نبيل فازيو لمرايانا: الأنظمة تغتال الفكر النقدي والدعوة إلى تجفيف منابع الإرهاب النصية مجرد سحابة صيف عابرة… 1/2
يعدّ نبيل فازيو، الأستاذ الجامعي الباحث في الفلسفة السياسية والدراسات الاستشراقية، بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، من الأسماء التي باتت لافتة في ساحة النقاش كلّما تعلّق الأمر بتيمات فقه السياسة الشرعية الإسلامية أو نموذج الدولة من منظور فقهاء الإسلام.
“دولة الفقهاء: بحث في الفكر السياسي الإسلامي”، كان من الثمار الأولى التي ساهمت في أن يلمع نجمُ نبيل فازيو، سيما بعد أن عدّ باحثون هذا الكتاب بمثابة عودة فكرية عميقة لتحليل مقولات السياسة الشرعية وخطاباتها.
فازيو، عبر هذا الكتاب، حاول تفكيك خطابات الفُقهاء ونظرتهم الذهنية للدولة والسلطة، معتمداً في ذلك على مكانزمات الفكر السياسي الحديث، ومكتسباته في التحليل.
… في هذا الحوار مع مرايانا، يتحدث نبيل فازيو، مؤلف كتاب الرسول المتخيل؛ قراءة نقدية في صورة النبي في الاستشراق (مونتغمري واط ومكسيم رودنسون)، عن مقاربته الخاصة لمفهوم الحاكمية عند سيد قطب ومن معه، ثمّ نظرته لدعوات تجفيف منابع الإرهاب النصية، وكذلك نظرته للعلمانية.
- في كتابك “دولة الفقهاء”، حاولت أن تسبر أغوار الدّولة الدينية من زاوية وجودها في الواقع. لكنّ مفهوم الحاكمية لم يظهر بشكل جليّ إلاّ مع سيد قطب، وقبله مع المودودي، وبشكل ما، مع الخوارج… ألم تقف في التّراث الإسلامي، الذي درستَ، على مفهوم قريب من فكرة “الحَاكمية” بالمعنى القطبي “الإحيائي”، أي الذي يربط أصول الإيمان والدين بالخلافة؟
يصعب أن نجد في التراث السياسي الفقهي الكلاسيكي مفهوما يضارع مفهوم الحاكمية كما تم الترويج له في الأدبيات الإسلامية المعاصرة. لهذه الأخيرة سياقها التاريخي الذي حملها على نحت هذا المفهوم، وقد كان من الطبيعي، بالنظر إلى مضمونها السياسي والإيديولوجي، أن تعمل على تأويل التراث الإسلامي وفق منظورها الخاص، بل وأن تعمد إلى احتكار القول فيه وتحريم المساس به، وهذا ما يفسر النبرة الإقصائية الحادة في حديثها عن الآخر المغاير، خاصة الآخر الذي ينافسها الحقّ في تأويل التراث الديني والسياسي الإسلامي.
في دولة الفقهاء اشتغلت على نموذج الدولة كما تمثله خطاب فقه السياسة (الفقه السياسي والسياسة الشرعية). انطلقت من سؤال بسيط: عندما فكر فقيه ينتمي إلى حقبة الإسلام الكلاسيكي، مثل الماوردي أو الجويني أو ابن تيمية، في الدولة، ما الذي كان يقصده تحديدا بهذه العبارة؟ هل يقصد بها المُلك؟ الحكم؟ نظام الحكم؟ جهاز المؤسسات الذي يسهر على تنظيم الحياة اليومية للرعية وضمان أمنها واستقرار وضعها؟
وقد كانت أوَّل خطوة في هذه الدراسة، هي تعليق الأحكام التي رسخت في أذهاننا عن تمثل الفقهاء للسياسة والدولة، وخاصة منها، ذلك الحكم القائل إن الدولة في تصور هؤلاء كانت تنزيلا لمقولات دينية على الواقع ليس إلاَّ.
الغريب في الأمر أنَّ القراءات الأصولية تتقاطع، في هذه النقطة بالذات، مع القراءات الاستشراقية؛ فكما يرى الأصوليونَ أن الإسلام يربط الدولة بالدين (الإسلام دين ودولة)، فكذلك يرى بعض المستشرقين أن سبب تخلف الفكر السياسي الإسلامي أنه حاصر فكرة الدولة بالرؤية الدينية الضيقة. لكن هل هذا صحيح؟ يتحدث الفقهاء عن هندسة الدولة وبنائها، وهم يعرفون أن معظم أجهزةالدولة الإسلامية كان عبارة عن مؤسسات تحدرت إليهم من تجارب سياسية سابقة؛ من فارس وبيزنطة خاصة. لكنهم لا يكتفون، خلافاً للمؤرخين، بوصف الواقع وتحليله، وإنما يسعون إلى إضفاء المشروعية عليه حتى يصير واقعاً مقبولاً من الناحية المعيارية. يمثل الدين منبعاً من منابع هذه المشروعية، لكنه ليس مصدرها الوحيد الممكن، والماوردي، مثل كثير من الفقهاء، يتحدث عن مشروعية القوة ومشروعية المال، ويعترفُ في نهاية المطاف بإمارة التغلب، التي كانت العنوان الأكبر لمشروعيةٍ غير دينية.
لم يجد الماوردي كبير صعوبة في تسويغ هذا الواقع من الناحية الشرعية، فقد وجد تحت تصرفه قاعدة التجويز، فجعل من مهمة الفقه السياسي إخراج الواقع -أي واقع التغلب- من الحظر إلى الجواز. في هذه الحالة، لا يُمكن أن نحصر المشروعية السياسية في بعدها الديني فقط، لأنَّ الواقع هنا هو الذي يفرض نفسه على العقل السياسي، والأحكام الشرعية التي تعج بها الكتابات الفقهية في السياسة جلها كان عبارة عن تطويع للشرع مع الواقع القائم من أجل تقبله والتعايش معه.
- لكن، على ضوء هذا المعطى ما الذي يمكنُ أن نفهمه؟
ببساطة، الذي علينا أن نفهم هنا، هو لجوء فقهاء السياسة إلى قواعد ومبادئ ذات مفعول نسبي واضح، من قبيل الضرورات تبيح المحظورات، ما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب، إلخ. هنا، تحديدا، وقع خلط بين الشرع والدين، وتم تأويل التشريعات السياسية بمنظور ديني من طرف اللاحقين، وسرعان ما تم الخلط بين نموذج الدولة الدينية التي عرفتها أوروبا إبان العصر الوسيط، والدولة في التجربة الإسلامية الكلاسيكية.
يمكن أن أعطي مثالاً بسيطا له دلالته في هذا السياق. لا نستطيع الحديث عن دولة بعيداً عن الاقتصاد ومنطقه. لدينا أدبيات فقهية كثيرة تنظر لاقتصاد الدولة في التجربة الإسلامية وتحدد الأحكام الشرعية المنظمة له. عندما نقرأ، على سبيل المثال لا الحصر، كتب الخراج ككتاب القاضي أبو يوسف، أو كتب الحسبة كالذي تركه ابن سماك أو كتب تدبير بيت المال كما نجد نموذجها عند البلاطنسي وابن سودة، ما هو الإسلامي أو الدينيُّ في هذه الكتب؟
هل نجد اقتصادا يشتغل وفق منظور ديني صرف، أم اجتهادات غايتها تمكين الدولة من موارد وفيرة وتوجيه تدبيرها؟ هل دفع الخراج للدولة يضمن للفرد الجنة؟ يبدو هذا السؤال تافهاً، لكنه يصير مهما عندما نتذكر أن الدولة الدينية، دولة الكنيسة والإكليروس، كانت تعتبر شراء صكُوك الغفران شرطاً ضرورياً لدخول الجنة.
لكن، لا نغفل أن التراث السّياسي في الإسلام عرفَ تصوراً عن الشّرعية الدينية للدّولة، ونافح فقهاؤه من أجل اعتبارها النموذج الأمثل للمشروعية. بيد أنهم كانوا على وعي بأنها نموذج مثالي يصعب تنزيله، وطفقوا يفكرون في نموذج ممكن، هنا تبدأ واقعيتهم. لا يهم مدى مطابقتها للواقع، لكنها تشي بإدراكهم أن هناك تمايزا بين مجال الممكن ومجال المطلق. مشكلة القراءات الأصولية للتراث الفقهي السياسي أنها تغض الطرف عن هذا الجانب الواقعي، وترسم صورة عن هذا التراث باعتباره تقعيدا لدولة دينية لا مجال لمناقشة صلاحية نموذجها.
- ذهب عبد الإله بلقزيز إلى القول بأنّ الصّحوية الإسلامية، في خطابها، انبنت على سيولة غير معقولة من الاستشهاد القرآني، بطريقة عشوائية تتجاهل سياق النّص، وتتعامل معه على نحو إطلاقيّ يخلّ بمعناه الأصل. في اعتقادك، أيمكن للتّصالح مع التّاريخ وقراءة النصوص في سياقها الزمنيّ مع مراعاة “أسباب النزول”، أن يقينا شرّ الإرهاب في المِنطقة مثلاً؟
السّؤال يجمع بين الإرهاب من جهة، ومشكلة قراءة النص، الديني منه خاصة، من جهة ثانية. لستُ من الذين يختزلون الإرهاب في مشكلة التأويل المغلوط للنص الديني، لأنه ظاهرة يتقاطع فيها السياسي بالديني والاستراتيجي، وتتغذى على ثقافة متجذرة تقتات بدورها على رؤية عدمية إلى الآخر والوجود معاً، وتنتعش في لحظات الصدام بين ذاتٍ تتجرع مرارة الهزيمة وانسداد الأفق التاريخي أمامها، وآخرها الذي ترى فيه سبب هزيمتها وأفق عدميتها.
إلا أنّ هذا لا ينفي أهمية الملاحظة الواردة في السؤال، ففي حمأة سيطرة داعش على مناطق واسعة من العراق وسورية وليبيا، كنا نسمع تأويلات متطرفة لآيات قرآنية وأحاديث، بل لأحكام فقهية مستلة من متن ابن تيمية خاصةً. وقبلها، كنا نشهد الأمر نفسه مع القاعدة وما تناسل منها من حركات متطرفة. بل ويمكن أن نلحظ الأمر نفسه في المواقف المتطرفة التي ما انفكت جماعات دينية غير إسلامية تعرب عنها، كبعض التيارات اليهودية الصهيونية المتطرفة، التي ترتكز على تأويل متطرف لنصها الديني.
هذه ظاهرة ليست تخص الإسلام، ولا أظنّ أنه من الصواب رمي القرآن بالتحريض على العنف، فقط لتضمنه آيات تدعو إلى الجهاد والقتال وإقامة الحدود. آيات نزلت في سياقها التّاريخي الذي يعرفه الصغير والكبير، ولا يمكن تعميم أحكامها على الدين الإسلامي وحضارة المسلمين ككل.
التأويل العنيف للنص ظاهرة تخص الثقافات المنتسبة إلى الديانات التوحيدية لأنها تمتلك نصوصا “مقدسة” تأسيسية، وتتغدى من تأويلاته المستمرة التي تبقي عليه نصا حياً وفعالا في الحياة اليومية للمؤمنين به.
- هل يمكنك أن تقدّم بعض التّوضيحات هنا؟
طيب، ماذا نقصد بالنص الديني عندما يتعلق الأمر بالتّطرف؟ هل الشّخص الذي يفجر نفسه أو يقدم على قتل الأبرياء، يقرأ القرآن فقط، أم أنه مشحون بأفكار منتزعة من مصادر أخرى غير القرآن، بتأويلات غير مؤسسة من الناحية المعرفية، لكنها فعالة من الناحية النفسية؟ وما الذي حدث لهذا الشخص حتى فقد أبسط قدرة على التفكير؛ التمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ؛ أي أنه فقد الحسّ المشترك في أبسط تجلياته؟
من المؤكد أن القرآن ليس وحده النص المقدس عند الخطاب الإرهابي المتشدد، بل نصوص الحديث والفقهاء كما شُرحت له وكما تمثلها كذلك. لكن، هذه ليست المشكلة كاملةً، بل هناك أرضية أسهمت فيها التربية والتعليم؛ غياب الحسّ النقدي الذي عمدت الأنظمة على اغتياله عن سبق الإصرار والترصد.
لذلك تبدو الدعوة إلى تجفيف منابع الإرهاب النصية كأنها سحابة صيف عابرة. كم مرة سمعنا من هذا المفكر أو ذاك عن علاقة النص القرآني بالعنف والمقدس؟ كم مرة دعا أحدهم، بصرف النظر عن موقعه ونيته، إلى حذف هذا المقطع أو ذاك من النص القرآني لأنه يحرض على العنف والتشدد؟ هل لهذه الدعوة من مفعول أو فائدة على مستوى التلقي العام للقرآن؟!
سمعنا، مراراً وتكراراً، عن مؤسسات، حتى لا أقول عن سلط، دينية في العالم الإسلامي تقوم بتعديل فتاوى ابن تيمية وإعادة النظر في سياقها التاريخي. هل كان ذلك كافيا لحل مشكلة الإرهاب؟
لا قيمة لكل هذه الخطوات، إذا لم تكن مصحوبة بإرادة حقيقية لإرساء دعائم تعليم يقوم على الحس النقدي؛ فإعادة قراءة النص الديني، في السياق الثقافي الإسلامي، ليست مجرد إبدال لحكم بحكم، ولنص بآخر، ولا مسألة ترتيق هذا المسند أو ذاك، بل هي تمرين العقل على اكتشاف المعنى انطلاقا من قدرته على النقد، وتشبعه بالحس التاريخي، وهي تحتاج بذلك إلى ثقافة نقدية حاضنة لها تكاد أن تكون غائبة عن أفقنا الثقافي في الوقت الراهن.
يعني هذا، أن إعادة قراءة النص الديني، ليست عملية سهلة كما نتخيلها، أو أنها ستنجز بين عشية وضحاها، من طرف هذا المفكر وحده أو ذاك، وإنما هي عملية معقدة، تجمع بين تخصصات معرفية كثيرة قد لا يكون بمقدور الباحث الواحد أن يلم بها كاملة، لكنها تثير خوف الجميع؛ الدولة والوعي الجمعي معاً، بسبب افتقارنا إلى ثقافة النقد.
خذ مثلاً عملية نقد النص الديني في التقليد الغربي، فقد انطلقت منذ نقد لورينزو فالا لهبة [وديعة] قسطنطين؛ ومن بعده مع نقد اسبينوزا للكتاب المقدس اعتمادا على المنهج اللغوي، وصولا إلى بولتمان وفكرته عن نزع الأسطرة، وإلى ما يعيشه اللاهوت المسيحي منذ بداية القرن العشرين من رجات واهتزازات بسبب حدَّة النقد. في سياق هذا النقد، تمت إعادة النظر في المفاهيم الأساسية للمعتقد المسيحي؛ التمييز بين يسوع وعيسى، بين يسوع التاريخي ويسوع المتخيل، الاعتماد على الأركيولوجيا في إعادة بناء تاريخ المسيحية؛ التشديد على البعد الرمزي للقصص والحكايات الدينية؛ الكشف عن الأصول القديمة لهذه القصص، مراجعة جغرافيا الكتاب المقدس. إلخ. هل أثر ذلك في تلقي المؤمن المسيحي لعقيدته؟ هل تخلّى الغرب عن المسيحية فعلا بعد هذا النقد؟
قد يقول البعض إنَّ المثقفين العرب لم يقوموا بكامل واجبهم في عملية تأويل النص الديني، خلافا لما أنجزه الباحثون الغرب. هذا كلام لا أساس له. لدينا أسماء قدمت أعمالا قوية في هذا المجال لا داعي لذكرها. لكن، علينا أن نتذكر أنه من الظلم أن نقارن بين موقع الناقد العربي، الذي يعش في المجتمع الإسلامي ويشتغل وهو مهجوس برد فعل الوعي الجمعي والسلطة السياسية، والباحث الغربي الذي يشتغل داخل مجتمع تشبع بتقبل النقد وحرية التعبير. لذلك، نجد باحثين عرباً كبار مبرزين في نقد الكتاب المقدس لم يجرؤوا على فعل الأمر نفسه في تناولهم للتراث الديني الإسلامي. كمال صليبي يبقى النموذج الأظهر في هذا السياق.
… لكن ما هي نظرة نبيل فازيو للعلمانية؟ وكيف يقرأ المشاريع الفكرية المعاصرة التي حاولت تفكيك التراث الإسلامي؟
هذا ما سنراه في الجزء الثاني من هذا الحوار!
- الجزء الثاني: نبيل فازيو لمرايانا: العلمانية مرفوضة لأن مآل الهزيمة فرض نوعاً من التشرنق على الذات… ولا أحد يستطيع ادعاء امتلاك التراث! 2/2
مقالات قد تثير اهتمامك:
- محمد رشيد رضا… مُجهضُ النّهضة الإسلامية والمنقلب على التيار الإصلاحي 1/3
- “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)
- التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!
- محمد شحرور… المفكر الإسلامي الذي نظر للقرآن بعيون القرن الحادي والعشرين! 1/3
- محمد شحرور… من تحديث النص الديني إلى إنصاف المرأة ومواجهة التيارات السلفية والإخوانية! 2/3
- محمد شحرور… عندما نادى المفكر الإسلامي بتجفيف منابع الإرهاب داخل النص الديني! 3/3
- “نصوص متوحشة”… عن خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/1
- حينما رفس القوم ابن تيمية لتجسيده “جلوس” الله 2/2
- “قول في التسامح” بعد أحداث فيينا ونيس… لمَاذا يحتاجُ الإرهَابيّون باسم الدّين إلى قِراءة فكْر فُولتير! 1/2
- اغتيال فرج فودة: حين يحاكم القاتل… قتيله!
- الأمن الروحي… مفهوم “مستحدث” لمواجهة التطرف أم حجر على حرية التعبير؟ 2/1
- ذكرى الأحداث الإرهابية لـ 16 ماي: من هنا كانت البداية!