الطريق إلى الإرهاب: واجب الجهاد ضدّ الجاهلية الجديدة
قطع سيد قطب نهائيا، مع ما اعتبرته الحركات السلفية السابقة انحرافا للمجتمعات الإسلامية. قطب اعتبر كل المجتمعات كافرة، وحدد خمس مراحل أساسية للحسم معها.
مراحل تنطلق من الفصل وتمر عبر الدعوة، لتنتهي إلى الحرب والتكفير والترهيب، لتعلن بعدها قيام “دولة الحاكمية لله”… ولتخوض حربا على كل من خالفها.
رأينا في الجزء السابق من هذا الملف، كيف شكلت مرحلة سيد قطب، منعطفا فارقا في تاريخ “الإخوان المسلمين”، وكيف تطورت مفاهيم العنف لدى الجماعة، حيث أن عددا كبيرا من شبابها، متأثرين بكتابات وخطب قطب، سينزعون نحو التطرف، فيما ستفرخ الجماعة تنظيمات أخرى راديكاليّةّ وأكثر تطرّفا، تتبنى جميعها قراءات تستلهم “أفكار” سيّد قطب، خصوصا في كتابه “معالم في الطريق”.
في هذا الجزء، نقف على أهم التغييرات التي أدخلها سيد قطب على “أفكار” الحركة وتوجهاتها.
لا شكّ أنّ مصطلح الجاهليّة الجديدة الذي كرّسه الفكر الأصولي لسيّد قطب واستعمله أخوه محمّد في كتابه “جاهليّة القرن العشرين”، هو من أخطر المصطلحات تأثيرا في الحركات الإرهابيّة.
لقد كانت التنظيمات السلفيّة الإصلاحيّة التقليديّة، بما فيها تنظيم الإخوان المسلمين، تنطلق من عدم الاعتراف بإسلام المجتمع والنّظم القائمة، وإنّما تسميها انحرافا غير واعٍ عن الإسلام الصحيح. هكذا، يتمثل الواجب، في نظرها، في العمل على إصلاحها على مراحل.
أمّا سيّد قطب، الذي تطرقنا لشخصيته ولكتابه الرئيسي في الجزء السابق، فقد قطع تماما مع هذه المجتمعات وجميع نظمها وحكم بكفرها، فارضا واجب محاربتها من قبل “العصبة المؤمنة”، مثلها في ذلك مثل جميع الشعوب الأخرى الكافرة في العالم.
مع بلوغ مرحلة التمكّن، حسب قطب، ينبغي أن “تكون المعركة قد قامت بين المجتمع الوليد الّذي انفصل بعقيدته وتصوّره وانفصل بقيمه واعتباراته وانفصل بوجوده وكينونته عن المجتمع الجاهلي”. هذه هي المرحلة الّتي ينبغي للجماعة أن تعلن فيها شعار التكفير مبدأ ومنهجا للتحريض على الجهاد وترهيب المتردّدين؛ ولا حكم في ذلك إلاّ للسّيف.
سيد قطب يضفي أيضا على هذه المجتمعات جميعا صفة الجاهليّة التي أطلقها جيل الوحي على ما كان عليه الناس قبل نزول الدعوة الإسلامية، لقد أُمر النبيّ المؤمنين بتخيير “الكفار” بين الإسلام والسيف، لذلك، أوجب قطب وضعهم أمام نفس الخيار اليوم أيضا، وقد أعلن لذلك “مانيفيستو” يقوم على جملة من المبادئ الأساسيّة المترابطة وهي:
أولا، التشخيص الكوارثي للوضع الكوني اليوم، وهو في ذلك يستعيد ما جاء في الأدبيّات الفاشيّة الأوروبيّة ما بين الحربين، مثل كتاب الفرنسي ألكسيس كاريل (A.Carel) بعنوان “الإنسان، ذاك المجهول”.
إقرأ أيضا: كيف بدأ عرب الجزيرة يعبدون الأصنام قبل ظهور الإسلام؟ ولادة هبل 1\3
وقد كانت لسيّد قطب ميول فاشية معروفة، الأمر الّذي جعله لا يمكث طويلا في حزب الوفد. وقد أعلن في كتابه “معالم على الطريق”، والذي تطرقنا له في الحزء السابق، أنّ “البشريّة اليوم تقف على حافّة الهاوية” بسبب “إفلاسها في عالم القيم”، رغم رفاهها المادّي غير المسبوق، بعد إفلاس الإيديولوجيّات الغربيّة من اشتراكيّة وليبراليّة وديمقراطيّة. لا منقذ إذن للبشريّة من الكارثة، إلاّ في الإسلام الّذي تعود إليه قيادة العالم.
ثانيا، الحاكميّة الإلهيّة والجاهليّة الجديدة : بعد أن أفرد قطب الإسلام بقيادة العالم، استدرك “أنّ الإسلام لا يملك أن يؤدّي دوره إلاّ أن يتمثّل في مجتمع أي أن يتمثّل في أمّة”.
والأمّة الإسلاميّة لم تعد موجودة منذ وفاة آخر صحابيّ في القرن الأوّل للهجرة، ثمّ رجع النّاس إلى “الجاهليّة” المستوجبة للتكفير. لأنّ “الأمّة المسلمة” عند قطب، “هي جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوّراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلّها من المنهج الإسلامي. هذه الأمّة، بهذه المواصفات، قد انقطع وجودها منذ انقطع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا”.
مقياس كون الأمّة مسلمة أم جاهليّة، حسب قطب، هو نوعيّة الحاكميّة: إلهيّة هي أم بشريّة. الجاهليّة عنده “تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخصّ خصائص الألوهيّة وهي الحاكميّة”.
تسعى “العصبة المؤمنة” في مرحلة أولى إلى إقامة نواة لهذه الدولة الإلهيّة على رقعة محدّدة من الأرض، لحماية كيانها وإعداد العدّة للتوسّع؛ لأنّ واجبهم إقامة هذه الدولة بالسلاح والدّم. من حقّ هذه الأمّة المسلمة ومن واجبها إعلان الحرب على كلّ من خالفها في الإيمان بحاكميّة الله، حاربها أم سالمها، “لإنقاذ الإنسان في الأرض من العبوديّة لغير الله، ولا يمكن أن يقف ذلك عند حدود جغرافيّة”.
بناء على ذلك، فإنّ ما كان يعرف تقليديّا بدار الإسلام قد تمّ إلحاقه بدار الكفر، ويحلّ عليه ما يحلّ على الكفّار عموما من تقتيل وأسر وسبي الأطفال والنساء. بذلك، ينقسم العالم إلى فئة صغيرة هي “العصبة المؤمنة” المسلمة ، أو الفرقة الناجية، وبقيّة البشريّة بأسرها لأنها عنده من الأقوام الكافرة الواجب حربها لإخراجها عنوة من وضع الجاهليّة أو إبادتها عن بكرة أبيها.
إقرأ أيضا: في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس
قياسا على عمل الرسول والصحابة، أعلن قطب أنّه لا يجوز “للعصبة المؤمنة” معايشة الجاهليين، ورسم للمؤمنين السلوك الواجب اتّخاذه مع هؤلاء على مراحل، حسب درجة الجاهزيّة والتمكّن:
المرحلة الأولى: هي المفاصلة الوجدانيّة، حيث يقول سيد قطب: “لابدّ من طليعة تعزم هذه العزمة وتمضي في الطريق. تمضي في خضمّ الجاهليّة الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعا. تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب ونوعا من الاتّصال من الجانب الآخر بالجاهليّة المحيطة”، تماما كما فعل الرسول (صلعم) في بدايات الدّعوة.
المرحلة الثانية: هي مرحلة الدّعوة الصّريحة، حيث يعتبر قطب أنه، عندما تتوفّر الشروط الضروريّة الدّنيا، تشرع “العصبة المؤمنة” في نشاط دعوي لا هوادة فيه، ولا مساومة “لإقرار عقيدة لا إله إلاّ الله بمدلولها الحقيقي، وهو ردّ الحاكميّة لله في أمرهم كلّه”، ومطالبتهم بإعادة إعلان الشّهادة على هذا الأساس
المرحلة الثالثة: هي مرحلة المفاصلة النهائيّة: عند جمع العدد الكافي من هؤلاء المؤمنين الجدد، تنفصل “عصبة المؤمنين” عن المجتمع الجاهلي، باعتباره مجتمعا معاديا لا يحلّ الاتّصال به بأيّ رابط مهما كان تسامحه مع وجود الجماعة، الّتي لا ينبغي لها التصالح “مع واقع المجتمع الجاهلي”، بل إنّ مهمّتها الأولى “هي تغيير واقع هذا المجتمع”. وهذه المرحلة تقابل مرحلة الهجرة في سيرة الرسول.
الأمّة الإسلاميّة لم تعد موجودة منذ وفاة آخر صحابيّ في القرن الأوّل للهجرة، ثمّ رجع النّاس إلى “الجاهليّة” المستوجبة للتكفير. لأنّ “الأمّة المسلمة” عند قطب، “هي جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوّراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلّها من المنهج الإسلامي. هذه الأمّة، بهذه المواصفات، قد انقطع وجودها منذ انقطع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا”.
المرحلة الرابعة: هي مرحلة خوض المعركة، إذ مع بلوغ مرحلة التمكّن، تبادر “العصبة المؤمنة” المجتمع الجاهلي بالحرب، كما بادر الرسول قريشا بالغزو، وذلك لأنّه، في هذه المرحلة، ينبغي أن “تكون المعركة قد قامت بين المجتمع الوليد الّذي انفصل بعقيدته وتصوّره وانفصل بقيمه واعتباراته وانفصل بوجوده وكينونته عن المجتمع الجاهلي”. هذه هي المرحلة الّتي ينبغي للجماعة أن تعلن فيها شعار التكفير مبدأ ومنهجا للتحريض على الجهاد وترهيب المتردّدين؛ ولا حكم في ذلك إلاّ للسّيف، انطلاقا من قوله تعالى في سورة التوبة: “إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقّا…”
إقرأ أيضا: العكاكزة: قصة طائفة مغربية جعلت من الجنس الجماعي وزواج الكبيرة بالصغير طقوسا تعبدية 1\3
المرحلة الخامسة والأخيرة: تتعلق بإقامة دولة الحاكميّة لله. هنا، تسعى “العصبة المؤمنة” في مرحلة أولى إلى إقامة نواة لهذه الدولة الإلهيّة على رقعة محدّدة من الأرض، لحماية كيانها وإعداد العدّة للتوسّع؛ لأنّ واجبهم إقامة هذه الدولة بالسلاح والدّم. من حقّ هذه الأمّة المسلمة ومن واجبها إعلان الحرب على كلّ من خالفها في الإيمان بحاكميّة الله، حاربها أم سالمها، “لإنقاذ الإنسان في الأرض من العبوديّة لغير الله، ولا يمكن أن يقف ذلك عند حدود جغرافيّة”.
هذه خلاصة الأفكار التّحريضيّة التي عبّر عنها سيّد قطب في “معالمه”، والتي ينطبق عليها تماما مصطلحنا “مولوتوف السّيادين”، الذي كنّا قد وضّحناه في الجزء الخامس من هذه المقالات.
سنحاول، في الجزء القادم والأخير، توضيح نقاط الضّعف والمراوغة فيها.
لقراءة الجزء الأول: التنظيم السرّي عند الإخوان: بحث في المرجعيات ـــ بحث في النشأة
لقراءة الجزء الثاني: التنظيم السرّي عند الإخوان: بدايات الظهور – الجزء الثاني
لقراءة الجزء الثالث: النظام الخاص الإخوانيّ من التكوين إلى التنفيذ (1)
لقراءة الجزء الرابع: النظام الخاص الإخوانيّ من التكوين إلى التنفيذ (2)
لقراءة الجزء الخامس: الإخوان المسلمون: الطّريــق إلى الإرهــاب 1
لقراءة الجزء السادس: الإخوان المسلمون: السّلفيّة من الفكرة إلى الدّعوة فالجهاد
لقراءة الجزء السابع: الإخوان المسلمون: خطّة الإخوان لأسلمة المجتمع والهيمنة عليه
لقراءة الجزء الثامن: الطريق إلى الإرهاب: خطّة الإخوان لاختراق الدّولة والسّيطرة عليها
لقراءة الجزء التاسع: عسكرة الرّعب: من الجهاز الخاصّ إلى الجماعة المقاتلة. تعاليم سيد قطب