هل كان الشعر “الجاهلي” مجرد أكذوبة؟ 1 - Marayana - مرايانا
×
×

هل كان الشعر “الجاهلي” مجرد أكذوبة؟ 1\3

لم يسلم أي أدب إنساني من التزيّد… كل أمة عرفت الإنتاج الأدبي، إلا ورافق الانتحال أدبها، تماما كحال العرب مع ديوانهم الذي واجهه البعض بكثير من النقد حتى بدا أنه مجرد أكذوبة.

الانتحال في “الشعر الجاهلي” كان أبرز القضايا التي أرّقت بال النقاد منذ القديم، بل وقد حاز مساحة مهمة في مؤلفاتهم… الواقع أن هؤلاء بذلوا جهدا كبيرا في تحقيق وتمحيص هذا التراث الشعري.

لكن… من يدعي أن أشعار امرئ القيس وعنترة وابن كلثوم وطرفة وغيرهم، ليست بأشعارهم في الواقع؟

عام 1926م، أصدر طه حسين كتابا عنوانه “في الشعر الجاهلي”، سرعان ما أثار ضجة كبرى لما فيه من تشكيك في صحة هذا الشعر. يومها، لاقى معارضة شديدة دفعت عميد الأدب العربي بعد سنة إلى إصدار طبعة أخرى معدلة ومنقحة، حملت هذه المرة عنوان “في الأدب الجاهلي”.

يقول المفكر المصري عبد الرحمن بدوي في تصدير كتابه: “دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي”: “كلما أتذكر الحملة الشعواء الهوجاء التي أثيرت حول كتاب “في الشعر الجاهلي” وبديله “في الأدب الجاهلي” للدكتور طه حسين، فإن غضبي لا ينقضي”.

لماذا لا ينقضي غضب بدوي؟

لغةً: نَحَل الشخصُ القولَ؛ أي نسبه إليه… وبإيجاز، يعني اصطلاحا: “نسبة الشعر لغير قائله، سواء أكان ذلك بنسبة شعر رجل إلى آخر، أو أن يدعي الرجل شعر غيره لنفسه، أو أن ينظم شعرا وينسبه لشخص شاعر أو غير شاعر، سواء أكان له وجود تاريخي أم ليس له وجود تاريخي”[1].

ببساطة، يقول مستطردا: “لأن ما قاله (طه حسين) عن انتحال الشعر الجاهلي وفساد رواته ورواياته وما أضيف إليه أو حذف منه، هو كلام سبق أن قاله وأشبع القول فيه علماء الأدب واللغة القدماء منذ القرن الثاني للهجرة وخصوصا في القرنين الثالث والرابع”.

واحد من أهم من أشبعوا القول في قضية الانتحال هذه، ابن سلّام الجمحي، الذي دوّن كثيرا من الملاحظات عن الشعر العربي القديم في كتابه “طبقات فحول الشعراء”.

قبل أن نطالع ما دونه ابن سلام هذا، دعونا نتعرف عما يقصد بالانتحال.

لغةً: نَحَل الشخصُ القولَ؛ أي نسبه إليه… وبإيجاز، يعني اصطلاحا: “نسبة الشعر لغير قائله، سواء أكان ذلك بنسبة شعر رجل إلى آخر، أو أن يدعي الرجل شعر غيره لنفسه، أو أن ينظم شعرا وينسبه لشخص شاعر أو غير شاعر، سواء أكان له وجود تاريخي أم ليس له وجود تاريخي”[1].

بالعودة إلى ابن سلام، فإن كتابه ذاك، حسبما يرى كثير من الباحثين، كان أول كتاب يشير وبتفصيل إلى مشكلة الانتحال في الشعر.

ولد ابن سلام في البصرة عام 139هـ، وكان أحد أهم وجوه الثقافة يومذاك؛ أول من تخصص في تصنيف الكتب النقدية، بعدما كانت الكتابات النقدية قبله عبارة عن فقرات متناثرة.

يقول في كتابه: “وفي الشعر مصنوع مفتعل كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب ولم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء”.

“وجود الأفكار الإسلامية في الآثار المقطوع بجاهليتها، دليل على وضعها وزيفها”

ابن سلام يرى أن هناك سببين أديا إلى الانتحال في الشعر العربي القديم. أولهما أن القبائل كانت تتزيد في شعرها لتزيد في مناقبها، ومن ثم فالعصبية القبلية سبب رئيس، وقد أشار في متن كتابه مطولا إلى ما نسبته قريش لشعرائها بذات الغاية.

أما السبب الثاني فكان الرواة. من بين هؤلاء، كان أكثر من حملهم ابن سلام مسؤولية إفساد الشعر “الجاهلي” في هذا الصدد، صاحب كتاب “السيرة النبوية”: ابن إسحاق.

“كان ممن أفسد الشعر وهجنه، وحمل كل غثاء منه: محمد بن إسحاق بن يسار، وكان من أعلم الناس بالسير… فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قط، وأشعار النساء فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهما أشعارا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف…”، يقول عنه ابن سلام.

هذا قديما، أما حديثا، فيعد المستشرق الإنجليزي ديفيد صامويل مرجليوث من أوائل من شككوا في صحة هذا الشعر، إذ ذهب إلى القول إن ما بين أيدينا ليس بشعر “جاهلي”، إنما شعر قيل بعد ظهور الإسلام.

مرجليوث ماثل بين لغتي القرآن والشعر العربي القديم، فوصل إلى أن “وجود الأفكار الإسلامية في الآثار المقطوع بجاهليتها، دليل على وضعها وزيفها”.

عبد الرحمان بدوي: “ما قاله طه حسين عن انتحال الشعر الجاهلي وفساد رواته ورواياته وما أضيف إليه أو حذف منه، هو كلام سبق أن قاله وأشبع القول فيه علماء الأدب واللغة القدماء منذ القرن الثاني للهجرة وخصوصا في القرنين الثالث والرابع”.

“واضح أن عنترة العبسي كان يعرف وحي القرآن ومصطلحات الإسلام”، يقول مرجليوث، كونه استخدم ألفاظا من قبيل “قبلة القصاد” و”الركوع والسجود” و”حجر المقام” و”الجحيم”، و”المحشر” وغيرها…

هكذا، يرى أنه ما من داع إلى الشك في أن عنترة كان مسلما تقيا صالحا، غير أن حياته يفترض أنها انتهت قبل ظهور الإسلام!

مرجليوث أوجد أيضا حيزا لمفردة “دنيا”، إذ قرر أن القرآن كان أول من استعمل هذا اللفظ للدلالة على الحياة أو هذا العالم، ثم يقول إن الشعراء “الجاهليين” كانوا على معرفة تامة بهذا التعبير ضاربا المثل بقول عبيد بن الأبرص “طيبات الدنيا” وقول ذي الإصبع “عرض الدنيا”[2].

أيا يكن، فإن معظم هذا الشعر وصلنا بالرواية الشفوية، وهي طريقة أحاط بها رواة ثقات وعلماء محققون، يقول حميد قبايلي، في مقاله المشار إليه في الهامش.

وإذا كان كثير من هذا الشعر تعرض للنقد، فبحسب حميد قبايلي، ما من شك في أن هناك نصوصا شعرية وفيرة من الشعر العربي القديم تعبر عن الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، تدل على أصحابها كما تعبر على الواقع الاجتماعي في إطار سياقه التاريخي.

في الجزء الثاني، نطالع تفاصيل رأي طه حسين، عميد الأدب العربي، في الشعر العربي القديم، ومقاربته لهذا الشعر اقتصاديا، لغويا، اجتماعيا ودينيا.

[1]  حميد قبايلي (الجزائر)، أستاذ محاضر في الأدب العربي، عن مقاله “قضية الانتحال في النقد العربي القديم بين التأصيل والتجديد”.
[2]  المصدر نفسه.

اقرأ أيضا:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *