هل تصالحت إسبانيا اليوم مع ماضيها في الإبادة الدينية والعرقية؟ 10 - Marayana - مرايانا
×
×

هل تصالحت إسبانيا اليوم مع ماضيها في الإبادة الدينية والعرقية؟ 10\10التاريخ الإسلامي لإسبانيا... من حضارة غير مسبوقة إلى محنة الدم والدين والطرد (الجزء العاشر والأخير)

خلال خمس سنوات، من 1609 إلى 1614، وكما تابعنا في الجزء التاسع، طرد ملك إسبانيا حينذاك، فيليب الثالث، قرابة 350 ألف رجل وامرأة وطفل من المورسكيين قسرا من بيوتهم، في …

خلال خمس سنوات، من 1609 إلى 1614، وكما تابعنا في الجزء التاسع، طرد ملك إسبانيا حينذاك، فيليب الثالث، قرابة 350 ألف رجل وامرأة وطفل من المورسكيين قسرا من بيوتهم، في واحدة من أكبر عمليات إبعاد السكان المدنيين في التاريخ الأوروبي.

عمل حكام إسبانيا منذ بداية القرن السادس عشر على تعميد كل المسلمين في إسبانيا قسرا في المذهب الكاثوليكي. منذ ذلك الوقت، وعلى مدى أزيد من قرن، عاش المورسكيون، رافضو التنصير، حياة خطرة وسط مجتمع نصراني سعى إلى استئصال تقاليدهم الدينية والثقافية.

اعتبر المؤرخون الإسبان المحافظون، في القرن التاسع عشر، أن طرد المورسكيين، معلم أساسي في التطور القومي لإسبانيا. بالمقابل، تبنى المؤرخون الليبراليون عموما موقفا أقل تأييدا للطرد.

مرد ذلك إلى إجماع صَوّر المورسكيين على أنهم جماعة أجنبية لها انتماءات سياسية ودينية خارج حدود إسبانيا، وأن أعضاءها رفضوا الاندماج، ومن ثم باتوا يشكلون تهديدا للسلامة الدينية لإسبانيا، وخطرا على الأمن الداخلي للدولة.

وفق كتاب المؤرخ الإنجليزي ماثيو كار، “الدين والدم.. إبادة شعب الأندلس” الذي تمت الإشارة له في الجزء الأول، والذي اعتمدناه مرجعا أساسا في هذا الملف، فإن قرار الطرد حينذاك لقي ترحيب أغلبية المؤرخين المرتبطين بالدولة.

هؤلاء اعتبروا الطرد قرارا جذريا يحقق التطهير الديني لإسبانيا، وأنه لا بد أن يجلب لها الرخاء والمكانة والنجاح العسكري. بيد أنه، بعد بضعة أعوام من انتهاء الطرد، بدأ كثير من الإسبان يرون ذلك خطأ، إن لم يكن كارثة.

اقرأ أيضا: “أحمد الخمسي يكتب: يا ظالمة!… أحاديث في الدولة والولاء”

أخذت الأجيال المتعاقبة بعدها تفسر ما حدث بطرق مختلفة، فاعتبر المؤرخون الإسبان المحافظون، في القرن التاسع عشر مثلا، أن طرد المورسكيين، معلم أساسي في التطور القومي لإسبانيا.

مانويل دانبيلا كولادو (1830-1906)، اعتبر مثلا أن الطرد، وإن “لم ينطو على أي شفقة أو رحمة بالموريسكيين، لكن الوحدة الدينية كانت تلوح في سماء إسبانيا متألقة مشرقة، ويا لسعد ذلك البلد الذي يكون متحدا في مشاعره الكبرى”.

أما أمين المحفوظات والحاكم المدني، فلورينسو جانيه (1831-1877)، فقد أثنى على فوائد الطرد، ذلك أنه جلب “وحدة الدين وأمن الدولة”، وأبعد “الحضارة الشرقية التي تفتقر إلى الأفكار والمقومات الأساسية للحضارة الحديثة”.

إجمالا، يشير ماثيو كار إلى أن غالبية المؤرخين اتفقوا على وحشية عملية الطرد بغض النظر عن مدى قبول أهدافها.

آخرون تناولوا الطرد من منظور عرقي، غير ديني. الناقد الإسباني مارسلينو مينيديث بيلايو، كتب في القرن التاسع عشر أنه “من الحماقة أن نعتقد أن المعارك الوجودية والصراعات الضارية غير الدينية بين الأعراق يمكن أن تنتهي بغير الطرد والإبادة، وعادة ما يستسلم الجنس الأدنى وتكون الغلبة في النهاية لمبدأ القومية الأقوى والأكثر عنفوانا”.

من جانبه، اعتبر المؤرخ العسكري فوللر، أن الطرد كان “صرخة بالدم من أجل عرق الشعب الإسباني وروحه، وهو دافع في غاية القوة”.

ورأى المؤرخان الفاشيان لويس برتراند والسير تشارلز بتري، في كتابهما “تاريخ إسبانيا” (1934)، أنه لولا إبعاد المورسكيين، لأصبحت إسبانيا “واحدة من تلك البلدان اللقيطة، التي تترك الأجانب يتقاسمونها ويستغلونها، ولا تمتلك فنا أو فكرا أو حضارة تميزها”.

اقرأ أيضا: “بعض من كلام: هؤلاء… هم أعداء الملك”

بالمقابل، تبنى المؤرخون الليبراليون موقفا أقل تأييدا للطرد عموما. المؤرخ الإسباني موندستو لافوينتي وصف في كتابه “تاريخ إسبانيا العام” (1850-1858) الذي يقع في ثلاثين مجلدا، طرد المورسكيين، بأنه “أبشع إجراء يمكن تخيله، وأنه أسهم يقينا في التراجع الاقتصادي والسياسي لإسبانيا لاحقا”.

أما مؤرخ محكمة التفتيش، المتأسبن الأمريكي هنري لي، فقد وصف عملية الطرد بكونها “انتصارا للتعصب الديني على المصالح العقلانية للدولة، إذ ضحى بالرخاء المادي والتطور الفكري لإسبانيا من أجل وحدة الدين”.

إجمالا، يشير ماثيو كار إلى أن غالبية المؤرخين اتفقوا على وحشية عملية الطرد بغض النظر عن مدى قبول أهدافها.

اعترفت الدولة الإسبانية رسميا بالإسلام في أثناء الذكرى الخمسمائة لفتح غرناطة، عام 1992.

كار يضيف أن إبعاد المورسكيين، كثيرا ما يوصف بكونه مأساة تاريخية، حكمت بالضياع على عشرات الآلاف من الرجال والنساء، الذين فقدوا بيوتهم وموارد أرزاقهم، فضلا عن حياتهم في حالات كثيرة.

اليوم، ومنذ عقود فقط، تطورت إسبانيا على نحو كان يستحيل تخيله. أول دستور ديمقراطي للبلاد، والذي صدر عام 1978، أقر التعددية الدينية، وبلد فيليب الثالث ومن معه ممن هندسوا الطرد، يعد حاليا من أكثر بلدان أوروبا تسامحا، وفق ماثيو كار.

اقرأ أيضا: “الإبادة الثقافية: الفظاعة الناعمة للبشرية! 2/1”

أكثر من ذلك، أصبح زواج المثليين مشروعا في إسبانيا. كما أصبح بإمكان الباسك والكتلونيين، التحدث بلغاتهم دون أن يعتقلوا أو يؤمروا بأن يتحدثوا القشتالية. أصبحت هذه الدولة ذات التاريخ المظلم مع التهجير والإبعاد، مقصدا أساسيا للعمال المهاجرين من العالم الثالث.

كثير من هؤلاء المهاجرين مسلمون من شمال إفريقيا. هكذا، أصبح بهم للإسلام، مرة أخرى، وجود كبير في المجتمع الإسباني؛ إذ يبلغ عددهم مليون شخص تقريبا، أي ما يزيد بقليل عن اثنين بالمائة من مجموع سكان إسبانيا.

المؤكد اليوم أن ذكرى الأندلس لم تعد مصدرا للخزي لإسبانيا، إذ يزور آلاف السياح سنويا، البقايا المعمارية لإسبانيا الأندلسية وقصر الحمراء والجامع الكبير بقرطبة ومدينة الزهراء والخيرالدة.

اعترفت الدولة الإسبانية رسميا بالإسلام في أثناء الذكرى الخمسمائة لفتح غرناطة، عام 1992. وجاءت لحظة أخرى فارقة في طريق تصالح إسبانيا مع ماضيها، عام 2003، حين بني مسجد جديد بغرناطة قبالة قصر الحمراء، بعد حملة دامت زهاء عشرين عاما من قبل المسلمين المحليين.

أما اللحظة التي شكلت دليلا دامغا على تصالح إسبانيا مع ماضيها، فكانت في رد فعل إسبانيا على تفجيرات قطارات مدريد عام 2004، إذ بعد أن تأكد ضلوع مسلمين في هذه الأحداث الإرهابية، لم يُعادَ المسلمون فيها.

اقرأ أيضا: “التسامح: مفهوم ينخره النفاق؟ 2\3”

على أنه، وبالرغم من هذا التبني الرسمي للتسامح، لا تزال بعض آثار الماضي جاثمة على بعض المتعصبين؛ ففي مارس 2001، دفع وزير الهجرة الإسباني إنريكو فيرنانديث ميراندا بأن اندماج المهاجرين في المجتمع الإسباني سيكون أسهل إذا اعتنقوا الكاثوليكية.

قبل ذلك، في عام 1982، سنت الحكومة الإسبانية قانونا يمنح الجنسية لأحفاد اليهود، الذين طردوا عام 1492، غير أن الإجراء نفسه لم يمنح لأحفاد المورسكيين.

المؤكد اليوم أن ذكرى الأندلس لم تعد مصدرا للخزي لإسبانيا، إذ يزور آلاف السياح سنويا، البقايا المعمارية لإسبانيا الأندلسية وقصر الحمراء والجامع الكبير بقرطبة ومدينة الزهراء والخيرالدة.

وبهذا، نصل إلى ختام هذا الملف، الذي تناولنا فيه تاريخ إسبانيا الإسلامي.

لقراءة الجزء الأول: التاريخ الإسلامي لإسبانيا… من حضارة غير مسبوقة إلى محنة الدم والدين والطرد 1\10

لقراءة الجزء الثاني: هكذا استرد النصارى إسبانيا من المسلمين… 10/2

لقراءة الجزء الثالث: سقوط غرناطة… آخر ممالك المسلمين في إسبانيا 3\10

لقراءة الجزء الرابع: بعد سقوط غرناطة: تسامح أولي ومحاولات تنصير… لدواعٍ اقتصادية وأمنية! 4\10

لقراءة الجزء الخامس: التاريخ الإسلامي لإسبانيا: التنصير القسري… بداية المحنة! 5\10

لقراءة الجزء السادس: وسُمع آخر أذان في إسبانيا… إلى حدود أواخر القرن العشرين! 6\10

لقراءة الجزء السابع: ثورة المورسكيين… أكثر الحروب الأهلية الإسبانية وحشية ودموية! 7\10

لقراءة الجزء الثامن: لأول مرة، فكرة طرد المورسكيين تطرح في بلاط الملك… 8\10

لقراءة الجزء التاسع: طرد المورسكيين واستئصال آخر بقايا الحضارة الأندلسية من إسبانيا 9\10

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *