الثورة البلشفية: المراحل الجنينية لأكبر ثورة في القرن العشرين 1 - Marayana - مرايانا
×
×

الثورة البلشفية: المراحل الجنينية لأكبر ثورة في القرن العشرين 1\4

ما هي أسباب الثورة الروسية الأولى لسنة 1905؟ وكيف مهدت هذه الثورة الطريق للثورة البلشفية العظمى لسنة 1917؟ كيف تمكن البلاشفة من السيطرة على روسيا وإسقاط أكثر الأنظمة استبدادا في مطلع القرن الماضي؟ هل جرى تطبيق الاشتراكية على نحو التنظير الماركسي أم كان هناك شرخ بين تصورات ماركس وتطبيقات لينين؟
هذه الأجوبة وأخرى تجيب عنها مرايانا في هذا الملف.

مرّ ما يربو عن الـ100 عام على الثورة البلشفية، لكنّها تمكّنت أن تحجز لها مقعداً مريحاً في سجلّ التّاريخ.

هي ثورة… بيّنت أنّ إصرار الممحوقينَ وعزيمة الكادحين لهما أفقٌ ممكنٌ، لقلبِ الموازين. لا أحد كان يتوقع نهاية مماثلة للحكم القيصري بروسيا خلال القرن العشرين!

هي ثورة لم تأت من عدم، بل من تخطيط وتكتيك صارمين؛ وإلاّ ما كانت لتُنعتَ بـ“الثورة الرّوسية العظمى”.

ثورة غيّرت وجه التاريخ وقلبت موازين العالم. مرايانا، في هذا الملف، تسبرُ أغوار هذه الثورة الفريدة، التي ظلت منبع إلهام لكثير من الحركات اليساريّة، إلى اليوم!

ولادة الثورة: تصلّب المعارضة؟ 

في السنوات الأولى من القرن الماضي، اشتدّت قوة المعارضة الروسيّة وغدت أكثر تنظيماً.

تركزت هذه المعارضة، أساسا، في “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” المعروف آنفاً بـ“حزب العمال الروسي الاشتراكي الديمقراطي”. نشطَ هذا الحزب في قضايا العُمال حصراً وابتداءً، وتزعّمه فلاديمير لينين… السياسيّ الروسيّ ذي النزعة الماركسيّة الاشتراكيّة.

حدثَ شرخٌ في هذا الحزب منذُ مؤتمره الثاني المنعقد بلندن سنة 1903، وانقسم إلى فريقين: البلشفيك أو البلاشفة Bolsheviks، وتعني الأكثرية في اللغة الروسية، والمنشفيك أو المناشفة Mensheviks وتحيلُ على الأقليّة.

ترأس لينين البلاشفة وشدد على الثورة الشاملة وقلب النظام وتأميم كل شيء، في أفق إضعاف الدّولة وفرض دكتاتوريّة الطّبقة العاملة (البرُوليتَاريا وفق النّظم الماركسيّة). أما المناشفة، الذين تزعّمهم مارتوف، فكانوا أكثر “مرونة”، ورغبوا في إقامة جمهورية ديمقراطية، بالتعاون مع الليبراليين، والذهاب بالبلد نحو إصلاحات متدرّجة لتعبيد الطّريق أمام الغاية القصوى: الاشتراكيّة.

كانت إذن النقطة التي لم يختلف فيها البلاشفة عن المناشفة، هي حتمية إنهاء حكم القيصر في روسيا. لكنّ ذلك انعكس سلباً في البداية على البلاشفة، الذين تعرضوا للتضييق والقهر، حتى أنّ لينين تعرّض للنفي مرتين قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى.

ضمن خليّة المعارضة للحكم القيصري الشامل والمطلق، كان هناك أيضاً الحزب الاشتراكي الثوري والحزب الديمقراطي الدستوري.

هكذا، تمّ تهييء الطريق نحو الثورة الروسيّة الأولى، سنة 1905. وكان لهذه الموجة أثرٌ في تغيير المعالم السياسية والاجتماعية بروسيا القيصرية نسبيًّا، خصوصاً بعد تكَرُّس الاستنكار والاحتجاج والفوضى الجماهيرية في عزّ سيطرة الإمبراطورية الروسية بقيادة آل رومانوف.

كانت البلاد، حينها، غاصّة بمشاكل كثيرة، منها القهر والإجهاز على الحريات ومشاكل الأرض الزراعية والتّمييز، إضافة إلى حالة الغضب الشعبي الذي خلفه انهزَام روسيا في الحرب ضدّ اليابان، واستنزاف هذه الحرب لكمية هائلة من الموارد الرّوسية.

بهذا، كان من الطبيعيّ أن تزداد جُرعات التذمّر والاستياء من الملكيّة عمومًا، وأن تنجليَ صورة القوّة عن النظام الروسيّ، ليظهر ضعفه.

ضَعُفَ الجيشُ، الذي كان آلية لتثبيت سلطة النظام، فبدأت المظاهرات لتحسين الأوضاع، وكان للمعارضة يد في التجييش، حين استطاعت أن تخلق جوا أكاديميا وسياسيّا تقدميّا بالنظر إلى الوضع القائم وقتئذٍ، فنشطت التحركات الطلابية والنقابات والأحزاب السياسية.

اشتدت هذه الحركات في جنوبي روسيا، وتجسدت في مظاهرات عارمة واضرابات واسعة ومطالب اقتصادية راديكالية وإصلاحات سياسية. وعززت هذه المطالب بعضها البعض حين قوبلت بتعنت الدولة والحكومة.

رفعت مطالبٌ بالرّفع في الأجور وتجويد مستوى المعيشة. انخرط الفلاحون أيضاً، وحتى طلاب الجامعات، وتأزم الوضع لما بدأ تنفيذ عمليات تصفية في حقّ مسؤولين حكوميين (تشير مراجع تاريخية إلى ضلوع أعضاء في الحزب الاشتراكي الثوري فيها).

لم يستطع النظام امتصاص الغضب ولم يستجب للمطالب المرفوعة… بقي الوضعُ على ما هو عليه، حتى حدث التصادم الدمويّ.

مزيدٌ من الاحتقان!

في يناير 1905، قام القس جورجي جابون Georgi Gabon بضمّ العمال، وقاد مسيرة سلمية متوجهة للقصر الشتوي في سانت بطرسبرغ، لتقديم طلباتهم إلى الحاكم مباشرة. كتب هذا القس عريضة إلى الإمبراطور، تحدث فيها عن مشاكل وآراء العمال، ودعا إلى تحسين أوضاعهم من حيث عدالة الأجور وتخفيض ساعات العمل في اليوم إلى ثماني ساعات، واحتوت مطالب أخرى، منها وقف الحرب الروسية اليابانية والأخذ بالاقتراع العام.

هنا، سيكتبُ تاريخٌ دمويّ آخر، عندما حدثت مواجهة عنيفة بين الحرس الإمبراطوري والمشاركين “العُزّل” في المسيرة، وهو ما يعرفُ تاريخيًّا بالأحد الداميّ. بعد الخسائر الفادحة في الأرواح، بما يناهزُ الآلاف، قرر العمال نهجَ طريق العنف الثوريّ، بإيعاز من أحزاب المعارضة الاشتراكيّة.

تبقى هذه الأحداث الدامية بمثابة نقطة تحوّل فارقة، إذ مهدت الطريق نحو ثورة 1905، التي حدثت في فبراير، وكانت تريدُ إنهاء استبداديّة حكم القيصر.

إزاء الوضع العصيب الذي خلقته الثورة التي لم تهدأ، جاء بيان أكتوبر على هيئة مكسب للثورة، والذي استجاب لبعض المطالب، مثل إنشاء مجلس منتخب يشرف على عمل الحكومة، كما اعترف بالحقوق السياسية والمدنية للشعب. بيد أنه، في ذات الوقت، نُظر إليه كأنه “حيلة” لرأب صدع المعارضة.

عموماً، كان البيان عبارة عن أول اعتراف رسمي بحقوق الشعب، وبوجوب تحديد سلطات القيصر، مما جعله محطة هامة في تاريخ روسيا وفي تاريخ الثورة الكبرى اللاحقة، عام 1917.

قررَ القيصر نيكولاس الثاني أن يحققَ مطلبا مرفوعا بضرورة إنشاء مجلس الدوما State Duma، وهو نظام نيابي دستوري يتمثل في برلمان منتخب ومجلس أعلى يدعى مجلس الإمبراطورية، عمله تقديم المشورة والنّصح إلى الحكومة الرّوسية في وضع ومناقشة القوانين، حسب ما تورده الباحثة نجلاء عدنان حسين.

بموجب المجلس، كان يتوجب، من أجل تمرير أي قانون جديد، أن يصادق عليه من مجلسي الدوما والدولة. إلاّ أنّ القيصر استحوذ على بعض السلطات التي قوضت عمل المجلس، مثل حق نقض أي قرار يصدر عنه (فيتو)؛ كما استحوذ على السلطة الكاملة على الجيش.

أما بالنسبة للاشتراكيين، فقد قاطعوا أول انتخابات للدوما، اعتراضا على قوانين الانتخاب وعلى عدم شرعيتها في ظل الاستبداد الحكومي. فكانت النتائج من مصلحة الديمقراطيين الدستوريين، الذين كانوا مع القيصرية، ولكن في ظل نظام ملكي دستوري.

من بين مكتسبات ثورة 1905، أنه تمّ تعديل الوثيقة الدستورية التي خدمت الأوتوقراطية والسّلطويّة والتي كان معمولا بها منذ 1831. جرى التعديل سنة 1906، وسميت تلك التعديلات بدستور عام 1906. “جاء هذا الدّستور تتمة لبيان أكتوبر، إلا أنه تجاهل أغلب الحقوق السياسية المذكورة فيه، وحد من سلطات مجلس الدوما، ليصبح نصف المجلس بالتعيين المباشر من القيصر بدلا من الانتخاب. وأكد الدستور على وحدة روسيا وعلى سيادة اللغة الروسية وعدم السماح باستخدام أي لغة أخرى من دون تشريع رسمي”، كما يقول الباحث حسان عمران.

كان ذلك بمثابة ردّة. وفي عام 1907، أعيد تعديل تشريع انتخابات الدوما بأسلوب يكفل فوز العناصر الموالية لحكومة القيصر بأغلبية المقاعد، حيثُ أصبحت الانتخابات غير مباشرة وعلى أساس الطّبقات. نتيجة لهذا التعديل وتدخل سلطات الحكومة في الانتخابات، حصلت العناصر التابعة للحكومة على أغلبية المقاعد في المجلس، عندما جرت انتخابات “الدوما الثالث” في خريف عام 1907.

تراجع حضور المعارضة من الديمقراطيين والدستوريين والاشتراكيين الديمقراطيين بشكل لافت، خصوصا بالمقارنة مع التمثيل السابق للمعارضة في مجلس الدوما الأول لسنة 1906، والدوما الثاني في سنة 1907… بعدها، بات الدوما، سيما بين 1907 – 1917، مجرد آلية من آليات الحكم القيصري لاستعادة الاستبداد والسلطوية في صورتها المطلقة مجدداً.

هكذا، فشلت الثورة الروسية الأولى، لكنها مهّدت الطريق للثانية التي ستأتي بعدها، والتي ستتمكنُ من إنهاء حكم القيصر.

تفاصيل ذلك، نتابعه في الجزء الثاني من هذا الملف.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *