الحَاكمية عند سيد قطب… الإكليروس المسيحي في حلة إسلامية! 1\2
ما هو أصل الحَاكمية؟ وما الذي تعنيه حاكمية الله؟ وأين تتجسّد أوجه التشابه بينها وبين الإكليروس المسيحي في الغرب الأوروبي قبل النهضة؟ وكيف غدت الحَاكمية… أحد المنابع الكبرى للإرهاب؟
يقول سيّد قطب: “هما أمران لا ثالث لهما. إمّا الاستجابة لله ورسوله، وإما اتباع الهوى. إما حكم الله وإما حكم الجاهلية. وإما الحكم بما أنزل الله كله، وإما الفتنة عما أنزل الله”.
ويقول محمد قطب، الكاتب الإسلامي وشقيق زعيم الإخوان المسلمين: “في الميزان الرباني، يوجد نوعان اثنان من الحكم: إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية… والديمقراطية، حيث إنها ليست حكم الله، في ميزان الله جاهلية”.
… تجسّد المقولتان المعنى الحقيقي لمفهوم الحاكمية، الذي تمخّض عنه منحى آخر أكثر تطرّفاً وأكثر غلوا في تجربة “الإخوان المسلمين” إبّان القرن الماضي، خصوصاً منذ النصف الثاني من الخمسينيات، بزعامة سّيد قطب بشكل رئيس.
فما هو أصل الحَاكمية؟ وما الذي تعنيه حاكمية الله؟ وأين تتجسّد أوجه التشابه بينها وبين الإكليروس المسيحي في الغرب الأوروبي قبل النهضة؟ وكيف غدت الحَاكمية… أحد المنابع الكبرى للإرهاب؟
أسئلة نحاول الإجابة عنها في هذا الملف.
بحسب ما يذهب إليه المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز، فإنّ التيار القطبي قدّم قولاً آخر لمفهوم الدولة الدينية، ينبني على مفهوم حاكمية الله؛ إذ لا نقرأ في لوحة الدولة الإسلامية عناوين وعلامات من جنس الدستور، والشعب مصدر السلطة، وتكييف أحكام الشريعة مع مقتضيات العصر، والقانون والديمقراطية، والتمثيل والمجلس النيابي… فالحاكمية جاءت لتنسف كل ما يمتّ للدولة الحديثة بصلة.
هي، بهذا المعنى، ستعود بالإنسان المعاصر إلى مفردات من قبيل “الجاهلية والكفر والإيمان، والثورة على المجتمع والهجرة عن المجتمع الكافر أو الفاسق”.[1]
المجتمع الجاهلي، بالمعنى القطبي، يحيل على “كلّ مجتمع لا يخلصُ عبوديته لله وحده… متمثّلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية وفي الشرائع القانونية…
هذه الردة، التي شكّلها سّيد قطب، هي انقلاب على الإسلام السياسي الذي حاول البنا وتلامذته وضع أسسه عبر الدّخول للسياسة والمؤسسات النيابية بمرجعية “إسلاموية”. فسيد قطب، بخطابه الفكري والسياسيّ هذا، لا يترك خياراً وسطاً، إما الجنوح إلى “المجتمع المسلم” أو العودة إلى حياة “الجاهلية”.
أصل مفهوم الحَاكمية
لم يكن سيد قطب هو مبتدع مفهوم الحاكمية، بل كان ذلك من “نصيب” الداعية الباكستاني أبو الأعلى المودودي بحوالي عقد ونصف من الزمن.
المودودي في تعريفه الحاكمية، يقول: ” إنها السلطة العليا والسلطة المطلقة على حسب ما يصطلح عليه اليوم في علم السياسة”.
غير أنّ المودودي، بهذا المفهوم، يرتقي بالسلطة العليا في هذا السياق إلى الله، فهو المنشئ للأحكام والقانون “يسن بإرادته ومشيئته هو نفسه. بينما الأفراد ليس لهم بإزائه حق من الحقوق، وكل من له من شيء من الحقوق منهم، فإنما هو منحة جاء بها عليه حاكمه، وكل حق يسلبه هذا الحاكم ينعدم بنفسه، لأنه لا ينشأ كل حق فطري إلا لأن الشارع قد أنشأه”. [2]
تكون المرجعية الإلهية، بهذا المعنى، هي التي لها الحق في الاجتماع والسياسة والدين. لهذا، ينظر المودودي إلى أن الإسلام يعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للدين الإسلامي، ويريد قطع دابرها ولا يتحرج في استخدام القوة الحربية لذلك.
يقول المودودي: “إن الأساس الذي يقوم عليه بناؤها، هو تصوّر مفهوم حاكمية الله الواحد الأحد، وأن نظريتها الأساسية أنّ الأرض كلها لله، وهو ربها والمتصرّف في شؤونها. فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب، ولا للنوع البشري كافة شيء في سلطة الأمر والتشريع. فلا مجال في حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلاّ لدولة يقوم فيها المرء بوظيفة خليفة الله”.[3]
لكن… إذا كان الإنسان خليفة لله، فهل يعني ذلك أنّه يحكم نيابة عن الله؟
قول المودودي هنا يحمل شبهة ثيوقراطية لا غبار عليها. إلاّ أن عبد الإله بلقزيز يرد على ما جاء به المودودي، بأنّ “الحكم بما أنزل الله يقوم به بشر لا عصمة لديهم، وأن تنفيذهم أحكام الشريعة ليس فعلاً تلقائيا، بل يفترض قدرا من الاجتهاد منهم، وبالتالي فهم يحكمون -في النهاية- لا بما أنزل الله، بل بما يقدّرون أنهُ حكم الله”.
الملاحظُ أيضاً أنّ الحاكمية، سواء لدى المودودي المُنظِّر لها، أو لدى سيد قطب، المساهِم في إشعاعها “عربياً”، تشكّل انتِكاسة حقيقية في ثيوقراطية الدولة. فهي لا تسعى سوى إلى إنتاج طبقة سياسية – دينية تحظى بسلطة مطلقة، وتستمدّ شرعيتها من الإبانة الإلهية.
والأخطر… أنها دحضٌ لكلّ الجهود الإسلاموية، التي قام بها البنا وتلامذته، والتي كانت تبتغي تمييز الدولة الإسلامية عن الدولة الدينية في الغرب المسيحي، حيثُ كانت نظرية الحقّ الإلهي (Le droit divin) حاضرة.
بهذا المنطق، لا يمكن أن تقرأ الحَاكمية إلاّ باعتبارها شكلاً جديداً من الزواج غير الشرعي بين الديني والسياسي، بل بدرجة تجعلنا نتخيل أننا أمام طبقة الإكليروس المسيحي، التي كانَت تنزع من الأفراد حقّهم في التّدين… لكن هذه المرّة بصيغة إسلامية، تسعى إلى تدمير مفاهيم ما اعتبروه جاهلية، وكل “الجراثيم”، التي أصابت الإنسان المعاصر.
الحَاكمية… “خدعة” الجاهلية والإسلام!
مع سيد قطب، تحوّل مفهوم الحاكمية من نطاق الاجتهاد السياسي الذي فرضته الظروف المحلية والسياقات التاريخية في الهند، خصوصاً مع الداعية الإسلامي أبو الأعلى المودودي، بينما التيار القطبي ربطه مباشرة بالعقيدة والتوحيد.
لا يمكن أن تقرأ الحَاكمية إلاّ باعتبارها شكلاً جديداً من الزواج غير الشرعي بين الديني والسياسي، بل بدرجة تجعلنا نتخيل أننا أمام طبقة الإكليروس المسيحي، التي كانَت تنزع من الأفراد حقّهم في التّدين
لا يمكنُ قراءة الخطاب السياسي القطبي إلاّ داخل ثنائية حادة: المجتمع الجاهلي/ المجتمع المسلم. وحين يتطرّق سيد قطب للمسألة السياسية عبر هذه الثنائية وعبر قاعدة معطياتها “النظرية”، فإنّه يوزّع “الأشياء على هذه الساحة الفسيحة من التعارض”. [4]
المجتمع الجاهلي، بالمعنى القطبي، يحيل على “كلّ مجتمع لا يخلصُ عبوديته لله وحده… متمثّلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية وفي الشرائع القانونية… بهذا التعريف الموضوعي، تدخل في إطار “المجتمع الجاهلي” جميع المُجتمعات القائمة اليَوم في الأرض فعلاً، [5] والتي منها “المجتمعات الشيوعية”، والمجتمعات الوثنية (في الهند واليابان والفلبين وأفريقيا) و”المجتمعات اليهودية والنصرانية”.
هكذا، لا يضع قطب حلاّ وسطاً في مفهومه للعقيدة الدينية أو “السياسية الشرعية”، فهو يقول: “لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام بمنهجه وقانونه. وليس وراء الإيمان إلاّ الكفر، وليس دون الإسلام إلاّ الجاهلية… وليس بعد الحقّ إلاّ الضلال”. [6]
يقول الباحث مبروك بوطقوقة في مقاله: مفهوم الحاكمية أو السيادة عند التكفيريين، بأنّ هذه الرؤية الحدية المتطرفة لدى سيد قطب أدت “إلى تغير جذري في تحديد طريقة النظر والتعامل مع المجتمعات الإسلامية. فقد كان في الماضي ينظر إليها على أنها مجتمعات فاسدة وعاصية تستوجب العمل على إصلاحها وإعادتها إلى جادة الصواب. لكن، مع الحكم عليها بالجاهلية، أصبحت أقطارها أرض كفر، لأنه بحسب سيد قطب لا وجود إلا لدارين، دار إسلام أو دار كفر”.
و… كانت هذه بداية “النكبة” الجديدة التي ستهزّ العالم الإسلاميّ، بعد أن حمل لواء هذه الفكرة مجموعة من المثقفين المنتمين إلى التيار الصحوي الإحيائي، بل وحولوها إلى أيديولوجيا سياسية للتعبئة والحشد… فغدا مفهوم الحاكمية أحد منابع الإرهاب في القرن العشرين. كيف ذلك؟
هذا ما سنراه في الجزء الثاني من هذا الملف.
هوامش:
[1]بلقزيز عبد الإله، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، مركز دراسات الوحدة الإسلامية، الطبعة الثانية 2004.
[2]أبو الأعلى المودودي، تدوين الدستور الإسلامي، مؤسسة الرسالة 1980.
[3]أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، بيروت، مؤسسة الرسالة 1980.
[4]بلقزيز عبد الإله، المرجع السابق.
[5]سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، ط 6، 1983
[6]المرجع نفسه.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- محمد رشيد رضا… مُجهضُ النّهضة الإسلامية والمنقلب على التيار الإصلاحي 1/3
- “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)
- التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!
- علي اليوسفي العلوي يكتب: الإسلام: دين ودنيا، أم دين ودولة؟
- ابن بطوطة، رفاعة الطهطاوي، ماري ورتلي مونتاغير وجون ليود ستيفنز: نماذج لأشهر الرحالة 2\2
- التنظيم السري للإخوان المسلمين: مرايانا، مع ثلاث باحثين جامعيين من تونس، ينبش في أسرار وخبايا التنظيم
- محمد شحرور… المفكر الإسلامي الذي نظر للقرآن بعيون القرن الحادي والعشرين! 1/3
- أوجه التشابه بين المتطرفين ودعاة الاعتدال. هل هناك نسخة معدلة من الإسلام!؟