الإنساني/الفردي للنّص، أو بعبارة مرادفة… هو عقل النصّ بقوى بشرية صرفة، كما يقول… عبد الله العروي!

يجمل العروي قوله في الاعتزال، في أنّ الخصوم يقولون إنّ المعتزلة “خرجوا عن حدّ العقل إذ طالبوه وهو المحدود بالكشف عن حقيقة اللامحدود، لكن المعتزلة يستطيعون أن يجيبوا أنّ غيرهم فرّط في عقله وأخضعه لما لا يعقل مهما كان اسمه ونعته. عندما ينقد الخصوم الاعتزال وانتهاجه العقل ماذا ينقدون بالضّبط؟”… يتساءلُ العروي. [7]

يتضحُ أن مأساة المُعتزلة كانت في محاولتهم استعمال العقل، في مرحلة لم يكن للعقل فيها… أي قيمة تذكر.

فكيف استعمل العقل في القضايا السياسية مثلاً من طرف المعتزلة؟

يجيب الجزء الثالث والأخير على هذا السؤال…

الهوامش:

[1] محمود إسماعيل، الحركات السّرية في الإسلام، الطبعة الخامسة 1997.

[2]  حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية – الإسلامية، المجلد الثاني، دار الفرابي، الطبعة الأولى 2002.

[3] نفسه.

[4] نفسه.

[5] عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة 2012.

[6] محمود إسماعيل، المرجع السابق.

[7] عبد الله العروي، المرجع السابق.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *