سقوط غرناطة… آخر ممالك المسلمين في إسبانيا 3\10التاريخ الإسلامي لإسبانيا... من حضارة غير مسبوقة إلى محنة الدم والدين والطرد (الجزء الثالث)
أخيرا، بعد عقود من حروب الاسترداد، وقفت جيوش إيزابيلا وفيرديناند، كما رأينا في الجزء الثاني، على أبواب عاصمة إمارة غرناطة، آخر ما تبقى من الممالك في إسبانيا تحت الحكم الإسلامي: …
أخيرا، بعد عقود من حروب الاسترداد، وقفت جيوش إيزابيلا وفيرديناند، كما رأينا في الجزء الثاني، على أبواب عاصمة إمارة غرناطة، آخر ما تبقى من الممالك في إسبانيا تحت الحكم الإسلامي: غرناطة نفسها.
بات بمقدور أبي عبيدل وحاشيته إذن، أن يروا من قصر الحمراء، وعلى بعد بضعة أميال، خيام الجيوش النصرانية وأعلامها وراياتها المعسكرة في مرج غرناطة. كان ذلك في صيف عام 1491، وكانت المدينة التي تغنى باسمها الشعراء، النصارى والمسلمون، قد وصل بها الحال إلى بؤس مزر.
في نونبر عام 1491، دخل أبو عبيدل ومستشاروه في مفاوضات استسلام مع السكرتير الملكي القشتالي إيرناندو دي ثافرا، انتهت بتوقيع اتفاقية سرية في الشهر التالي، بتسليم المدينة في الـ6 من يناير 1942.
بين الفينة والأخرى، كان المسلمون، أو بالأحرى فرسانهم، ينفذون بضع هجمات خارج المدينة لتحدي الفرسان النصارى في قتالات فردية. كانت هذه المناوشات تصدق أحيانا، لكنها، وبعد كل ما حدث، لم تكن تجلب لسكان غرناطة المحاصرين، سوى العزاء النفسي.
أما النصارى، فقد أمّنوا مواقعهم، وآثروا تجويع غرناطة حتى الاستسلام، عوض تنفيذ هجمات متكررة. هكذا، طوال الصيف والخريف، نشرت قوات فيرديناند الدمار في الوديان والجبال، وحرقت القرى والمحاصيل والبساتين التي كانت تضمن القوت للمدينة.
اقرأ أيضا: “يهود الريف المغربي… حكاية وجود راسخ انتهت بـ”باتوا ولم يصبحوا!” 2/1”
لكن الشتاء آت، والشتاء انتهى بالمسلمين والتجار اليهود والعبيد الأفارقة والأسرى النصارى، وفق ما يرويه المؤرخ الإنجليزي ماثيو كار في كتابه “الدين والدم.. إبادة شعب الأندلس”[1]، إلى أكل الخيول والكلاب والجرذان.
ثم في نونبر عام 1491، دخل أبو عبيدل ومستشاروه في مفاوضات استسلام مع السكرتير الملكي القشتالي إيرناندو دي ثافرا، انتهت بتوقيع اتفاقية سرية في الشهر التالي، بتسليم المدينة في الـ6 من يناير 1492.
مع حلول صباح الفاتح من يناير 1942، ذهل سكان غرناطة بعد استيقاظهم بأن الحرب قد وضعت أوزارها وأن رايات قشتالة ترفرف فوق الأسوار الحمراء لقصر أبي عبيدل الفخم.
ولأن شائعات عن هذه المفاوضات أثارت احتجاجات عنيفة في ربض البيازين (الحي العربي بغرناطة)، طلب أبو عبيدل تقديم تاريخ التسليم خمسة أيام، أي في الثاني من يناير.
وفق المراجع التاريخية، فإن أبا عبيدل وكبار قادته لم يكونوا مهمومين سوى بمصير أنفسهم وعائلاتهم وممتلكاتهم، فقبلوا الحصول على ضيعات وأموال، دون اعتبار لمصالح شعبهم ودولتهم، حتى إن الوزير أبي القاسم بن عبد الملك ومعاونه، كتبا إلى النصارى خطابا يؤكدان فيه إخلاصهما واستعدادهما لخدمتهما فيما بعد.
حلت أخيرا ليلة أول أيام يناير كما اتفق، وسمح لقوات نصرانية بالدخول سرا إلى قلعة الحمراء… ومع حلول الصباح، ذهل سكان غرناطة بعد استيقاظهم بأن الحرب قد وضعت أوزارها وأن رايات قشتالة ترفرف فوق الأسوار الحمراء لقصر أبي عبيدل الفخم.
من هناك في الأعلى، من برج الريح، أو برج الحراسة كما تذكره المراجع العربية، أعلن صليب فضي ضخم انتصار فيرديناند وإيزابيلا اللذين كان يراقبان الوضع من مسافة قصيرة، ومعهما جيوشهما وحشد من الحاشية والنبلاء ورجال الدين.
اقرأ أيضا: “هذه حكايات 9 من أشهر الاغتيالات السياسية في صدر الإسلام… 3/1”
تعالت الهتافات المبهجة “قشتالة!” لدى رؤية الأعلام والصليب، ثم أُعلنت إيزابيلا ملكة جديدة لغرناطة… كانت العاطفة جياشة. يذكر المؤرخ الإنجليزي ماثيو كار أن الأشداء نفسهم تعالت أصواتهم بالبكاء فرحا وأخذوا يعانقون بعضهم بعضا.
ظل رعايا أبو عبيدل خلفه مهزومين في غرناطة، أغلقوا عليهم بيوتهم حتى بدت المدينة كأنها مهجورة، فلم يظهر في اليوم الأول لاستيلاء القوات النصرانية على غرناطة، مسلم واحد فيها.
صلت إيزابيلا شكرا لله، وتبعها الجيش كله، فيما كانت الجوقة الملكية تغني ترنيمة “لك الحمد يا الله”. بعد ذلك، قاد الكاردينال ميندوثا، رئيس أساقفة طليطلة، عرضا مهيبا للأبهة والقوة العسكرية القشتالية.
أما على الجهة الأخرى، فكان أبو عبيدل يخرج من قلعة قصر الحمراء، ويهبط التل ومعه حاشية من الفرسان والأقارب والخدم، حتى اقترب “الملك الصغير” كما أطلق عليه النصارى استهزاءً، من الملك فيرديناند، وناوله مفاتيح المدينة، التي ناولها بدوره إلى زوجته إيزابيلا.
في الأثناء، هلل المنادي الملكي: “صاحبا السمو الملك فيرديناند والملكة إيزابيلا، اللذين ربحا مدينة غرناطة وكامل مملكتها بقوة السلاح، من الأندلسيين الكفار”.
بعد ذلك، راح الحاكم المسلم الأخير للأندلس في طريقه بعيدا إلى المنفى، في ضيعاته التي منحت له في الجبال. لم توقفه غير زفرته الأخيرة، حينما أخذ يبكي حسرة على مملكته الضائعة (لا زال المكان إلى اليوم يسمى “زفرة الأندلسي الأخيرة”).
اقرأ أيضا: “تاريخ الحج قبل الإسلام: بين القطيعة والاستمرارية 1\3”
أما رعايا أبو عبيدل، فقد ظلوا خلفه مهزومين في غرناطة، أغلقوا عليهم بيوتهم حتى بدت المدينة كأنها مهجورة، فلم يظهر في اليوم الأول لاستيلاء القوات النصرانية على غرناطة، مسلم واحد فيها.
احتفلت كافة أنحاء إسبانيا لأخبار الاستسلام، بالولائم الشعبية والمواكب الدينية والقداسات الخاصة، واستمرت فيها المهرجانات والألعاب لأيام، كما قوبل فتح غرناطة في أوروبا بكاملها، بذات القدر من الحماس.
توجه فيرديناند وإيزابيلا مباشرة إلى قصر الحمراء، وقضيا فيه بقية اليوم حتى خرجا مساءً ونزلا إلى المدينة، ليتلقيا هتافات الجنود، بينما كان القصر يعد ويُجهز لاستقبال البلاط.
هذا اليوم بالنسبة لبعض المؤرخين المعاصرين الذين انتصروا لما حدث، كان “أسعد وأبهى يوم طلعت عليه الشمس في إسبانيا”.
يقول كتاب “الدين والدم.. إبادة شعب الأندلس”، إن سقوط غرناطة، بالنسبة للكاهن والمؤرخ الملكي، أندريس بيرنالديث، كان الخاتمة المجيدة لـ”الفتح المقدس والمهيب” الذي أثبت أن إسبانيا وحكامها كانوا مباركين من الرب.
بالنسبة إلى بيتر مارتر الأنغياري، العالم الإيطالي بالبلاط القشتالي، فقد كانت نهاية الإسلام الإيبيري تشير ضمنا إلى “نهاية مآسي إسبانيا” التي بدأت حين “جاء هذا الشعب الهمجي من موريتانيا قبل زهاء 800 سنة، وأنزل اضطهاده القاسي والمتغطرس بإسبانيا المحتلة”.
هكذا، احتفلت كافة أنحاء إسبانيا لأخبار الاستسلام، بالولائم الشعبية والمواكب الدينية والقداسات الخاصة، واستمرت فيها المهرجانات والألعاب لأيام، كما قوبل فتح غرناطة في أوروبا بكاملها، بذات القدر من الحماس.
اقرأ أيضا: “هكذا نشأت فكرة “الشيطان” لدى الإنسان الأول وتطورت حضارة بعد حضارة ودينا بعد دين 1\4”
أما نتائج سقوط غرناطة، فهي معروفة تاريخيا، فأخيرا سيحصل المغامر كرستوفر كولومبوس على إذن الملكين للقيام برحلات استكشاف قدمت في ما بعد لإسبانيا إمبراطوريتها الشاسعة في ما وراء البحار، وتحولت الطاقة العسكرية التي كانت موجهة للاسترداد، إلى غزو جديد باسم الدين.
هذا التطاحن الديني الذي كان يسوق في كتيبات معادية، ترك أثرا بالغا في نفوس كلا الفريقين، وسيكون له ما له على المسلمين الذين ظلوا تحت حكم الدولة النصرانية الجديدة.
على أنه، بالنسبة للمنتصرين والمسلمين المهزومين، الذين أصبحوا رعايا إسبانيا النصرانية الموحدة، فقد كان سقوط غرناطة فاتحة لنوع جديد من المواجهة التي لم يتوقعها أي من الطرفين.
لكي نفهم ذلك علينا أن نعود إلى الوراء قليلا… كانت الدعاية الحربية النصرانية تصور المسلمين على أنهم “عرق ملعون وكفار فاسقون وبرابرة دون مرتبة البشر، ووحوش لهم رؤوس كلاب لا يستحقون غير الإبادة”.
لم يكن الإسلام بالنسبة للنصارى دينا، بل “نِحلة ضالة وفيروسا مهلكا وإهانة للرب، وأتباعه وثنيون وزنادقة وعباد أوثان وعباد حجارة في إشارة إلى الكعبة”.
بالمقابل، كانت إسبانيا الإسلامية “تشوه وتحتقر النصارى، وتصفهم بأعداء الله، والكلاب والخنازير والفرنجة، وهو المصطلح الذي يعني أن النصارى الأوروبيين همجيون وقتلة ومنعدمي الثقافة”.
اقرأ أيضا: “في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس”
كل هذا التطاحن الديني الذي كان يسوق في كتيبات معادية، ترك أثرا بالغا في نفوس كلا الفريقين، وسيكون له ما له على المسلمين الذين ظلوا تحت حكم الدولة النصرانية الجديدة، فكيف دفعوا ثمنه؟ ذاك ما سنعرفه في الجزء الرابع من هذا الملف.
[1] مشار إليه في الجزء الأول من هذا الملف.
لقراءة الجزء الأول: التاريخ الإسلامي لإسبانيا… من حضارة غير مسبوقة إلى محنة الدم والدين والطرد 1\10
لقراءة الجزء الثاني: هكذا استرد النصارى إسبانيا من المسلمين… 10/2
لقراءة الجزء الرابع: بعد سقوط غرناطة: تسامح أولي ومحاولات تنصير… لدواعٍ اقتصادية وأمنية! 4\10
لقراءة الجزء الخامس: التاريخ الإسلامي لإسبانيا: التنصير القسري… بداية المحنة! 5\10
لقراءة الجزء السادس: وسُمع آخر أذان في إسبانيا… إلى حدود أواخر القرن العشرين! 6\10
لقراءة الجزء السابع: ثورة المورسكيين… أكثر الحروب الأهلية الإسبانية وحشية ودموية! 7\10
لقراءة الجزء الثامن: لأول مرة، فكرة طرد المورسكيين تطرح في بلاط الملك… 8\10
لقراءة الجزء التاسع: طرد المورسكيين واستئصال آخر بقايا الحضارة الأندلسية من إسبانيا 9\10
لقراءة الجزء العاشر والأخير: هل تصالحت إسبانيا اليوم مع ماضيها في الإبادة الدينية والعرقية؟ 10\10