إدريس هاني: العقل الشيعي اجتهادي أيضاً، والتّقارب بين الإخوان المسلمين والشيعة خلال القرن الماضي ليس اكتشافا جديداً! 2 - Marayana - مرايانا
×
×

إدريس هاني: العقل الشيعي اجتهادي أيضاً، والتّقارب بين الإخوان المسلمين والشيعة خلال القرن الماضي ليس اكتشافا جديداً! 2\4

في الجزء الأول، تحدّث لنا المفكّر إدريس هاني، عن مشرُوعه، ورغبته في قراءة التراث بشَكل شمُولي، انتصاراً لمنا اعتَبرهم من المهمّشين في التّاريخ الإسلامي، أي الشّيعة.
في هذا الجزء، يفصّل هاني في علاقة الإخوان المسلمين بمصر وبنظرائهم من الشّيعة في إيران.

  • أنت تعتبرُ في كتابك “المعرفة والاعتقاد”، أنّهُ حدث أنّ العقل الشيعيّ، بعد الغيبة التي أصابته في القرون الأولى، عاش فترة انتقالية شديدة الوقع. لكنه سُرعان ما أعاد بناء أسسه ونظم أصوله واستأنف مسيرة التأصيل على أساس الاجتهاد. لو سألناك اليوم، ما مصير ذلك الاجتهاد الذي أبان عنه العقل الشّيعي الذي تتحدث عنه؟ أم أنّهُ ظلّ مجرد ذكرى في الأدبيات الشّيعية كما صار حالياً مع أعلام العقلانية في “التّراث السني”؟

للأسف، هناك حديث عن المفكرين كما لو كان الهاجس هو أنهم يمثلون طوائفهم ومذاهبهم. نعم، توجد دائمًا رواسب البيئة والتربية، وهذا ظاهر في سائر التّجارب الإسلامية. لما نتحدث عن الاجتهاد بمعناه الكلاسيكي، نقصد تأصيل الأصول والاستنباط وما شابه ذلك مما يتطلّبه الموقف الشرعي، وهذا متواصل حتى اليوم، فالشّيعة تفرّدوا بالقول بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، واستمر وهو أمر مفتوح، حتى أنّ بعضهم قد يخرج عن المذهب ويلتقي بمذاهب أخرى في الفروع، وهذا قد نلمسه في الفقه المقارن، وربما حصل ذلك في الأصول أيضا كتقارب رأي البروجردي (*) في مبحث الإرادة والطّلب مع الأشاعرة.

تفاصيل هذه النّكات الاجتهادية مجهولة لدى غير المتخصصين، لكننا عند الاطلاع نجدها وافرة وحيويّة. أمّا على صعيد الفكر والمعرفة عمومًا، فهي موضوع اجتهاد. لا شيء يمنع من البحث، وأغلب الأفكار اليوم في مجال فلسفة الدين والفهم الديني التي تجد لها تأثيراً في المجال “العربي” وفي الخطاب الإسلامي، هي من آراء الشيعة. بل ألاحظُ أنّ ما يصدُر من الجُغرافيا الشّيعية من آراء، له آثار في الخطاب الإسلاميّ الراهن، حتى لو تعلّق الأمر ببعض الآراء الخارجة عن نسقهم أو حتى لو تعلق الأمر ببعض المحاولات الإنشائيّة المُقلِّدة لغير محقّقيهم.

الحركة الاجتهادية متواصلة في كل اتجاه. اليوم، في الساحة الإسلامية، هناك تهافت غير مسبوق على تلك الكتابات، فلا تخلو المكتبة الخاصة لكل معني بالفكر الإسلامي من كتابات الشيعة، بل ستجد خلال العشريتين الأخيرتين، أنّ المنتج المفهومي للمفكّرين الشّيعة هو الذي يطغى في السّاحة العربية والإسلامية، في موضوعات علم الكلام الجديد، وفلسفة الدّين، والتّمييز بين الدّين وفهمه، واجتهادات أخرى يتمّ تمثّلها من دون اعتراف. ثمّ أني لا أرى من الصواب تصنيف الفكر بحسب البيئة أو النّزعة، لأنّ هذا إن كان ضروريا، فهو يشمل كل فكر. لماذا لا نصنف أعمال مفكرين مثل محمد عابد الجابري أو محمد أركون أو حسن حنفي أو غيرهم حسب البيئة والميل والاعتقاد؟ فإمّا أن يكون التّصنيف عامًّا أو لا يكون.

  • إلاّ أنّك، بالمقابل، بذلتَ كثيراً من الجهود في مجال الثقافة العالِمة، وفجّرتَ قسوةً بالغة في نقد الإسلام السياسيّ “السّني” بالمغرب. تجلى ذلك بوضوح في كتابك “سراق الله”… في تقديرك، أليس التأويل الشّيعي للدين الإسلامي هو، أيضاً، شكل من أشكال الإسلام السياسي، أي الذي يزاوِج بين الدّيني والدّنيوي؟

لا يمكن اختزال موقفي من الظّاهرة الأيديولوجية في المجال العربي، في نزعة معيّنة، لسبب بسيط، هو أنّني جسدت كل معاني الانفتاح والشجاعة والمغامرة في كل جيوب التّراث. هذا يعني أنّني أنطلق من خبرة مركّبة واستيعاب يؤمّنه فعل التّنزّه في كل مدارسه الكلامية والفلسفية.

بالنسبة لكتاب سراق الله، فهو يُعنى بتجربة الإسلام السياسي في المغرب، ويكاد ينحصر في بعض النماذج. العنوان العام للكتاب هو الأساسي، أما العنوان الفرعي هو فقط للتوضيح؛ وهو محاولة كُتبت في ذروة تحكّمهم بالشأن العام. لكن، حين سقوطهم، لم أبادر للتّشفي، فالقراءة كانت تنطلق من موقف نقدي وليس من موقف كيدي. والغالب على النقد عندنا هو الكيدية والحقد. لذلك، سنُحرم كثيرا من الفكر إن كان المعيار هو الاستناد إلى الاحتقانات غير المعلنة في تقييم آراء الآخر.

  • لكن سؤالي كان واضحاً عن الإسلام السياسي فيما يتعلّق بالشّيعة أيضاً؟

لا أدري لماذا كلّما تناولتُ ظاهرة بالدّرس والتّحليل، أثير موضوع الآخر، أي الشّيعة. لكنني أقول إنني ابن هذه البيئة، وأعرفها قبل أن أعرف أية بيئة أخرى. لذا، يفترَض أن نركّز على المحتوى. ثم سيكُون من غير الصّواب أن نقارن بين ظاهرة أو تجربة حزبية، وبين مدرسة أو مذهب إسلامي. يبدأ الخطأ من هنا، لأنّ في الطّرف الآخر توجد توجهات وحساسيات وآراء مختلفة. وجب التّعاطي مع المُنتج الفكري خارج كل هذه القوالب، ففي كل المدارس توجد محاولات جادّة، وجب اكتساب الشجاعة اللاّزمة لقراءتها بمعايير معرفية خالصَة.

  • تحدّث كثيرٌ من الباحثين عن التّقارب الاستراتيجيّ الذي حدث بين الإخوان المسلمين بمصر وإخوان الشّيعة خلال الأربعينات، خصوصاً حركة فدائيان إسلام في إيران، التي تمتّعت، بدورها، بجناح فكري وآخر عسكري. كيف يعلّق إدريس هاني على هذا التّقارب الذي تمخض عنه دعم الإخوان المسلمين لثورة الخيميني فيما بعد؟

هذا التّقارب ليس اكتشافا جديداً، المشكلة هي أنّ البعض يعتبر أنّ قراءته لهذا التقارب تعكس خبرة غير مسبوقة. لكن هذا مما قيل منذ الثمانينيات، وفقد فات هؤلاء الكثير من الحقائق في هذا المجال. لقد كانت العلاقة بين إيران ومصر قديمة، لأسباب منها أنّ الكثير من المعارضين كانوا يعيشون في مصر، وتأثروا بجمال عبد الناصر أيضاً. إنهم يجهلون تجربة مصطفى شمران، أول وزير دفاع بعد الثورة، كما يجهلون دور دار التقريب، التي نهض بها محمد تقي القمّي في أربعينيات القرن الماضي، بمؤازرة مع عديد من علماء الأزهر، كشيخ الأزهر آنذاك، الشيخ المراغي، وتأييد كبير من المرجع البروجردي، كبير المراجع وأوحدهم تقريبا آنذاك. فدار التّقريب في القاهرة، التي أسسها القمّي، كان من أعضائها المؤسسين مصطفى عبد الرازق (أخ علي عبد الرازق) وأيضاً وزير أوقاف جمال عبد الناصر، أعني أحمد حسن الباقوري، ودعاة آخرين كالشّيخ الغزالي والشيخ متولي الشعراوي، ثم لا ننسى أخيراً حسن البنا.

أقول آخرهم وليس أوّلهم. وبالفعل، كانت منظمة فدائيان إسلام، الناشطة آنذاك، ترتبط بعلاقات، ككل الجماعات التي كانت تتواجد يومها في السّاحة “العربيّة”، ومنها مصر. هناك، كان نواب صفوي يلتقي مع كل الشخصيات الفاعلة مثل سيد قطب، وهذا الأخير كان شخصية عامة له لقاءات حتى مع علال الفاسي والحاج أمين الحسيني وغيرهم. لا يمكن الانطلاق من العلاقات العامّة للحديث عن الولاءات والتحالفات، فلقد زار الباقوري إيران قبل الثورة وزار مرجعها آنذاك البروجردي، كما كانوا يفعلون في العراق في زيارة مرجعها يومذاك محسن الحكيم.

تختلف السياقات والأزمنة والاعتبارات. هذه اللقاءات حدثت مع رموز مختلفة من العالم الإسلامي، حتى محمد علي كلاي قام بزيارة مجاملة من ذاك القبيل. ومع أنّ هذا الحديث خارج موضوعنا، إلاّ أنني ألاحظ أنّ هناك مبالغات كثيرة، حتى أنني أقرأ عن أن الخميني هو وليد حركة مجتبى نواب صفوي، مع أنّ هذا مثير للغرابة إذا عرفنا وزن كل منهما في المشهد العلمي والسياسي آنذاك. كما أن ما يثير الغرابة، ما ذكره ثروت الخرباوي في عملية تصفية حساب مع الإخوان، لأنه عضو سابق في تنظيمهم، حين يتحدث عن اللقاء المؤسس للتحالف بين الخميني وحسن البنا، حين زار الأول مكتب الإخوان في القاهرة؛ وهي معطيات مضحكة، لأنّ مثل هذا لم يحدث، وسفريات زعيم الثورة الإيرانية قبل الثورة محدودة: تركيا، العراق، فرنسا، وكلها مَنَافي سياسية مفروضة وليست زيارات.

لعلّ من المبالغات وقلّة التّحقيق، الحديث عن تأثير الإخوان في قادة الثورة، بينما كنّا أمام تجربتين مختلفتين. في تجربة الإخوان، لم يكن هناك قادة علماء مؤسسون. حتى الشيوخ الذين تعاطفوا معهم، مثل أحمد حسن الباقوري، سرعان ما استقطبه جمال عبد الناصر ومنحه حقيبة وزارة الأوقاف، بينما كان عضوا في تنظيم الإخوان، وهو مؤلف نشيدهم الرسمي، الذي مطلعه: “يا رسول الله هل يرضيك أنّا..”.

إذا كنا سنتجاهل السياقات، فلقد كان جمال عبد الناصر، في وقت من الأوقات، مقربا من حسن البنا، وحضر جنازته، بل كان صديقا لسيد قطب وأدخله في الاجتماعات الأولى للضباط الأحرار بعد الثورة، قبل أن يختلفا، وحاول استقطابه. لكن ما حدث هو أنه جمال عبد الناصر نجح في استقطاب الباقوري من الإخوان، بينما نجح الإخوان في استقطاب سيد قطب من حاشية جمال عبد الناصر. وجب استحضار السياق التاريخي بدل الاستناد إلى وجود صورة جمعت بين أشخاص في ملتقى أو مؤتمر ما وفي مرحلة تاريخيّة ما.

  • تقول، إذن، إنّه لم يكن ثمّة تأثير إخوانيّ؟

ما أودّ قوله إنه كانت هناك تجربة قادها العلماء، وهي لها منابع مختلفة تعود إلى حركة المشروطة في عشرينيات القرن الماضي، وهي موصولة في جانب منها بحركة جمال الدين الأفغاني، وهو الأسد آبادي من همدان الإيرانية، الذي كان وراء الكثير من التشبيكات، مع ملا كاظم الخراساني من حركة المشروطة، التي أشرف عليها الميرزا النائيني، وهي حركة علمائية، وكذلك ثورة التنباك وثورة العشرين. أين الإخوان من هذا التاريخ؟

إن كان ولا بدّ من توضيح، فإنّ الشيخ المطهري، وهو مِن قادةِ الثورة الثقافيين، كتب نقداً قديما للحركة الإسلامية، لا زال مغموراً في اهتمام من يقدّمون أنفسهم خبراء الحركة الإسلامية ولم يتطرقوا له قطّ، وأنا أعرف أنهم من الآن فصاعداً، فقط، سيتناولونه كالعادة، مثلَما اقتبسُوا الكثير من الأفكار من كتابي سراق الله وبعض انتقاداتي السابقة، وتبنّوه دون أن يعترفوا أو يحيلوا عليها بأمانة.

ببساطة، أقول في هذا الكِتاب الذي يحمل عنوان “الحركات الإسلامية في القرن الأخير”، إن مرتضى المطهري يتناول بعض الهنّات في الحركة، مما يؤكد أنّهم كانوا ناقدين لبعض مواقفها في الوقت الذي لم يظهر أي نقد ذاتي للحركة الإسلامية في المنطقة العربية. لكن، سنجد من الغريب أن المطهري لا يتطرّق لمن يعتبرون اليوم قادة الإخوان، بل كان يتحدث عن محمد إقبال اللاّهوري وعن جمال الدين الأفغاني ونظرائهم، مما يعني أنّ الشّيعة تجاوزوا تلك التّصورات التي كانت تنتجها جماعة الإخوان المسلمين، بل اعتبروا أنفسهم موصولين بحركة جمال الدين الأفغاني وسؤال النّهضة.

لقد أغنتهم كتابات أمثال تقي فلسفي، والمطهري، ومحمد حسيني بهشتي، وعلي شريعتي، ومهدي بازركان وغيرهم عن كتب الإخوان. نعم، نتحدث عن أولى الأعمال المترجمة لسيد قطب من طرف مرشد الثورة اليوم، لا سيما كتاباته في الفكر الإسلامي مثل”هذا الدّين”، و”مقومات التّصور الإسلامي”، و”بعض مقاطع من التفسير”، وهذه كتابات ظلّت مقبُولة حتى عند عبد النّاصر يومها. لكن التّأويلات التي أحاطتْ بمفهوم الحاكمية، لا يمكن أن تفهم عند الشيعة بالتبسيط الرائج، فللقوم فقههم وعلم كلامهم وأصول تفكيرهم، وهم أصلاً من المدرسة العدلية، هذا مع أنّ فكرة الحاكمية يومها لم تكُن تحمل كل هذه الشّحنة الخوارجية التي أضافتها الحركات المتشددة، فزادت في الطّين بلّة.

لقد كان علال الفاسي قد اعتبرها من القضايا التي تجري في الثقافة الإسلامية مجرى طبيعيا، وهي موجودة في كتابات المسلمين في سائر العصور ولم يفهم منها كل ما آلت إليه.

أعتقد أنّنا نستطيع أن نكوّن فكرة عن الواقع بعيداً عن كلّ أشكال المبالغة والتهريج، لأنّ الإنصاف يقتضي الصّبر في تقليب النّظر، هذا مع أنّني أدعوا إلى مزيد من البحث العلمي وعدم التّسرع في الأحكام.

  • وماذا عن اليوم؟

اليوم، لقد ساءت علاقة الإخوان إلى حدّ ما بالإيرانيين، وهناك عشق من جهة واحدة إن شئت. الاختلاف نابع من تصادم الأفكار والمواقف لا سيما في العشرية الأخيرة، عشرية “الربيع العربي” الذي آلت إلى نتائج مختلفة، يمكن معرفة رأيي في الموضوع في كتابي “بؤس الربيع العربي: مقاربة فلسفية وجيوستراتيجية”، ولله في خلقه شؤون.

… لكن، كيف يمكنُ أن ينتهي الصراع السني الشيعي وتخرج “الأمّة الإسلامية” من عصر الانحطاط والصّراعات المذهبية البالية؟

هذا ما يجيبنا عنه إدريس هاني في الجزء الثالث.

(*): ينتمي هذا المرجع إلى حسين بن السيد علي الطباطبائي البروجردي، الشهير بالإمام البروجردي. يعتبرهُ الشّيعة مرجعاً مهمًّا، ويُعتبرُونه عالم دين وفقيه معتمد.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *