الإخوان المسلمون: السّلفيّة من الفكرة إلى الدّعوة فالجهادالجزء السادس
توقفنا في الجزء الخامس من هذه الورقة عند أهم عناوين العنف التي استند لها الإخوان عبر تاريخهم. ونتابع هنا، النبش في أهم التطورات التي دفعت نحو تبني العنف وعسكرة الدين. إنّ …
توقفنا في الجزء الخامس من هذه الورقة عند أهم عناوين العنف التي استند لها الإخوان عبر تاريخهم. ونتابع هنا، النبش في أهم التطورات التي دفعت نحو تبني العنف وعسكرة الدين.
إنّ ظاهرة تنظيمات الإسلام السياسي الناشئة في عصرنا، بداية من تأسيس جماعة “الإخوان المسلمين” سنة 1928 إلى اليوم، لا يمكن فهمها بمعزل عن طبيعة الأوضاع المتأزّمة الناتجة عن الصدمة الاستعماريّة ومدّ الحضارة الغربيّة، ثمّ عن فشل الأنظمة الوطنيّة في تحقيق التنمية والعدالة والعزّة الوطنيّة.
جاءت هزيمة 1967 لتمثّل نقطة تحوّل مفصليّة على مسار تجذّر هذه التنظيمات وإغراقها في العنف، مقارنة حتى بتنظيم “الإخوان” الذي فرّخها جميعا، والذي كان هو نفسه يتبنّى العنف ويمارسه عن طريق جهاز خاصّ سرّي.
هذه الحقيقة ينبغي أن تدفعنا إلى تنسيب ما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد في قوله: “الحقيقة أنّ الناظر في الفارق بين “المعتدل” و”المتطرّف” من الخطاب الدّيني لا يجد تغايرا أو اختلافا من حيث المنطلقات الفكريّة أو الآليّات، ويتجلّى التّطابق في اعتماد نمطيﹾ الخطاب على عناصر أساسيّة ثابتة في بنية الخطاب الدّيني بشكل عامّ. عناصر أساسيّة غير قابلة للنقاش أو الحوار أو المساومة”. (مقالة “الخطاب الديني المعاصر: آلياته ومنطلقاته الفكريّة”).
تزامن المسار التضييقي الاستلابي، مع الطفرة الماليّة البتروليّة لدول الخليج البدويّة المعتنقة للإديولوجيا الوهابيّة القائمة على قراءة صفويّة بدويّة متشدّدة وساذجة للدين، ومع هزائم عسكريّة مذلّة في الصراع العربي الإسرائيلي، وفشل ذريع للأنظمة التحديثيّة
الواقع يثبت أنّها تختلف، كثيرا أو قليلا، في حدّة العنف الممارس وقنوات تفريغه وطبيعة الأهداف التي ينصبّ عليها، وذلك بحسب طبيعة الظروف الحافّة بها وخصوصيّات المجتمعات الّتي أفرزتها.
إقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: في النقاب والحجاب واليسار الفرنسي
إنها. بالفعل، تنطلق جميعا من نفس المرجعيّة الأصوليّة من كتاب وسنّة وعمل السلف الصالح، ولكنّها تختلف في قراءة هذه المرجعيّة وفي أشكال تمثّلها، ممّا أدّى إلى إعادة ترتيب الأولويّات وإعادة تأهيل الآليّات القديمة ومراجعة فرز “الفرق الضالّة” وكيفيّة التعامل معها، قياسا على عمل الجماعة المسلمة الأولى زمن الوحي والعقود الّتي تلت موت الرسول. هؤلاء يعبّر عنهم اصطلاحا بالسّلف الصّالح، ومنهم استمدّت الحركة السلفيّة تسميتها مع بروز حركة الإصلاح الديني بزعامة الشيخ جمال الدين الأفغاني في أواخر القرن التّاسع عشر.
كان هدف هذا الأخير نقل التجربة الإصلاحيّة اللّوثريّة من المسيحيّة إلى الإسلام لتمكينه من ملاءمة روح التطوّر والتقدّم الحضاري الّذي تعيشه الإنسانيّة في هذا العصر. لكنّ صدمة الاستعمار وتدخّله المباشر في صياغة واقع المسلمين وتهديده لهوّيتهم الدينيّة والثقافيّة، ولّدا ردّة فعل غريزيّة، دفعت طبيعيّا فئات واسعة منهم إلى التقوقع والانكماش على الذّات.
على إثر ذلك، أخذ الفكر السّلفي الإصلاحي يضيق ويتحوّل من دعوة إلى التجديد إلى مقاومة مقدّسة لكلّ جديد، وعمل مستميت للفرار من الحاضر الحضاري والاجتماعي والسياسي الموسوم بثقافة “الآخر/ الغرب المعادي” إلى التماهي الموهوم مع صورة مصفّاة ومثاليّة للماضي الذاتي المجيد والمقدّس، ماضي السلف الصالح، قصد الاحتماء به وطمأنة الضمير الجمعي.
تلامذة الأفغاني المتعاقبين، رغم محافظتهم على الانتماء إلى المنظومة السلفيّة، كان كلّ واحد منهم يزيد في تضييقها عمّا كانت مع سابقه، إلى أن انتهت على يدي حسن البنّا إلى تنظيم دينيّ سياسيّ على قدر كبير من الانغلاق والخطورة، وهو تنظيم “الإخوان المسلمين”، الذي حوّل الفكرة السلفيّة إلى حزب سياسيّ معسكر
لذلك، نلاحظ أنّ تلامذة الأفغاني المتعاقبين: محمّد عبده، رشيد رضا، ثم حسن البنّا، رغم محافظتهم على الانتماء إلى المنظومة السلفيّة، كان كلّ واحد منهم يزيد في تضييقها عمّا كانت مع سابقه، إلى أن انتهت على يدي حسن البنّا إلى تنظيم دينيّ سياسيّ على قدر كبير من الانغلاق والخطورة، وهو تنظيم “الإخوان المسلمين”، الذي حوّل الفكرة السلفيّة إلى حزب سياسيّ معسكر رغم أنّه كان في البداية مجرّد جمعيّة خيريّة.
سوف تتحوّل هذه الفكرة مع تنظيمات الإسلام السياسي اللاحقة إلى جماعات شبه عسكريّة مسلّحة ومنغلقة (sectes)، شعارها اتجاه كلّ من يبقى خارجها، الآية 5 من سورة التّوبة:
“…فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة، فخلّوا سبيلهم، إنّ الله غفور رحيم.”
إقرأ أيضا: علي اليوسفي العلوي يكتب: الإسلام: دين ودنيا، أم دين ودولة؟
وكأنّهم بذلك يؤكدون قول “رونيه جيرار” في كتابه ” العنف المقدّس” : ” إنّ الدّيني يرشد الناس إلى ما يتعيّن عليهم فعله وعدم فعله تجنّبا لعودة العنف المدمّر، فعندما يهمل البشر الطقوس وينتهكون المحرّمات يحرّضون العنف المتعالي، بكلّ معنى الكلمة، على النزول بينهم مجدّدا والتحوّل إلى مجرّب شيطانيّ، أي إلى رهان عظيم وعقيم في آن، يتقاتلون حوله ويفني بعضهم بعضا، جسديا وروحيّا حتّى الإبادة الكلّية…”
جاءت هزيمة 1967 لتمثّل نقطة تحوّل مفصليّة على مسار تجذّر هذه التنظيمات وإغراقها في العنف، مقارنة حتى بتنظيم “الإخوان” الذي فرّخها جميعا، والذي كان هو نفسه يتبنّى العنف ويمارسه عن طريق جهاز خاصّ سرّي.
يبدو هذا التطوّر السلبي لحركة الإصلاح الديني الإسلامية غريبا بالقياس مع أهداف الآباء المؤسسين وخاصة الأفغاني، وكذلك بالمقارنة مع تطوّر حركة الإصلاح الديني المسيحيّة في أوروبا. الأخيرة انتهت إلى تحرير الشأن الديني من ربقة السلطة السياسية وأرجعته إلى الحميميّة الروحيّة للمؤمنين الأحرار، بينما تمّ في التجربة الإصلاحيّة الإسلاميّة سلب المؤمنين حميميّة إيمانهم الروحي وتحويله إلى سلاح فتّاك بيد السلطات السياسية القائمة، وخاصّة الفئات الطامحة إلى السلطة باسم الشرعيّة الدينية في ظلّ افتقارها إلى أيّ شرعيّة أخرى.
إقرأ أيضا: بعد ربع قرن على اغتياله… روح آيت الجيد ما زالت تلاحق حامي الدين كمتهم مساهم في إزهاقها! 2/1
لقد تزامن هذا المسار التضييقي الاستلابي، مع الطفرة الماليّة البتروليّة لدول الخليج البدويّة المعتنقة للإديولوجيا الوهابيّة القائمة على قراءة صفويّة بدويّة متشدّدة وساذجة للدين، كما تزامن مع هزائم عسكريّة مذلّة في الصراع العربي الإسرائيلي، وفشل ذريع للأنظمة التحديثيّة القائمة في تحقيق التنمية والحرّية والكرامة ومقاومة الفقر والهشاشة الاجتماعيّة، وهذا التزامن ليس مجرّد صدفة زمنيّة وإنّما يمثّل ارتباطا عضويّا من باب ارتباط الأسباب بالنتائج.
في الجزء السابع، سنتعرف على خطّة الإخوان لأسلمة المجتمع والهيمنة عليه.
لقراءة الجزء الأول: التنظيم السرّي عند الإخوان: بحث في المرجعيات ـــ بحث في النشأة
لقراءة الجزء الثاني: التنظيم السرّي عند الإخوان: بدايات الظهور – الجزء الثاني
لقراءة الجزء الثالث: النظام الخاص الإخوانيّ من التكوين إلى التنفيذ (1)
لقراءة الجزء الرابع: النظام الخاص الإخوانيّ من التكوين إلى التنفيذ (2)
لقراءة الجزء الخامس: الإخوان المسلمون: الطّريــق إلى الإرهــاب 1
لقراءة الجزء السابع: الإخوان المسلمون: خطّة الإخوان لأسلمة المجتمع والهيمنة عليه
لقراءة الجزء الثامن: الطريق إلى الإرهاب: خطّة الإخوان لاختراق الدّولة والسّيطرة عليها
لقراءة الجزء التاسع: عسكرة الرّعب: من الجهاز الخاصّ إلى الجماعة المقاتلة. تعاليم سيد قطب
لقراءة الجزء العاشر: الطريق إلى الإرهاب: واجب الجهاد ضدّ الجاهلية الجديدة