في مفهوم الديمقراطية: عن أنماطها… وأبرز شروطها 3\4
تابعنا في الجزء الأول من هذا الملف (تجدون رابطه في الأسفل)، بدايات نشوء الديمقراطية في أثينا وحدودها، ثمّ انتقلنا، في الجزء الثاني، إلى الحديث عن التلاقي الذي حدث بين الديمقراطية والجمهورية والانتقال للتمثيل النيابي.
في هذا الجزء الثالث، نرصد أشكال الديمقراطية وأبرز شروطها، بينما سنخصص الجزء الرابع والأخير لتطور مفهوم الديمقراطية في المغرب.
الديمقراطية في الأصل هي عدوّ للاستبداد والأنظمة الشمولية والحكم الفردي… أو لنقل، هكذا كان حمضها النووي، قبل أن يصير نظام بوتين ديموقراطية، وتصبح أنظمة التسلط والواجهات الديموقراطية… ديموقراطيّة.
تطوّرت الديمقراطية كنقيض للنظام الذي يجمع السلطات في يد شخص واحد أو سلطة محددة. ناهضت الديمقراطية في تصوّراتها ما لا يسمح بالتعدّدية السّياسية ولا الحزبية في الدولة. وللوصول إلى منتهى القطع مع الديكتاتورية، تمخضت عن الفكرة الديمقراطية ديمقراطيات وفروق بين كل تجربة وأخرى.
فما هي أنماطُ الديمقراطية إذن؟
من أنماط الديمقراطية!
بحسب التّصنيفات السائدة لأنماط الديمقراطية، فإنّ الديمقراطية الكلاسيكية هي التي تمتدّ جذورها لليونان، وبالضبط أثينا، كما فصّلنا في الجزء الأول من هذا الملف.
يعكسُ النمط الكلاسيكي، في النهاية، تلك الديمقراطية المباشرة التي يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه.
فيما بعد، بعدها، سادت الدّيمقراطيات النيابية، حيث ينتخب الجمهور من ينوب عنه، كما رأينا في الجزء الثاني من الملف.
مكّنت الديمقراطية التّمثيلية المَلكيات أن تصبح ديمقراطية، دون اللجوء إلى الشّكل الجمهُوري لنظام الحكم، كما هو الحال اليوم في بريطانيا وإسبانيا وهولندا وبعض الدّول الإسكندنافية.
في سويسرا أيضا، هناك نمطٌ ظلّ محطّ إعجاب بالنّسبة للكثير من الذين بحثوا في الديمقراطية، وهو الديمقراطية المباشرة أو شبه المباشرة إن صحّ التعبير.
في سويسرا، ثمّة آليتان تجسدان مفهوم هذا النمط من الديمقراطية، ويُعتَمدُ عليهما في النظام السياسي السويسري. يتعلق الأمر بالمبادرة الشعبية والاستفتاء الشعبي.
بهذا المعنى، يكون باستطاعة الشعب السويسري توقيع عرائض وتقديمها للسلطة، وحين تستوفي العريضة الشروط المنصوص عليها، يعرضُ مضمونها للاستفتاء الشعبي.
طبعاً، ذلك يتمّ بعد تقديم المبادرة إلى الحكومة الفدرالية التي تحدد موقفاً تجاهها، ثم تمرّر كلاً من المبادرة ووجهة نظرها إلى البرلمان.
هكذا، تعتبر سويسرا أن كلمة الشعب هي الكلمة الفصل في كل القرارات الحيوية والهامة.
ثمّ توجدُ الديمقراطية الاجتماعية، التي انتشرت وذاعَت آراؤها في مواجهة الرأسمالية،قبل الثورة الروسية، وكانت محاولات تدريجية سياسية واقتصادية للتحول من قسوة الرأسمالية الحادة في العالم إلى وضع مقبول. [1]
ظهرت فكرة الديمقراطية الاجتماعية خصوصاً في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر. كانت في البداية أفكاراً هجينة، تنهلُ من الماركسية ومن تعديلاتها، ثم كان للمفكر الألماني برنشتاین دور في صياغتها الأخيرة، وفي فكّ الوصال بينها وبين الماركسية أيضاً. [2]
هذا الفيلسوف كان، بعكس ماركس، يرى أن تحسن وضع العمال قادم وسيطور من الديمقراطية والرأسمالية الليبرالية. إلاّ أن نجاح الثورة البلشفية في روسيا واتضاح قطب اشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي، أثّرت على هذا التّصوّر.
لكن، بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الديمقراطية الاجتماعية مطلباً يرفعُ في ألمانيا وبريطانيا وشمال أوروبا، وطور أنموذجاً خفّف من حدة الرأسمالية، وأفاد من الفشل الشيوعي في التّنمية.
لا تزال الديمقراطية الاجتماعية، التي تعتمد الديمقراطية سياسياً لتحقيق العدالة الاجتماعية، فكرة مرفوضة لدى الرأسماليين، سواء في بريطانيا أو أمريكا.
في الولايات المتحدة الأمريكية، كان الرأسماليون يحذّرون من سیاسة الرئيس باراك أوباما، وكانوا يعدّونها أقرب للاشتراكية الديمقراطية الأوروبية “الفاشلة” أو القريبة من الشيوعية. [3]
الديمقراطية الحديثة عادةً، تتخذُ شكلان، أولهما البرلماني، الذي على إثره يتمّ انتخاب البرلمان، أي الجهاز التشريعي؛ ثمّ، من الجهاز التشريعي عموماً، وبحسب الأغلبية، يجري انتخابُ الجهاز التنفيذي من الأغلبية أو المجموعة الفائزة، وغالباً تتشكّل الحكومة من أعضاء البرلمان الفائزين، والحزب الذي ينافس ولم ينتصر ينتقلُ تلقائياً للمعارضة داخل البرلمان.[4]
إذا ما أردنا مثالاً لذلك، فالأمر واضح في بريطانيا، إذ ينتخب المواطنون أعضاء البرلمان، والغالبية في البرلمان تنتخب رئيس الوزراء، وهو وحزبه يختارون جهازهم التنفيذي، وهذا في أغلب النّظم المَلكية الدستورية، التي تنتخب رئيس وزراء.
أما الشكل الثاني، فيتعلّقُ بالدّيمقراطية الرئاسية التي تنتخب رئيس الدولة. يحدثُ هذا غالبا في الجمهوريات. في هذه الديمقراطيات، عادةً ما يتمّ إجراء عمليتين انتخابيتين: الأولى لانتخاب البرلمان والثانية لانتخاب الرئيس.
أحياناً، ينتخب مع الرئيس نائبه، كما في النظام الأمريكي، بطريقة منفصلة عن انتخاب الجهاز التشريعي. الرئيس المنتخب، في هذه الحالة، يختار فريقه التنفيذي غالبا من خارج الكونغرس، بشرط إقرار ذلك من الكونغرس؛ رغم أنه، عملياً، قليلة هي المناصب التي تحتاج إلى إقراره.
من شروط الديمقراطية
يشرحُ أستاذ القانون الدستوري عبد الرحيم العلام لمرايانا الشروط التي تسمحُ بنعتِ نظامٍ سياسيّ ما… بالديمقراطيّ. لعلّ أبرزها ما يلي :
- حرية الإعلام والحق في الوصول إلى المعلومات وتداولها بين المواطنين والسماح للسلطة الرابعة في مراقبة السلط الثلاث الأخرى: التنفيذية والتشريعية والأمنية.
- حرية التّعبير دون شُروط ودون قيود، باستثناء ما تنصّ المواثيق الدولية على تجريده من حرية التعبير، كالإقصاء والعنصرية والميز ضد النساء والإرهاب وخطاب الكراهية والتخوين.
- حرية العقيدة، إذ لا يمكن بالقطع إقصاء الأقليات الدينية.
- انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية تضمنُ التنَاوب السّلمي على السّلطة. هذا الشّرط يمكنُ أن ينعَدم حتى في وجود انتخابات دورية، إذ، حين تغدو هناك سلطة مركزية تقليدية أبوية، فالانتخابات تغدو عديمة القيمة ولا تؤثر في التغيير السياسي. بالتالي، فانعدام هذا الشّرط يسحب عن بلد معيّن صفة الديمقراطية.
- الديمقراطية لا تحتمل قوانين تمسّ الحقّ في الحياة، لا تحترم قرينة البراءة أو إمكانية وجود المحامي أثناء التحقيق.كما أنها، بالضّرورة، لا تقبل ممارسات التعذيب في حقّ السجناء والمواطنين… بهذا ظهرت الديمقراطية الحديثة كمرادف لحقوق الإنسان في كونيّتها.
- التعددية الحزبية، وبالتحديد التعددية السياسية، لأنه ثمة فرق بين وجود كثرة الأحزاب المتشابهة في الخطّ الأيديولوجي والمرجعية والأهداف والتصورات، وبين وجود تعددية سياسية حقيقية: يميني، ليبرالي، ويساري و”إسلامي”…
- حرية المجتمع المدني، بما أنّ الانتخابات لا تقدم للأحزاب الحاكمَة باسم الدّيمقراطيّة شيكاً على بياض لتفعل ما تشاء طيلة أربع أو خمس سَنوات. لذلك، من الضروري أن يقوم المجتمع المدني بالمراقبة والتظاهر والاحتجاج لتنبيه الحكومات المنتخبة لأخطائها. لذلك كان كانط يقول إن الثّورة هي البُند السّري في الدّساتير.
على أيّ، فإنّ هذه الشروط بالذّات لا تقبل أن تُجلد بسياط الخصوصية الثقافية أو أي أسلوب آخر للممانعة. وكلّ بلد يختلّ فيه بندٌ من هذه البنود تعتبرُ ديمقراطيته، إن وُجدت، معيبة أو لاغية.
تبعاً لهذه الشّروط، هل يمكنُ عدّ المغرب بلدا ديمقراطيًّا؟
سنتابع الإجابة في الجزء الرابع والأخير من الملف.
هوامش:
[1]الأحمري محمد، الديمقراطية: الجذور وإشكالية التطبيق، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2012.
[2] المرجع نفسه.
[3] نفسه.
[4] نفسه.
- الجزء الأول: الدّيمقراطية؟ عودة للجُذور… منذ أثِينا اليونانية! 1\4
- الجزء الثاني: الديمقراطية في روما… الطريق إلى الجمهورية! 2\4
- الجزء الرابع: الدّيمقراطية في المغرب… النّموذج الذي لمْ يُفهم بعد! 4\4
مقالات قد تثير اهتمامك:
- موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات.. 2/1
- الفيديوهات الجنسية المُسرّبة: عندما يصبح ممتلكها “بطلا” افتراضياً! 1/2
- علي اليوسفي العلوي يكتب: الإسلام: دين ودنيا، أم دين ودولة؟
- هشام روزاق يكتب. ذكرى 20 فبراير وبنكيران: زمن “التقاعــس” الاستثنائي
- سناء العاجي: حريات… لا أولويات
- حركة 20 فبراير وحرية المعتقد