إدريس هاني: الصّراع السّني الشّيعي سِياسي، والدّولة بالمَغرب أصبحت معنيّة بالدّفاع عن السياسات الاجتماعية! 3 - Marayana - مرايانا
×
×

إدريس هاني: الصّراع السّني الشّيعي سِياسي، والدّولة بالمَغرب أصبحت معنيّة بالدّفاع عن السياسات الاجتماعية! 3\4

في الجزأين الأول والثاني، حاوَل إدريس هاني أن يرسُم صورةً عن مُقاربته الكّليانية للتّراث العَربي الإسلاَمي. كما حاول تقريبنا ممّا أسمَاه “بالاجتهاد الدّيني في الفِكر الشّيعي”.
في هذا الجزء الثالث، نغوص معه أكثر في الحلول العملية المُمكنة لوضع حدّ للصراع المذهبي بين السنة والشيعة.
… لنتابع!

  • إذا أردنا أن ينتهي هذا الصّراع بين المذاهب السّنية الشّيعية، القائم على أساس أيديولوجي، كما يبيّن عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الأيديولوجيا”، فما السبيل لذلك في تقدير إدريس هاني؟

لقد أرّقني هذا السّؤال منذ عشرات السّنين، وانخرطتُ فيه منذ زمن بعيد، ويمكن الوقوف على شطر من ذلك في كتابي “الاقتصاد في الخلاف”. لكنني أدركت أخيراً أنّ الخلاف ليس منشؤه التّنوع، بل منشؤه التّخلف في إدارة التنوع. هذا التنوع لسنا نحن من خلقه، وهذا الذهاب والإياب في الأفكار أمّنته تقنية الاتصال وثورته. إنّ أوربا وأمريكا وأستراليا يوجد فيها سنة وشيعة أيضاً، يوجد فيها مسلمُون ومسيحيون ويهود وبوذيون وكونفوشيوسيون، عرب و“برطقيز”…

لكن المسألة لها علاقة بالسّياسة أيضاً، وعلاقتها بالأيديولوجيا؛ فلقد صرح يوما شرف الدين الموسوي، المرجع اللبناني قبل عشرات السنين، بأنّ هذا الخلاف صنعته السياسة، فلتنهه السياسة! وجب التذكير بأنّ الصراع يسبق التعبيرات الطائفية والعرقية وما شابه… كل نعرة من هذه النّعرات وحدها لا تشكّل خطراً ما لم تكُن هُناك البيئة التي تستَدعي تلك النّعرات.

الاختلاف ليس مشكلة، فأصلاً، المجتمع المتقدّم لا يكشفُ فقط عن الخلاف وحدُوده، بل يسَاهم في تعميق المُشترك وإبرَازه. يتعيّن أن نختلف ونحنُ نقف على أرضيّة مشتَركة متينة. إذا لم نعرف كيف نختلف، لن نعرف كيف نجتمع. فوبيا الآخر هي عنوان هشاشة. المهم هو كيف نختلف في ظلّ ثقافة يحكمها التّسامح والأنسنة التي نغنّي بها يوميًّا، ولكنّنا فقط نتمثّلها كهواة. والأهم من ذلك، علينا أن نرقى بالذّوق الحضاري للمجتمع، كي يتعلّم كيف يجعل التّنوع في خدمة المشترك نفسه.

أعتقد أنّ البيداء العربية راكمت من التّخلّف، بل من التوحّش، ما لم يعد يُطاق، وهي المسؤول عن ثقافة الخلاف. ففي ظنّي، لم تعد المجتمعات متكلّمة ولا متشرّعة، أي لم يعد علم الكلام هو من يوجهها. لذا، لا خوف من الخلاف بقدر ما يجب الخوف من هشاشة “الآخرية” في ثقافتنا، حيث باتت النخبة، كالعامّة، تمتح فكرها من صلب النزعات.

لقد أصبحت النّخبة كالعوام لا يفصل بينها سوى امتلاك أدوات التزييف، حيث تُثقّف موقفها من الآخر وتخاتل قدر الإمكان في إخفاء النزعات الوحشية. من هنا، أرى أنّ القضاء على هذا النوع من الاختلاف ليس بنزع الاختلاف، وهو فعل المستحيل، بل بتعزيز البنية الثقافية بمزيد من ثقافة احترام الآخر، وسنّ القوانين المنظّمة للاختلاف، والحامية للنسيج الاجتماعي من خلال وفرة الأحاسيس الوطنية والإنسانية وما يتعلّق بالمشترك.

  • على هامش قولك الاختلاف، وفي خضمّ كتاباتك المختلفة عن القِراءات المُعاصرة للتّراث العربي الإسلامي، نجد أنّك لطالما كلتَ نقداً لمشرُوع حسن حنفي. إلاّ أنّ ذلك لم يمنَعك في رثائه بقولِك بأنّه كان آخر المثقفين العضويين… ما معنى أن تكون مثقفاً عضوياً في زمنٍ تُرفع فيه شِعاراتُ نهاية الأيديولوجيا؟

تلك ليست أوّل مرة أفعلها مع من نقَدتُهم معرفياً، فالنقد قضية علمية، لكن الحقد هو آفة إنسانية. لقد نقدتُ محمد عابد الجابري قبله، ورثيته عند وفاته رحمه الله، وفعلتُ ذلك مع كثيرين. بالنّسبة لحسن حنفي، فلقد نقدتهُ في كتاباتي وحتى مباشرة في مُلتقيات وطاولات مستَديرة، وقد كان صديقا حميما، ولم يغير ذلك من صداقتنا، حتى أنّه قال لي مرة، حينما سألته إن كان نقدي لمشروعه يزعجه، فقال لي: لا أبداً، النقد ضروري، فلولا هيغل لما كان ماركس.

تكمُن معضلة الثّقافة العَربية المعاصرة في عصبيّتها، في عدم التمّييز بين النقد كمهمّة معرفية وبين الحقد كموروث نفسي من أزمنة الانحطاط، وكتعبير عن عقد نفسية عميقة. ليس هناك من يملك سلطة منح صكّ عبور عالم النقد. هذه مسؤولية يتحملها الناقد نفسه. إنّ العنوان الطاغي على المشهد الثقافي هو الكآبة.

نعم، لقد اعتبرت المرحوم حسن حنفي، آخر المثقفين العضويين من باب المجاز. وإلاّ، لا يخلو أي عصر وأي جيل من مثقفين عضويين، وأقصد بالمثقف العضوي المعنى نفسه المتداول منذ غرامشي. المثقف الذي ينزل إلى ميدان التفاعل الاجتماعي، والمهتم بقضايا مجتمعه وعصره، بالتحليل وبالحلول.

أما نهاية الأيديولوجيا أو نهاية التّاريخ، فهي نُكتة أنتجتها التّفاعلات الأيديولوجية الرّخوة لما بعد سقوط جدار برلين، والشعور بانتصار الليبرالية. في اعتقادي، نحن في ذروة الأيديولوجيا، لكن لكل عصر أيديولوجياته وأنماطه في الزيف والمغالطة أيضا، ففي عصر القوة الناعمة، قد نتحدث عن الأيديولوجيا الناعمة، وهو ما يمارس اليوم باسم الموضوعية والبحث العلمي، بينما عند التحقيق نكتشف الهشاشة والرّغبة في الزّيف.

  • تبعاً لذلك، أفردت فصلاً مهما للعولمة والانهيار الاجتماعي واستقالة الدولة الاجتماعية، في كتابك “المفارقة والمعانقة”. بعد مرور عشرين سنة على إصدار الكتاب، ألا ترى أنّ المغرب أصبحَ يتّجه شيئاً فشيئاً نحو وضع أسس الدّولة الاجتماعية، خصوصاً بعد ما أفرزته جائحة كورونا؟

المقصود بالسياسة الاجتماعية، هو كلّ ما يمكن أن يشكّل آخر جيوب المقاومة ضدّ الخوصصة وسياسات النيوليبرالية المتوحّشة. والمغرب، لا سيما بعد جائحة كوفيد-19، أدرك أهمية السياسة الاجتماعية، وبأنّ الجائحة لا يمكن أن تُقَاوَم بسياسات نيوليبرالية، وذلك لسبب بسيط، هو أن العالم بأسره أعاد اكتشاف الأبوية السياسية. ثمة علاقة وثيقة بين الجوائح، كوقائع تاريخية واجتماعية، وبين الباترياركية السياسية.

في ظنّي، فالدّولة العميقة في العالم، ومنها المغرب أيضاً، أصبحت معنية بالدّفاع عن السياسات الاجتماعية، أو على الأقل، مراقبة بعض الخطوط الحمراء، أكثر من الحكومات التي تعبّر عن شبكة المصالح وقد لا تأبه لمخاطر السياسات اللاّاجتماعية على المدى البعيد.

في ذلك الكتاب، ولا سيما في الدرجة الصفر للعولمة، نبهت إلى مثال الاتفاقية السّرية الـ”ami”، وهي تلخّص غايات النيوليبرالية المتوحشة والإجهاز النهائي على السياسات الاجتماعية، فالاتفاقية المذكورة التي تطرق إليها البعض في فرنسا يومها، لم يتطرق إليها المراقبون والباحثون العرب، وحتى بعد مرور أكثر من عشرين عاماً، لم أجد من يقف عندها، وهو مؤسف جدّا، فهي اتفاقية داروينية بامتياز، ولكن مُحتواها لا زال يتهدّد مصائر الدول… والسياسات الاجتماعية.

… في الجزء الرابع والأخير، نعاين لماذا اهتم إدريس هاني كثيراً بنقد عبد الله العروي، لدرجة اتهمته بالتّناص، أو السّرقة الفِكرية كما فهم البعض. كيف ذلك؟

التفاصيل في الجزء الموالي!

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *