دين إبراهيم في “الجاهلية”: من هم الحنفاء؟ هل كانوا أفرادا أم فرقة؟ وما كانت كتبهم الدينية؟ 3/2 - Marayana - مرايانا
×
×

دين إبراهيم في “الجاهلية”: من هم الحنفاء؟ هل كانوا أفرادا أم فرقة؟ وما كانت كتبهم الدينية؟ 3/2

ما وصلنا عن عقائد الحنفاء وطقوسهم، نتفٌ إخبارية أوردتها كتب السيرة، ويظل الشعر “الجاهلي”، أهم ما حفظ لنا إلى اليوم بعضا من عقائدهم.

تابعنا في الجزء الأول بعضا مما يورده الباحثون، فيما يتعلق بانتقال الدين الإبراهيمي إلى العرب قبل ظهور الإسلام. في هذا الجزء الثاني، نتعرف عمن يكون الحنفاء، صفاتهم التي ميزتهم، وهل كانوا أفرادا أم جماعة؟ وما كانت كتبهم الدينية؟

أجمع أهل الأخبار على صفات عديدة ميزّت الحنفاء، منها أنهم لم يسجدوا للأصنام، لم يأكلوا ما يذبح للأنصاب، لم يعاقروا الخمر، كانوا يعتكفون في المغاور والبراري حيث ينقطعون للتعبد، كما أنهم في الغالب… كانوا فضلاء وذوي رأي سديد.

لهذه الصفات وغيرها، حظي هؤلاء في الإسلام بمنزلة حسنة، بل إن النبي، عدّ مصيرهم الجنة، رغم أنهم لم يسلموا، يذكر الباحث المصري عماد الصباغ[1].

فمن يكون هؤلاء الحنفاء إذن؟

لم تصلنا أيضا عقيدة الحنفاء الدينية، أو أيا من كتبهم الدينية. ما وصلنا عن عقائدهم وطقوسهم، نتفٌ إخبارية أوردتها كتب السيرة، فيما يظل الشعر “الجاهلي”، أهم ما حفظ لنا إلى اليوم بعضا من عقائدهم.

وصلتنا منهم فقط أسماء الذين عاشوا قبل ظهور الإسلام بقليل، أو من عاصروه منهم… ما وصلنا، يفصح عن انتشار واسع للحنفاء في شبه الجزيرة، ذاك ما نلمسه من أسمائهم القبلية، مثل:

قس بن ساعدة الإيادي، زيد بن عمرو بن نفيل القرشي، أمية بن أبي الصلت الثقفي… وغيرهم عديد.

يشير المؤرخ العراقي جواد علي[2] إلى أن الإخباريين خلطوا بين الحنيفية والرهبنة، لا سيما النصرانية منها… هذا الخلط أدخل في الحنيفية، من يورده ذات الإخباريين كنصارى في مواضع أخرى، ومن هؤلاء: قس بن ساعدة، ورقة بن نوفل، عثمان بن الحويرث، الذين يعتبرهم جواد علي من العرب المتنصرة.

اقرأ أيضا: النبوة والمسألة السياسية… حين وجد العرب في ادعاء النبوة سبيلا لسياسة الناس! 3/1

بالمناسبة، ينفرد عماد الصباغ برأي يعتبر فيه مدّعي النبوة، كـ الأسود العنسي، طليحة بن خويلد ومسيلمة بن حبيب، حنفاءً.

يبني ذلك على ما حازوه، إضافة إلى قدراتهم الشخصية، من ثقافة دينية توحيدية تمتد جذورها إلى ما قبل ظهور الإسلام، مكنتهم من إبهار محيطهم القبلي وقيادة أتباعهم في معارك دامية حد الموت ضد المسلمين.

لم تصلنا أيضا عقيدة الحنفاء الدينية، أو أيا من كتبهم الدينية. ما وصلنا عن عقائدهم وطقوسهم، نتفٌ إخبارية أوردتها كتب السيرة، فيما يظل الشعر “الجاهلي”، أهم ما حفظ لنا إلى اليوم بعضا من عقائدهم.

أحد أهم الشعراء الحنفاء هنا؛ أمية بن أبي الصلت، الذي خلّف قصائد تشهد على ما اعتقدوه.

اقرأ أيضا: الشعر ديوان العرب في الزندقة أيضا… قبل أن يطاله مقص رواة الأخبار! 2/1

إجمالا، تظل أهم المواضيع التي تعرض لها الشعر الحنيفي: التوحيد ورفض عبادة الأصنام؛ الإيمان بالبعث ويوم الحساب، القصص الديني وقصص الأنبياء؛ الموقف من تحريم الخمر وأكل الميتة؛ الملائكة والشياطين؛ الحكمة والموقف الأخلاقي والمعرفي.

إذا كان أهل الأخبار يجمعون على قراءة الأحناف للكتب، وتبحرهم في التوراة والإنجيل، بل ومنهم من وقف على السريانية والعبرانية، ومن ثم كانوا أصحاب حكمة، فإنهم اختلفوا في تداول الحنفاء كتبا دينية خاصة بهم.

على أن الباحثين، يقول الصباغ، يتفقون في أن الحنفاء لم يكونوا جميعا على ذات الرأي والاعتقاد؛ إذ لم يكونوا جماعة منسجمة، تنظمها حركة، وعلى هذا كانوا أفرادا لا تجمعهم رابطة ولا فرقة.

ذلك ما يؤكده جواد علي، الذي يقول إن الأحناف مجرد نفر من قبائل متفرقة، اتفقت فكرتهم فقط في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح.

لكن الصباغ يرى أن خصوصية الطقوس الحنيفية، كانت تختلف اختلافا طفيفا باختلاف القبائل التي ينتمون إليها؛ فطقوس حنفاء قلب الجزيرة في مكة والطائف، تتميز عن طقوس حنفاء اليمامة، وعن حنفاء اليمن، وكذا جنوب الجزيرة.

اقرأ أيضا: كيف بدأ عرب الجزيرة يعبدون الأصنام قبل ظهور الإسلام؟ ولادة هبل 1\3

الواقع أن اختلاف وتنوع المصادر الدينية التي نهلت منها العقائد الحنيفية، كانت وراء الخصوصية التي ميزت حنفاء كل منطقة جغرافية على حدة.

على أن أهل الأخبار، إذا كانوا يجمعون على قراءة الأحناف للكتب وتبحرهم في التوراة والإنجيل، بل ومنهم من وقف على السريانية والعبرانية، ومن ثم كانوا أصحاب حكمة، فإنهم اختلفوا في تداول الحنفاء كتبا دينية خاصة بهم.

قبل أن نخوض في ذلك، يشير جواد علي إلى أن جل الأحناف انتمى إلى أسر معروفة، وبيوت مرفهة، مكنتهم من شراء الكتب، باهظة الثمن آنذاك، كما مكنهم يسر الحال أيضا من زيارة بلدان متقدمة آنذاك، مثل العراق والشام، حازوا فيها على معرفة أكبر.

اقرأ أيضا: الترجمة إلى العربية: حين أدرك العرب أن العلم وحده المدخل إلى حياة الحضارة 4/1

ما ورد من كتب دينية تخص الحنفاء، نادر الذكر في كتب الإخباريين. مع ذلك، يشير بعضهم إلى وجود ما سمي بـ”صحف إبراهيم“، باعتبارها كتبا حنيفية خالصة.

وجود هذه الكتب يؤكد أن الحنفاء كانوا من القارئين الكاتبين، فطبيعي إذن أن يقوموا بتدوين أفكارهم ومعتقداتهم… أما أكثر ما يؤكد وجود مثل هذه الصحف، الإشارات التي وردت عنها في القرآن، بوصفها كتبا توحيدية كانت متداولة قبل الإسلام.

يشير بعضهم إلى وجود ما سمي بـ”صحف إبراهيم”، باعتبارها كتبا حنيفية خالصة.

يرد ذكر كتب أخرى أيضا لدى الإخباريين، مثل “مجلة لقمان” أو “صحف لقمان”. هؤلاء جزموا أنها مجرد مجموعة حكم وأمثال تدخل في إطار كتب الحكمة؛ لكن الصباغ يرى أنها تضمنت محتوى دينيا توحيديا أيضا.

نستشف ذلك من حنيف يدعى سويد بن صامت. حين دعاه الرسول إلى الإسلام، أراه سويد “صحف لقمان”، فقال له الرسول: “حسن، والذي معي أفضل منه، قرآن أنزله الله علي من هدى ونور…”، يورد جواد علي عن المؤرخ البلاذري.

اقرأ أيضا: في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس

من هذا الحديث المنسوب للرسول، نفهم أنه كان يقارن بين عقيدتين؛ الكلام القرآني والعقيدة التوحيدية للحنفاء.

الذي يهمنا هنا، وبغض النظر عما إذا كانت مجلة لقمان هذه كتبت في عهد لقمان “الحكيم” نفسه أو كتبت في القرن السادس للميلاد، هو أساسا الإشارة إلى وجود عقيدة مكتوبة خاصة بالحنفاء، وإن لم تصلنا فحواها.

في الجزء الثالث… هل الحنيفية مجرد تجميعة منقحة لعقائد الديانات التي كانت تجاورها؟

لقراءة الجزء الأول: الحنيفية: عن دين إبراهيم في “الجاهلية”! 3/1

لقراءة الجزء الثالث: دين إبراهيم في “الجاهلية”: هل الحنيفية مجرد تجميعة منقحة لعقائد الديانات التي كانت تجاورها؟ 3/3


[1]  عن “الأحناف… دراسة في الفكر الديني التوحيدي في المنطقة العربية قبل الإسلام”.
[2]  عن “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”.

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *