نور الدين الزاهي لمرايانا: التّدبير المقاولاتي للدولة يقتل الحياة الاجتماعية بكل أبعادها الرّمزية والاجتماعية والقيمية! 2/2 - Marayana - مرايانا
×
×

نور الدين الزاهي لمرايانا: التّدبير المقاولاتي للدولة يقتل الحياة الاجتماعية بكل أبعادها الرّمزية والاجتماعية والقيمية! 2/2

تابعنا في الجزء الأول من هذا الحوار نظرة الأستاذ الجامعي الباحث في علم الاجتماع، نور الدين الزاهي، لنتائج انتخابات 2021، وكيف أنها لم تأت خارج التوقعات.
بالإضافة، إلى تحليل السياقات المتحكمة في هذه النتائج التي أسقطت العدالة والتنمية وسمحت للأحرار بقيادة الائتلاف الحكومي الجديد.
في هذا الجزء الثاني من الحوار، نرصد رؤيته للتدبير المقاولاتي للدولة، الذي لاح في الأفق غداة فوز عزيز أخنوش برئاسة الحكومة… وخطورته على الدولة والمجتمع إن وُجدت!

  • بعد أن فصّلتَ في الجزء الأول تطور الحزبية ونهاية الأيديولوجيا، نشير إلى أنه، مع ذلك، ثمة من وصف إسقاط العدالة والتنمية في انتخابات 2021 بأنّه كان “قتلاً غير رحيم”… بغضّ النظر عن قرارات البيجيدي اللاشعبية وكلّ ما يحفظه التاريخ من تخاذل، هل تجد أنّ الصورة الرمزية “الطّهرانية” لحزب نظيف قد انهارت؟

في هذا الصدد، أقول دائما في سياق التحليل الذي ابتدأته إن الدولة بالمغرب وضعت خطواتها الأولى المتينة نوعا ما، في اقتصاد السوق ومنطقه وقيمه. اقتصاد السوق ومنطق السوق “لا أخلاق لهما” على حد تعبير عالم الاجتماع لوك بوتلانسكي، ولا قضية، سواء كانت فلسطينية أم قضية أخرى.

الحقّ أن المغرب، وكثير من الدول الأخرى، مع نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي، قبلت بتجريب حكم الأحزاب الإسلامية، بدعوى احترام قواعد الديموقراطية ونتائج صناديق الاقتراع.

كان الأمر صدا لعودة الإيديولوجيات غير الدينية، ورسماً لمعالم القطع مع تجربة القمع والمنع، التي طالت هاته الأحزاب الإسلامية في مراحل سابقة.

ضعف اليسار من صَمَمِه، والذي جعله يستهلك بكل سهولة أسطورة موت المرجعيات والأفكار والتصورات، لدرجة أصبحت خطاباته مسطحة وغير قادرة على إنتاج المقترحات الوازنة والتعبئة لها وبها على المستوى العمومي. صمم جعله يفقد تضامناته الإيديولوجية والثقافية، ويهرول كثير من أفراده يمينا نحو حداثات تنظيمية وهمية.

صعود حزب العدالة والتنمية له سياق محلي وآخر دولي، ودوامه لعقد من الزمن في كرسي تسيير الشأن العام بالمغرب، له سياق مغاير. إن النجاح في إقناع الخاصة والعامة بكون القرن الجديد قرن موت الإيديولوجيات السياسية والفكرية الكبرى، وكذا قطع حبل السرة بين الأحزاب ومرجعياتها الفكرية من جهة، والتنظيمات النقابية والمهنية من جهة أخرى، كان فرشة لإخصاب إيديولوجيا جديدة ذات مصدر ديني هذه المرة، وذات عروض مغرية سواء في الحياة أو بعد الممات، ليس بالمغرب فقط.

في الآن نفسه، كان امتحانا لمدى قابلية الدول الصاعدة لمنطق السوق وقيمه، والتي تجعل من النجاح الاقتصادي المعيار الأول والأخير لدوام أمنها واستقرارها الشامل… امتحان لها في جعل منطق السوق وقيمه، وليس الاستبداد التقليدي، هما من يقتل بشكل غير رحيم.

ضمن منطق السوق، يتعلق الأمر بالديموقراطية: اكتساح كاسح مع بداية العشرية الحالية وانهيار فادح مع منتهاها. كل شيء تم حسب صناديق الاقتراع. لا تزوير ولا تلاعب تم تسجيله… يسجل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في مؤلفه “الاقتصاد والمجتمع” واقعة سوسيو-تاريخية، ذات أهمية في سياقنا هذا، مفادها كون احتكاك الديانة (المقصود رجالاتها) بالاقتصاد، يفضي بأهلها إلى فقدان بريقهم وكاريزماهم الدينية التي كانوا يمتلكونها ويقتاتون منها قبل هذا الاحتكاك.

الآن وضمن استراتيجات غرس قيم السوق، وتقديم المقاولة كنموذج مثالي لكل التنظيمات، فإن الصبر على حزب العدالة والتنمية لمدة عقد من الزمن، كان هدفه هو وضعه ضمن طاحونة اقتصاد السّوق، التي لا يمكن ضمنها للتضامنات الدينية والمرجعيات القدسية والترميقات الخطابية الشعبوية، أن تحافظ على حياتها طويلا وتؤمّن الوفاء لجمهورها بقضاياها وعروضها الدينية والدنيوية.

يتعلق الأمر باستراتيجية الإنهاك الناعم المفضي إلى صدمة الانهيار، دون قمع أو إقصاء أو إبعاد … ذاك هو منطق السّوق ومنطق الاقتصاد ضمن سياق العالم المعولم، سواء محليا أو دوليا.

  • بالنظر إلى المرجعيات السياسية، وقدرة السوسيولوجيا على تفكيكها، هل يرتاح الزاهي إلى التدبير المقاولاتي للدولة، الذي يفسّر به البعض طريقة تسيير الدولة من طرف حزب يشمل رجال الأعمال على غرار التجمع الوطني للأحرار؟ وأي خطورة يشكلها هذا التدبير على الدّولة؟

في إحدى محاضراته، قدم المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي، سردا تحليلياً مقارنا لأنماط الدول في كثير من المجتمعات واللحظات التاريخية (الدولة السلطانية والدولة الراعية…) وكان أن فصل في ما سماه “الدولة الشركة”، التي ترسي صلتها بمواطنيها على أساس المساهمة وليس المجاورة. الدولة الشركة يستقي أفرادها أولاً مواطنتهم من المساهمة فيها، أي لهم أسهم تخول لهم الحقوق، والأسهم المؤسسة هي تأدية المواطنين لواجباتهم وعلى رأسها الضريبة (وما أدراك ما الضرائب وتأديتها بالمغرب من طرف الرأسمال الكبير المتوحش)…

لكي يؤدي المواطنون مساهمتهم، عليهم أن يكونوا عاملين رسميين ونشيطين في قطاع مهيكل. ذاك هو شرط المواطنة وشرط الدولة الشركة. مشروع الدولة الشركة الآن مستبعد، والقريب هو الدولة – المقاولة، على الأقل بناء على كون القطاعات الأساسية التحتية، بدأت مراسيم بنائها على مقاس المقاولة تظهر، وبناء على كون هذه الدولة قد أرست معالم برنامج حكومتها المقاولة، والمتمثل في كراسة النموذج التنموي الجديد.

ما المشكل في كل هذا؟ إنه السؤال والمسألة الاجتماعية… نموذج المقاولة المؤسس على قيم السوق الجديدة، يقتل الحياة الاجتماعية بكل أبعادها الرمزية والاجتماعية والقيمية والجمالية والثقافية… يحتاج الأمر إلى تفصيل، لكن المقام لا يسمح!

  • كان اليسار حاضراً باحتشام في هذه الاستحقاقات، وأنت كتبت كثيراً عن اليسار، خصوصاً علاقته بالثقافة… ما مدى اتفاقك مع السّردية القائلة بأنّ بُعد تجربة اليسار المغربي عن الثقافة، والارتماء في أحضان “الوصولية” و”الشعبوية” و”نظرية المؤامرة”، من الأمور التي جعلت اليسار المغربي خارج السباق الانتخابي؟

حينما تثار لي وضعية اليسار بالمغرب، وأقصد اليسار بتلاوينه الاشتراكية والماركسية والتقدمية… وتنظيماته، سواء بعد تحصيل نتائج الانتخابات أو قبلها، أجد نفسي أمام السؤال التالي: لِم يصر اليسار على تنامي ضعفه السياسي والاجتماعي والفكري-الإيديولوجي؟ لِم يقدم على مبادرات ذات أهمية (عقد لقاءات مع مثقفين وباحثين، إنشاء مجلات فكرية وعقد ندوات وتأسيس فيديرالية تجمعهم…) ثم يغمر كل ذلك بنسيان هادئ؟ لِم لا يدفع طاقاته البشرية وباحثاته وباحثيه للتأمل الانعكاسي في وضعيته؟

النجاح في إقناع الخاصة والعامة بكون القرن الجديد قرن موت الإيديولوجيات السياسية والفكرية الكبرى، وكذا قطع حبل السرة بين الأحزاب ومرجعياتها الفكرية من جهة، والتنظيمات النقابية والمهنية من جهة أخرى، كان فرشة لإخصاب إيديولوجيا جديدة ذات مصدر ديني هذه المرة، وذات عروض مغرية سواء في الحياة أو بعد الممات، ليس بالمغرب فقط.

من الزاوية الفكرية، يمكنني القول بأن معضلة اليسار تسمى محمد عابد الجابري وبول باسكون. لقد دعا يوما ما المفكر محمد عابد الجابري، إلى تشكيل وتكوين ما سماه “بالكتلة التاريخية”، بوصفها الإطار الأوسع لتجميع مكونات اليسار. الرجل لم يكن من ذوي التفكير السهل أو المتسرع أو صاحب مصلحة حزبية أو سياسية أو طامع في منصب سلطة. لقد أسس فكرته على مراجعة لكل من ابن رشد وابن خلدون. ذاك تخصصه. قد يختلف معه المرء، لكن ما يصعب الاختلاف فيه معه، هو نتيجته، بكون دعواه لتشكيل كتلة سياسية تاريخية، راجع لكون المجتمع المغربي مجتمعا مركبا، و لا يمكن لحزب يساري واحد أن ينجح في تمثيله اجتماعيا و فكريا وقيميا ومصلحيا.

المجتمع المغربي مجتمع مركب، تلك هي نتيجة أطروحة بول باسكون، التي استقاها ميدانيا من اشتغاله العلمي على منطقة حوز مراكش.

يختلف الرجلان فكريا وسياسيا، لكنهما يجتمعان في يساريتهما وانشغالهما بأمور البلد، والأهم من كل ذلك هو الخلاصة والعصارة التي نطقاها بنفس القوة ونفس العمق.

ضعف اليسار من صَمَمِه، والذي جعله يستهلك بكل سهولة أسطورة موت المرجعيات والأفكار والتصورات، لدرجة أصبحت خطاباته مسطحة وغير قادرة على إنتاج المقترحات الوازنة والتعبئة لها وبها على المستوى العمومي. صمم جعله يفقد تضامناته الإيديولوجية والثقافية، ويهرول كثير من أفراده يمينا نحو حداثات تنظيمية وهمية. صمم جعله يستهين بالقوة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تكمن في تقارباته التنظيمية. صمم يرفع حينما يحل موسم الانتخابات ويعود إلى مرقده بعدها.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *