في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس - Marayana - مرايانا
×
×

في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس

رسخت الثقافة المحافظة في المتخيل الجمعي للعرب والمسلمين، أن مرحلة ما قبل الإسلام ـ الجاهلية ـ عرفت جهلا مطبقا على جميع المستويات، وأن العرب كانوا بُداة جفاةً يعيشون على الصيد …

رسخت الثقافة المحافظة في المتخيل الجمعي للعرب والمسلمين، أن مرحلة ما قبل الإسلام ـ الجاهلية ـ عرفت جهلا مطبقا على جميع المستويات، وأن العرب كانوا بُداة جفاةً يعيشون على الصيد والترحال، ويقاتلون بعضم البعض، ويئدون بناتهم، إلى أن أشرق نور الإسلام فأخرجهم مما كانوا فيه من جهل يعمهون.

لكن الحقيقة غير ذلك…

الحج شعيرة حافظت على طقوسها الأساسية بعد مجيء الإسلام، باستثناء تلك الطقوس التي كانت تحمل معنى الشرك.

الواقع أن شبه الجزيرة العربية كانت محاطة بالإمبراطورية البيزنطية في الشمال الغربي، والساسانية في الشرق، ومملكة اليمن في الجنوب، ومملكة إثيوبيا في الجنوب الغربي للبحر الأحمر. وقد كان لكل هذه الكيانات ثقافات وديانات وحضارات تنهل منها شبه الجزيرة العربية عن طريق الترحال وعن طريق النزوح والاحتكاك التجاري.

اقرأ أيضا: هؤلاء 10 من أشهر شعراء العرب… يهود ومسيحيون في زمن الجاهلية! (الجزء الأول)

لقد كان سكان شبه الجزيرة ينقسمون إلى قسمين أساسيين: قسم حضري يعيش على زراعة القمح وتمر النخيل في واحات خضراء نسبيا، وقسم آخر يعيش على الرعي والترحال والتجارة، يقطع شبه الجزيرة من شمالها إلى جنوبها. وقد كان القسم الثاني (الرحل) يغزو أهل الحضر، فيسلب ممتلكاتهم وحيواناتهم ونساءهم. وقد استطاع هؤلاء تكوين كيانات قوية تدور حول كبير القوم الذي اعتُبر سيد القبيلة.

أما أهل الحضر، فكانت لهم آلهة يعتقدون في سلطتها وقدرتها الفائقة؛ وهي عبارة عن أرواح تسكن الشجر والحجر. تدريجيا، حول أهل الحضر آلهتهم إلى مواقع\معابد يسعون لحمايتها، واعتبروا هذه الأمكنة حُرُما لا تمسها الحروب؛ فكانوا يمارسون شعائرهم التي من أشهرها الحج والعمرة.

للإشارة، فالحج شعيرة حافظت على طقوسها الأساسية بعد مجيء الإسلام، باستثناء تلك الطقوس التي كانت تحمل معنى الشرك.

اقرأ أيضا: هؤلاء 10 من أشهر شعراء العرب… يهود ومسيحيون في زمن الجاهلية! (الجزء الثاني)

سرعان ما فطن بعض أذكياء العرب إلى أن السلطة على المقدس قد تكون مصدر قوة، وقد تمهد الطريق إلى السلطة على الدنيوي\المدنس. هكذا، وبعد حرب ضد قبيلة بني صوفة، ثم قبيلة خزاعة، استطاع قصي بن كلاب القرشي، أحد أسلاف النبي محمد (وقد توفي سنة 480 ميلادية) أن ينتزع السلطة على الكعبة.

لما تولى قصي بن كلاب القرشي أمرَ الكعبة ومكة، جمع قومه من منازلهم إلى مكة، فملكوه عليهم، فخاطبهم قائلا: “هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت؟ والله لا يستحل العرب قتالكم ولا يستطيعون إخراجكم منه، وتسكنونه فتسودوا العرب أبدا”.

فقالوا: “أنت سيدنا، ورأينا تبع لرأيك”. فجمعهم ثم أصبح في الحرم حول الكعبة، (…) فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء وحاز شرف مكة كله جميعا[1].

شعيرة الحج كانت واحدة من أندر الشعائر التي تُجمع حولها كل القبائل العربية بما فيها تلك التي كان يفشو فيها دين سماوي مثل اليهودية والنصرانية

بعد أن ولي قصي أمر مكة، قال مخاطبا قومه: “يا معشر قريش، إنكم جيران الله وجيران بيته وأهل حرمه، وإن الحجاج زوار بيت الله؛ فهم أضياف الله، وأحق الأضياف بالكرامة أضياف الله، فترافدوا فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا، ولو كان مالي يسع ذلك قمت به”.

هكذا، فرض قصي عليهم خراجا يخرجونه مرتين من أموالهم، فيدفعونه إليه، فيصنع به طعاما وشرابا ولبنا وغير ذلك للحجاج بمكة وعرفة؛ فجرى ذلك من أمره حتى قام الإسلام[2].

اقرأ أيضا – حسين الوادعي: فذلكة تاريخية حول لغز الباب المسدود في الكعبة المشرفة.

ليس عبثا أن تولي قريش كل هذه الأهمية للديني/ الروحي/ المقدس (الكعبة ـ الحج ـ جوار الله…)، فلقد كان لهذا اللقاء السنوي بعد ديني، لأن شعيرة الحج كانت واحدة من أندر الشعائر التي تُجمع حولها كل القبائل العربية بما فيها تلك التي كان يفشو فيها دين سماوي مثل اليهودية والنصرانية.

لكن، إلى جانب هذا البعد الديني، فقد كان لهذه الشعيرة بعد تجاري وثقافي؛ حيث كانت تقام أسواق قرب وحوالي مكة، مثل سوق عكاظ الشهير بمسابقاته الشعرية، وسوق “ذي المجنة”. وهذا كان يعني رواجا تجاريا مُدِرا للدخل.

لقد حول قصي بقراره هذا قبيلة قريش من قبيلة ضعيفة تسكن الجبال والوديان ونواحي مكة، إلى قبيلة تمسك بالسلطة والغنى في العاصمة الدينية المقدسة. قبيلة استطاعت، فيما بعد، أن تسكن وسط الحرام وتصبح أنبل قبائل شبه الجزيرة. وهو ما سيواصل أحفاد قصي العمل به والسير في طريقه، باقتدار عجيب.

اقرأ أيضا: استواء الله على العرش: اختلاف المذاهب والقراءات

لما جاء الإسلام داعيا إلى تجاوز الديانتين السماويتين السابقتين، وإلى إلغاء الوثنية القرشية، كان يصيب في مقتل امتيازات أعيان قريش المادية والمعنوية المبنية على أساس المقدس.

ولعل في هذه الخسارة المزدوجة ما يفسر، ولو جزئيا، معارضة القبائل المؤثرة في قريش بشراسة للدين الإسلامي ولنبيه، وصلت حد محاصرته والسعي إلى التخلص منه جسديا؛ مما أجبره، بعد اثنتي عشرة سنة من المعاناة، إلى الهجرة إلى المدينة حيث سيضع بدوره الأسس الأولى لنشأة الدولة الإسلامية.

[1] ـ خليل عبد الكريم، قريش من القبيلة إلى الدولة، ط. الانتشار العربي، بيروت، ص 38
[2]  ـ نفسه، ص 39

*علي اليوسفي العلوي باحث مغربي

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *