ثورة القرامطة: نحو عدالة اجتماعية… مفقودة! 3\4
“أغلب الظن أن القرامطة لجأوا إلى نظام الألفة لإعداد الأتباع وتنظيم الكفاح ضد المخالفين، حيث انصرف الجميع لخدمة الدعوة وتحقيق أهدافها، بدلاً من العمل لكسب قوتهم؛ لأن هذا النظام كفل للجميع حياة رغدة، كما أنه مكن جميع القرامطة من حمل السلاح، فكان نظام الألفة عندهم وسيلة لا غاية”…
رأينا في الجزأين الأوّل والثّاني الدّوافع الاجتماعية التي أدّت إلى ظهور القرامطة من رحم الإسماعيلية الشيعية، وكذلك الانشقاق بين الحركتين الذي دفع حمدان بن الأشعث قرمط إلى وضع خطة صارمة للدعوة بمعية صهره.
في هذا الجزء الثالث، نقدم نظرةً عن الفئات التي ضمتها الحركة القرمطية، وكيف سهرت الدولة على خدمة هذه الفئات، بحثاً… عن معنى العدل الاجتماعي في الواقع.
طه حسين حين تكلم عن القرامطة، ربطهم إلى جانب ثورة بابك الخرمي وثورة الزنج، ليقول: لعل أخص ما تمتاز به هذه الثورات الثلاث أنها كانت تقصد إلى تغيير الحياة الاقتصادية، بحيث تغيير توزيع الثروة بين الناس، وتحقيق شيء من العدل والمساواة بين الأفراد والجماعات. [1]
كما يذهب طه حسين إلى “أنها كانت تقصد كذلك تقوية الشخصية الفردية، وتحريرها من القيود والأغلال التي فرضها عليها النظام الديني والسياسي والاجتماعي”.
العدل: لمّ شمل الكادحين
ساهمت الخلافة الإسلامية، منذُ أن كانتْ أمويةً، في ظهور الإقطاع وملكية الأراضي وفرض الضرائب على الكادحين والفقراء، فضلاً عن الأمم المغلوبة الأخرى… تحت عنوان الجزية!
لكنّ الدعوة القرمطية ارتأت، كما تشيرُ المصادر، إلى أن تدخل تحت رايتها كلّ المتعبين والمقهورين في زمن الخلافة العباسية، وتوحّدهم للثورة.
تنقسمُ الفئات المنتمية للقرامطة إلى[2] :
- أهل السواد: وهم الفلاحون النبط في منطقة البطيحة، وقد ذهب المستشرق دوزي إلى أن النبطيين كانوا “يريدون أن يتمتعوا بما في هذا العالم من خيرات، وحين وعدهم حمدان قرمط بامتلاك العالم دون منازع، عمل ذلك الأمل في نفوسهم عمل السحر، وأخذوا ينضمون إلى دعوته”.[3]
- الزنوج: “المجندون لأعمال السخرة في البصرة”.
- الزط: “وهم فقراء الهنود، وكانوا فلاحين”.
- الأكراد: “المضطهدون من قبل الترك والفرس والعباسيين”.
- العرب الفقراء: “المجندون في الجيش العباسي وقد انضموا للحركة أيضاً”.
- البدو الأعراب: “وهم جماعة بادية السماوة وبادية الشام”.
نباهة حمدان قرمط، كما يؤكّدُ الباحث ياسر جاسم قاسم، جعلته يفطنُ إلى استحالة استقطاب الأتباع، إلاّ بالركون إلى رفع مستواهم المعيشي، وانتهى الأمر بوضع جماعته أموالهم كلها لديه. [4]
أقنعهم بأنه “لا حاجة بهم إلى أموال تكون معهم، لأن الأرض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم، وساعده هذا التنظيم على مد يد العون إلى المعوزين من أنصاره، حتى أنه لم يبق بينهم فقير ولا محتاج، وهذا ما حدا بلويس ماسينيون إلى الاعتقاد بأن حركة حمدان هذه، إنما هي حركة إصلاحية شاملة، كانت ترمي إلى إيجاد مجتمع يتمتع بالرخاء التام”. [5]
بهذا، تكون هذه الطبقات الدنيا في المجتمع أدركت أنّ انضواءَها تحت لواء الحركة القرمطية، ينتصبُ على بنيان اجتماعي يروم تحقيق العدالة الاجتماعية وتوحيد الغاية للقضاء على العنصرية، التي أذكتها الخلافة لتشتيت الأعداء وشرذمتهم، كما تذهب بعض المصادر.
كان نظام اشتراكية المال هو سبيل توحيد صفوف الكادحين، حيثُ يقول أحد الدارسين: “أغلب الظن أن القرامطة لجأوا إلى نظام الألفة لإعداد الأتباع وتنظيم الكفاح ضد المخالفين، حيث انصرف الجميع لخدمة الدعوة وتحقيق أهدافها، بدلاً من العمل لكسب قوتهم؛ لأن هذا النظام كفل للجميع حياة رغدة، كما مكن جميع القرامطة من حمل السلاح، فكان نظام الألفة عند القرامطة وسيلة لا غاية”. [6]
لعلّ هذه الفئات التي جئنا على ذكرها لا تميّز بين الرجال والنساء، كيف؟
ببساطة، لأنّ الباحثين المعاصرين، من عيار حسين مروة ومحمود إسماعيل ومحمد عبد الفتاح عليان، يجدُون أنّه حدثت مساواة فعلية بين النساء والرجال في دولة القرامطة، وتبوأت النساء مكانة اعتبارية لمشاركتهن الفاعلة في كل مهام الدولة، إسوة بالرجال، إضافة إلى تحمّلهن لكلّ الأعباء.
كما كان للنساء دور هام وإيجابي في مؤسّسات دولة القرامطة ومشاركة فاعلة في النّظام الجديد. لقد انخرطن في الدّعوة إلى الفكر القرمطي، قبل إنشاء الدولة في الكوفة، وشاركن في المعارك وفي الطواف على الجرحى وتقديم المساعدة. اعترفت لهن الدولة بالحقوق التي لم تكن مألوفة قبل ذلك، كما يقول الباحث ذو الفقار سويرجو، في مقاله: دولة القرامطة، أول جمهورية اشتراكية في التاريخ 286هـ – 378هـ.
لا مراء أنّ هذه المساواة كلّفت القرامطة تُهمة الإباحية والسّقوط في “الشيوعية” الجنسية. لكنّ عليان يرى أنّ ما حظيت به النساء من احترام لدى القرامطة، وقوّة الرابطة الزوجية عندهم، لا تتّسقُ ومنطق الإباحية”.
مجلس العقدانية: الراعي للعدالة!
ينقلُ المستشرق بندلي جوزي عن ناصر خسرو ما أورده الأخير في سفر نامة “أنه رأى في الأحساء ثلاثين ألفا من السودان يشتغلون في الحقول والبساتين على حساب العقدانية، وهي الحقول التي اشترتها بمال الأمة، وأن الشعب هناك لم يكن يؤدي لحكومته ضرائب ولا أعشاراً، وأنه إذا كان يصيب أحدهم فقر أو كان يقع تحت دين لا سبيل إلى وفائه، كانت العقدانية تسلفه ما يحتاج اليه من الدراهم إلى أن يصلح حاله، وكان إذا استدان من أحد دراهم لا يدفع له عند حلول الأجل إلا ما استدانه منه، أي بدون فائدة”.
مجلس العقدانية هذا، كما تقول المصادر التاريخية، عُرف بوجود طبقة مستنيرة عاقلة تتقلّد سدة الحكم، ويتّصف رئيسها بالعدل والخلو من روح الاستبداد، على أن يسترشد بجماعة الشورى التي عرفت بالعقدانية، أي أصحاب الحل والعقد، ومبدأ الشورى وهو عصب الديموقراطية السياسية في الإسلام.[7]
هذه الجماعة تقعُ على قدم المساواة مع الحاكم الذي هو أحدهم، ولا يمتاز عنهم في شيء ويحكم بالعدل والإنصاف، وفق نصيحة أقرانه، فهو السيد وهم مستشاروه، والجميع من رجال الدعوة المحيطين بأسرار العلم والحكمة. [8]
الانبهار بهذا النموذج في التراث، دفع الباحث محمود إسماعيل، نقلاً عن مصطفى الخشّاب، إلى التساؤل: أليست هيئة الحكم هذه شبيهة بحكومة الفلاسفة، عند أفلاطون، التي أدركت المعاني الكلية للعدل والجمال والخير الأسمى، ولا ينفرد واحد منهم بالسلطة بل تتولى جماعة الفلاسفة المشورة؟
حسين مروة، من ناحية أخرى، يجدُ أنّ النّظام السياسي لجمهورية القرامطة في البحرين، كان يختلف، جوهريا، عن الأنظمة السياسية الأولغارشية السائدة في العصر الوسيط. [9]
مواطنو الجمهورية ينتخبون أعضاء مجلس العقدانية من أسرة سليمان أبي طاهر وأعوانه المقربين أو غيرهم ممن يثقُون بهم من ذوي الدرجات العالية في منظمة الحركة، وهناك ستة وكلاء لأعضاء المجلس. [10]
المجلس يصدر مقرراته في شؤون الجمهورية بالإجماع. ويبدو أن هذا الشكل من النظام السياسي ظل متبعا في جمهورية البحرين حتى الزمن الذي زار فيه ناصر خسرو هذه الجمهورية (سنة 1052م).
في مقال للباحث كاظم حبيب بعنوان “الحركة القرمطية“، يتحدّث نقلاً عما جاء في كتاب سفر نامة لصاحبه ناصر خسرو أنه “في الحسا مطاحن مملوكة للسلطان تطحن الحبوب للرعية مجاناً، ويدفع فيها السلطان نفقات إصلاحها وأجور الطحانين”.
فكيف انتقلت الدعوة القرمطية من العراق إلى البحرين لتتخذ شكلاً عملياً وواقعياً كهذا ؟
هذا ما سنراه في الجزء الرابع والأخير من هذا الملف.
هوامش:
[1] عبد اللطيف، عبد الرحمن الراوي، المجتمع العراقي في شعر القرن الرابع للهجرة، مكتبة النهضة، بغداد، 1971..
[2] جاسم قاسم ياسر، القرامطة والعدالة الاجتماعية، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2018.
[3] المرجع نفسه.
[4] نفسه.
[5] عليان محمد عبد الفتاح، قرامطة العراق: في القرنين الثالث والرابع الهجريين، الهيئة المصرية العامة للتاليف والنشر، 1970.
[6] المرجع نفسه.
[7] إسماعيل محمود، الحركات السرية في الإسلام، سينا للنشر، الطبعة الخامسة 1997.
[8] المرجع نفسه.
[9] مروة حسين،النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، المجلد الثالث، دار الفرابي، الطبعة الثانية 2008.
[10] المرجع نفسه.
- الجزء الأول: القرامطة: عن… ثورة الكادحين في الإسلام! 1/4
- الجزء الثاني: القرامطة: براعة التنظيم الدعوي… وتفجير أبرز تجربة “اشتراكية” في التاريخ الإسلامي! 2\4
- الجزء الرابع: قرامطة البحرين: جمهورية “اشتراكية” رائدة… لكن عنوانها الدّماء! 4\4
مقالات قد تثير اهتمامك:
- الأشعرية: بداية تشكل الاستدلال العقلي عند جماعة أهل السنة والجماعة 1\3
- تعرّضوا للظلم والإقصاء… من هم الخوارج؟ وما أهمّ فرقهم في التاريخ العربي الإسلامي؟ 1/4
- محمد رشيد رضا… مُجهضُ النّهضة الإسلامية والمنقلب على التيار الإصلاحي 1/3
- جورج طرابيشي… أن تنذر حياتكَ لإيقاظ العقل العربي
- محمد شحرور… المفكر الإسلامي الذي نظر للقرآن بعيون القرن الحادي والعشرين! 1/3
- حينما رفس القوم ابن تيمية لتجسيده “جلوس” الله 2/2
- “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)