الديمقراطية في روما… الطريق إلى الجمهورية! 2 - Marayana - مرايانا
×
×

الديمقراطية في روما… الطريق إلى الجمهورية! 2\4

وقفنا في الجزء الأول من هذا الملف (تجدون رابطه في الأسفل)، على بعض التعريفات الشائعة للديمقراطية، وقمنا بإلقاء قليل من الضوء على منشأ الفكرة الديمقراطية في أثينا.
في هذا الجزء الثاني، نبحثُ عن الكيفية التي تطوّرت بها فكرة الديمقراطية إلى أن التقت مع الفكرة الجمهورية، ثمّ بالطبع مع فكرة التّمثيل النيابي.

نحو النظام الجمهوري

تمتدّ فكرة النظام الجمهوري إلى أحد أشهر نقّاد الديمقراطية اليونانية: أرسطو.

على نحو أوضح، فإن السعي لفهم الأفكار السياسية لهذا النظام بشكل عملي، يجعلنا ننظر إلى الحكم الجمهوري، لا في أثينا، بقدر ما يُنظر إليه في عدوّتها أسبارطة، بل وفي روما والبندقية (فينيسيا). [1]

هكذا، نتيجة انتهالها من المنبع الأرسطيّ، وتطوّرها بفعل قرون طويلة من تجارب روما الجمهورية وجمهورية البندقية، راكمت فكرة الديمقراطية إبّان أواخر عصر النهضة الأوروبية تطوّراً لافتاً.

حين أدخلت الديمقراطية إلى الجمهورية، لم تعرف التقاليد الجمهورية صياغة جديدة فحسب، بل خضعت لإعادة تفسير وتحديد معالم جديدين أيضاً، وذلك خلال القرنين السابع عشر والثّامن عشر في كل من إنجلترا وأمريكَا، بعد الصّراعات الأهلية التي حدثت وقتها.[2]

انحرفت الجمهورية في البداية عن فكرة الديمقراطية الأثينية، إلاّ أنها، في نفس الوقت، استفادت منها واشتركت معها في كثير من الافتراضات.

اعتمد مبدأ الحكم الجمهوري على الرأي الشائع في الفكر السياسي الإغريقي، ديمقراطياً كان أم مناهضاً للديمقراطية، والقائل بأن “الإنسان بطبيعته مخلوق اجتماعي وسیاسي، وبأنه، من أجل إنماء وتطوير ما لدى الناس من إمكانات، فينبغي لهم العيش معاً. وبأن الإنسان الفاضل يجب أن يكون أيضاً مواطنا فاضلاً”. [3]

و…”بأن الدولة الفاضلة ما هي إلا اتحاد قوامه مواطنون فاضلون. وبأن المواطن الفاضل يتحلى بالفضيلة المدنية. وبأن الفضيلة نزوع إلى البحث عن الخير للجميع في الأمور العامة، وبذلك لا يعكس نظام الحكم الجمهوري الفاضل ما يتميز به مواطنوه من فضيلة فحسب، بل يسعی كذلك إلى ترويجها”. [4]

بتحديد أكثر دقة، يعتقد الجمهوريون أيضاً، شأنهم في ذلك شأن الديمقراطيين الإغريقيين، بأن أفضل نظام حكم… هو الذي يكون المواطنون فيه متساوين في الأوجه الهامة للحياة: مثل المساواة أمام القانون، وغياب العلاقة التبعية بين مواطن وآخر: العبودية مثلاً!

بصرف النّظر عن أوجه التشابه هذه، فإن مبدأ الحكم الجمهوري، يمثل أكثر من مجرد إعادة توكيد على ما للديمقراطية الإغريقية من مثل وممارسات.

على غرار ما قام به أرسطو، فإن مبدأ الحكم الجمهوري طُرح من بعض الأوجه الهامّة بديلا للديمقراطية كما فهمها الكثير من الإغريقيين.

في الوقت الذي وضعت العقيدة الجمهورية توكيدا مشدداً على الأهمية الأساسية للفَضيلة المدنية، فإنها وضعت توكیداً مماثلا، إن لم يكن أكثر شدة، على إمكانية انهيار الفضيلة وضعف كيانها… ما قد يلقي بالشعب أو القادة في براثن الفساد.[5]

بالتالي على خطر احتمال تحول الفضيلة المدنية إلى فساد خلقي، بحيث يصبح نظام الحكم الجمهوري أمراً لا يطاق.

من وجهة النظر الجمهورية، فإن الشّقاقات والنّزاعات السّياسية، تولد خطرا كبيراً على الفضيلة المدنية. وتميل هذه الشقاقات والنزاعات بدورها إلى النشوء من ميزة تكاد تكون عالمية للمجتمع المدني:

حاولت، بهذا المعنى، الفكرة الجمهورية، أن تحتوي كافّة أفراد الشّعب، إدراكاً منها بأن الشّعب ليس مجموعة متجانسة لها مصالحها المتشابهة ونفس الحاجيات، بل الشعب، بطبيعته، مختلف ومتنوع: منه الأرستقراطيّ والأوليغاركيّ والديمقراطيّ… بمعنى أنّ الشعب جامع لمكونات الأقلية والأغلبية، التي ينبغي أن تجد المساواة الفعلية داخل الجمهُورية.

للقطع مع الحكم الفردي، طوّرت النظرية الجمهورية فكرة الدستور، ليعكسَ مصالح الجميع ويوازن بين كل الفئات.[6]

كانت روما الجمهورية بمثابة النموذج الدستوري الأكثر وضوحاً، وذلك من خلال نظام قناصلها، ومجلس شيوخها، وأنصار عامتها (التربيون).[7]

أيضاً، شكّلت روما صورة كاشفة عن ضياع الفضيلة المنشودة، حين نشأت النزاعات الأهلية، وتحولت الجمهورية إلى روما الإمبراطورية، فتبيّن كيف لحق الدمار بجمهورية ديمقراطية عظيمة وقتها.[8]

في القرن الثامن عشر، برز مثال يضارعُ النموذج الروماني: الدستور البريطاني، الذي ضم بترتيب عملي نظام الحكم الملكي واللوردات والعموم. بدا هذا الانسجام، بالنسبة لبعض المنظرين من مؤيدي مبدأ الحكم الجمهوري، وعلى رأسهم البارون دي مونتسكيو، صورة مصغرة لنظام حكم متّزن على نحو متَكامل.[9]

بريطانيا قدمت مثالاً لديمقراطية عملية دون إقامة نظام جمهوري.

لكنّ مفهوم الديمقراطية بشكل عام تطوّر إلى أن بلغ التمثيل النيابي.

نحو فكرة التمثيل النيابي!

واجهت الديمقراطية في أثينا وروما إشكال غياب البعض، الذي يوجد في أماكن بعيدة عن المشاركة في هذه الديمقراطية.

مهما كان المواطن بعيداً عن روما، فقد كانت المؤسسات الديمقراطية الوحيدة التي فتحت أبوابها أمامه، هي المجالس التي كانت تعقد في روما لغرض انتخاب الحُكام وسنّ القوانين.

راحت هذه المجالس في روما في واقع الأمر (وإن لم يكن أبدا نظريا) تتحول تدريجيا إلى مؤسسات نيابية.

النيابة في روما ربما كانت ضمنية وليست واقعاً واضحاً. كانت تميل بشكل أدقّ لصالح من كان بإمكانهم حضور الاجتماعات، كأنهم ينوبون عن البقيّة.

فكرة النيابة لم تكن موضع اهتمام المنظرين الجمهوريين في إيطاليا عصر النهضة الأوروبية، فقد شاء هؤلاء، بشكل عام، إغفال أمر الكيفية التي يتمكن من خلالها المواطن، في جمهورية كبيرة مثل روما، تحقيق المساهمة الفاعلة، وبالمعنى الحقيقي المتساوية مع المواطنين الآخرين.[10]

هكذا، فمن العصور اليونانية الكلاسيكية حتى القرن السابع عشر، ظلّ احتمال أن تشمل السلطة التشريعية نظام حكم ديمقراطي يعيّن فيه الشعب ممثلين عنه، خارج الأطر النظرية لنظام الحكم الديمقراطي، أو الجمهوري، وممارساتهما.[11]

ستشهد فكرة التمثيل منعطفا تحوّلياً أثناء فترة الحرب الأهلية الإنجليزية، خصوصاً حين بدل الطهوريون (البيورتانيون) مجهوداً نظرياً للبحث عن بديل للنظام الملكي في بريطانيا.

أثناء قیام الجمهوريين بشكل عام، و”المساواتيين” بشكل خاص، بشرح مفصل لمطالبهم التي سعت إلى تبيِئَة حقوقٍ انتخابية، وحكومة تكون مسؤولة تجاه قاعدة شعبية واسعة تنتخبها، لم تكن فكرة التمثيل في الواقع العملي وليدة نظر الديمقراطيين، بل إنها نمت باعتبارها مؤسسة قروسطية من مؤسسات الحكم الملكي والأرستقراطي، من الممكن العثور على بداياتها، خاصة في إنجلترا والسويد، في المجالس التي كان الملوك وكذلك النبلاء في بعض الأحيان يجمعونها لمعالجة قضايا الدولة الهامة، كالواردات والحروب ووراثة العرش وإلى غير ذلك من الأمور.

في النهاية، احتوت الديمقراطية فكرة الجمهورية، ثمّ تحوّلت الديمقراطية إلى تمثيلية، ولقيت النيابة قبولاً من الديمقراطيين والجمهوريين وغيرهم.

لقد قدّمت النيابة حلاًّ عملياً، للإجابة عن أسئلة قديمة تتعلّق بحجم الدول الديمقراطية، إذ سهّل التمثيل عملية نقل مفهوم الديمقراطية من نطاق دولة  المدينة، إلى نطاق جمهوري أو ملكي في دولة قومية شاسعة جغرافياً… وهو ما ساهم في تطور الفكرة حتى ظهرت تطبيقات مختلفة للديمقراطية في العصر الحديث. كيف ذلك؟

هذا ما سنراه في الجزء الثالث من هذا الملف.

هوامش:

[1]روبرت دال، الديمقراطية ونقادها، ترجمة نمير عباس مظفر،دار الفارس للنشر والتوزيع، الطبعة العربية الثانية، 2005.

[2] المرجع نفسه.

[3] نفسه.

[4] نفسه.

[5] نفسه.

[6] نفسه.

[7] نفسه.

[8] نفسه.

[9] نفسه.

[10] نفسه.

[11] نفسه.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *