من اليمن، حسين الوادعي يكتب: لماذا نجح الإصلاح الديني اليهودي والمسيحي وفشل الإسلامي؟ - Marayana - مرايانا
×
×

من اليمن، حسين الوادعي يكتب: لماذا نجح الإصلاح الديني اليهودي والمسيحي وفشل الإسلامي؟

يقدم لنا الإصلاح الديني اليهودي العديد من الدروس والعبر للإصلاح الإسلامي أهمها ضرورة التخلي عن فكرة الوسطية وتلفيقاتها والانتقال إلى تجديد الأصول نفسها مع التركيز على: تجديد الخطاب السياسي الإسلامي بالتخلي النهائي عن فكرة الدولة الدينية ورفض شعار الإسلام دين ودولة الذي حول الإسلام إلى دين وقومية مثلها مثل اليهودية القديمة.

عندما يطرح سؤال الإصلاح الديني الإسلامي، غالبا ما يتم العودة إلى تجربة الإصلاح الديني المسيحي كمرجعية للنقاش حول التشابهات والاختلافات بين التجربتين.

رغم أهمية الإصلاح البروتستانتي كمرجعية يمكن استلهام الكثير من الدروس والعبر منها، إلا أن الاختلافات بين المسيحية والإسلام أوقعت المقارنين المتحمسين والرافضين معا في خلاصات خاطئة.

لا جدال حول أهمية إصلاح العقيدة في الإسلام، لكن  تجربة الإصلاح الديني اليهودي، كما سيوضح هذا المقال، هي الأقرب إلى ما يحتاجه المسلمون اليوم للخروج من أزمة الإسلام.

إن الإسلام، رغم روافده العديدة من الصابئة والزرادشتية والمسيحية، هو أقرب ما يكون إلى يهودية معربة. كلا الديانتين، اليهودية والإسلام، تتكونان من جانبين ضخمين هما العقيدة والشريعة، عكس المسيحية التي تكاد تكون عقيدة خالصة.

كما أن الغالبية العظمى من الشرائع والأحكام اليهودية تم تناقلها شفويا وجمعها جيلا بعد جيل مثلما تم في الإسلام تناقل الشرائع والأحكام شفويا عبر الأحاديث والمرويات، وصار للإسلام واليهودية أسفار وشروحات ضخمة جدا من التوراة (القرآن): أسفار التلمود الخمسة والمشنا (الأحاديث) والجمارا (الشروح)؛ وهذا غير موجود في المسيحية التي لا تتجاوز كتبها المقدسة الأناجيل المعروفة وشروحها.

إذا راجعنا تصور الله في العقيدة اليهودية، فإنه يكاد يكون نسخة من التصور الإسلامي لله باعتباره “شيخ قبيلة” ينصر قبيلته “المسلمون/اليهود” ويغضب ويمكر ويضحك ويحب ويكره ويجلس على عرشه والملائكة حوله يسبحون بحمده ويعبدونه بلا كلل.

كان اليهود، قبل الإصلاح الديني، يؤمنون كما يؤمن المسلمون اليوم، أن كتابهم المقدس هو كلمة الله الحرفية وأن التوراة وجدت قبل أن يُخْلَق العالم (اللوح المحفوظ في التصور الاسلامي)؛ ويؤمنون أن المشنا (الأحاديث) موحاة أيضا من الله مثلها مثل التوراة، مثلما يؤمن المسلمون أن أحاديث الرسول وحي من الله. وكما جعل بعض علماء المسلمين الأحاديث حاكمة على القرآن وقادرة على نسخها، قال بعض علماء اليهود أيضا أن المشنا الشفوية حاكمة على التوراة المكتوبة وتنسخها إذا حدث تعارض بينها.

إذا راجعنا تصور الله في العقيدة اليهودية، فإنه يكاد يكون نسخة من التصور الإسلامي لله باعتباره “شيخ قبيلة” ينصر قبيلته “المسلمون/اليهود” ويغضب ويمكر ويضحك ويحب ويكره ويجلس على عرشه والملائكة حوله يسبحون بحمده ويعبدونه بلا كلل. مثلهم مثل المسلمين، فإن أشد ما يغضب اليهود هو الشرك، والمبدأ الأول والأسمى في ديانتهم هو التوحيد ورفض الإشراك بالله بعبادة آلهة وسيطة (الوثنية) أو بالتثليث (المسيحية) أو التثنية (المانوية). بل أن اليهود بالغوا في توحيد الرب وتجاوزوا المسلمين بدرجات؛ ففي حين يكره المسلمون ذكر اسم الله في الأماكن غير الطاهرة، فإن اليهود يمتنعون عن ذكر اسم “يهوه” مخافة تدنيسه أو الإقلال من شأنه.

رغم أهمية الإصلاح البروتستانتي كمرجعية يمكن استلهام الكثير من الدروس والعبر منها، إلا أن الاختلافات بين المسيحية والإسلام أوقعت المقارنين المتحمسين والرافضين معا في خلاصات خاطئة

ما يجمع اليهود كجماعة دينية ليس العقيدة وإنما الشريعة، وهو نفس ما يجمع المسلمين أيضا؛ فالمسلمون يجتمعون حول الصلاة والصيام والحج وغيرها من الشرائع، أما العقيدة الإسلامية فعامة إلى درجة لا يمكن أن تشكل أساسا للاجتماع المدني. الصلاة اليهودية مثلها مثل الإسلامية تتم عدة مرات في اليوم، والصلاة في المعبد أفضل من الصلاة في البيت، فهدف الشريعة في الإسلام واليهودية سياسي أكثر منه ديني، وهو جمع الناس وتوحيدهم.

مستفيدين من جو الحرية الفكرية في أوروبا ومن كون اليهودية الأوربية كانت دينا بلا دولة، وبالتالي بلا سلطة دينية قادرة على إسكات المجددين، قاد رواد التنوير اليهودي حركة جريئة لتجديد اليهودية وجعلها ملائمة للعصر. بسبب طابع اليهودية الذي تحتل فيه الشريعة والعبادات والطقوس مركز الصدارة وأساس الاجتماع والاقتصاد والسياسة، ركزت حركة الإصلاح اليهودي على نقد الشريعة اليهودية  والتخلي عنها في أحيان كثيرة؛ ولم تحاول أن تقلد حركة الإصلاح البروتستانتي التي ركزت على إصلاح العقيدة والتمرد على سلطة الكنيسة لأن اليهودية كانت بلا كنيسة وكانت العقيدة فيها فرعية مقارنة بالشريعة.

على عكس حركة الإصلاح الديني الإسلامية، لم تلجأ الإصلاحية اليهودية إلى الجمع بين التراث والعصر، بل كانت جريئة وصريحة في التخلى عن “الأصول” و”المقدسات” التي لم تعد تلائم الزمن حتى ولو كانت من أقدس جوانب العقيدة والشريعة. فقد تم التخلي عن الصلوات اليومية، وعن نظام الزواج والطلاق اليهودي وأقروا مبدأ الزواج من بين اليهودي وغير اليهودي، وعن الصيام وأيامه، وعن الأزياء التي فرضتها الشريعة اليهودية على الرجال والنساء. كذلك، تخلت حركة الإصلاح اليهودي عن فكرة أن اليهودية دين وجنسية (يقابله في الإسلام القول إن الإسلام دين ودولة)، وطالبوا اليهود بالخروج من الجيتو والاندماج مع مجتمعاتهم والتحول من يهود قوميين إلى إنجليز وفرنسيين وألمان.

بسبب طابع اليهودية الذي تحتل فيه الشريعة والعبادات والطقوس مركز الصدارة وأساس الاجتماع والاقتصاد والسياسة، ركزت حركة الإصلاح اليهودي على نقد الشريعة اليهودية والتخلي عنها في أحيان كثيرة؛ ولم تحاول أن تقلد حركة الإصلاح البروتستانتي التي ركزت على إصلاح العقيدة والتمرد على سلطة الكنيسة لأن اليهودية كانت بلا كنيسة وكانت العقيدة فيها فرعية مقارنة بالشريعة

كانت الشخصية الرئيسية في حركة الاستنارة اليهودية هو موسي مندلسون الذي يعد بحق مارتن لوثر اليهودية. ولو حللنا الفروق بينه وبين الشيخ محمد عبده والشيخ الطاهر عاشور، ستتكشف لنا الكثير من الأسباب المفسرة لفشل عملية الإصلاح الديني الاسلامي.

أحب هنا أن أركز على ثلاثة أسباب لفشل الإصلاح الإسلامي ونجاح التنوير اليهودي.

السبب الأول هو بيئة التنوير الأوروربية التي دافعت عن حاكمية العقل ومرجعية وحق كل إنسان في التحرر من القيود. تزامن الإصلاح اليهودي مع عصر التنوير، وكان اليهود كمواطنين أوروربيين ينعمون بثمار التنوير ومناخ الحرية وحماية التجديد والاختلاف. أما الإصلاح الديني الإسلامي، فلم يكن له نفس البيئة المساعدة، فقد ظهر والدول الإسلامية، وخصوصا دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا زالت تعيش مناخ العصور الوسطى والاستبداد السياسي والإرهاب الديني، وكان من المستحيل على رواد التنوير الاسلامي أن يقتربوا من جرأة موسى مندلسون ورفاقه؛ لهذا ظلوا يدورون في دائرة “الاجتهاد”، وشتان ما بين الاجتهاد والإصلاح الديني لأن الاجتهاد تجديد في الفروع والشكليات، أما الإصلاح الديني فهو اجتهاد وتغيير في الأصول.

هدف الشريعة في الإسلام واليهودية سياسي أكثر منه ديني، وهو جمع الناس وتوحيدهم

السبب الثاني أن اليهود كانوا أقلية مضطهدة تعيش في مجتمعات أكثرية مسيحية، وكان وضع الأقلية يشمل نوعا من الحماية للمفكرين المتمردين من اليهود ليمارسوا أجرأ أنواع النقد تجاه اليهودية دون خوف من الموت. لم يكن أمام اليهودية الأوروبية إلا سلاح الحرمان الديني الذي، رغم قسوته، لم يكن يمنع المفكر المحروم والمطرود من الاستمرار في عملية التنوير والنقد. أما الإصلاح الديني الإسلامي، فقد تم في مجتمعات أغلبية إسلامية تؤمن أن الاسلام هو هويتها الجامعة وأن أي اقتراب منه يجب أن يتم الرد عليه بالعنف والقتل إن لزم.

السبب الثالث أن اليهودية كان دينا بلا دولة. غياب الدولة الدينية جرد متشددي اليهود من السيف ومن الإرهاب الذي كان يمكن استخدامه لإسكات واعدام حركة الاستنارة اليهودية. أما في العالم الإسلامي، فكان الإصلاح الديني ضحية الدين الذي تحول الى دولة وسلطة وقوة وسيف ومدفع. كان إصلاح الإسلام يعني فعليا الاصطدام بالسلطة السياسية التي تستمد مشروعيتها من الحديث باسم الإسلام وباسم ادعاء الدفاع عنه وحراسته. كانت اليهودية محظوظة بغياب دولة اليهود، وكانت المسيحية محظوظة بذلك الانقسام بين السلطة الدينية (البابا) والسلطة السياسية (الملك)، مما أتاح لها دعم الملوك الراغبين في التخلص من سلطة البابوات وكهنوتهم. أما في العالم الإسلامي، فكانت السلطتان السياسية والدينية متوحدتان، بحيث أن أي نقد للدين كان في نفس الوقت تحديا للسلطان ولدوره في حماية الدين.

إلى جانب هذه العوامل الخارجية، كان هناك عيب داخل الإصلاح الديني الإسلامي نفسه، وكان أحد أسباب فشله هو محاولة اتخاذ موقف وسطي توفيقي والخلط بين الاجتهاد والإصلاح. هذه الوسطية التوفيقية حولت الإصلاح الاسلامي إلى اجتهادات فرعية جدا وشكلية ما لبثت أن انهارت برحيل المجددين.

يقدم لنا الإصلاح الديني اليهودي العديد من الدروس والعبر للإصلاح الإسلامي أهمها ضرورة التخلي عن فكرة الوسطية وتلفيقاتها والانتقال إلى تجديد الأصول نفسها مع التركيز على: تجديد الخطاب السياسي الإسلامي بالتخلي النهائي عن فكرة الدولة الدينية ورفض شعار الإسلام دين ودولة الذي حول الإسلام إلى دين وقومية مثلها مثل اليهودية القديمة.

كما  يجب أن ينجز الإصلاح الديني الإسلامي إصلاح نظام الزواج والطلاق وإقرار الزواج العابر للأديان والمساواة في الميراث، وإعادة النظر في العبادات بما يتناسب مع احتياجات الانسان الروحية بعيدا عن الطقوسيات القاسية والمستهلكة للوقت والجهد. والأهم من هذا كله، مساعدة المسلمين على الخروج من حالة “الاستعلاء الديني” والتخلص من “جيتو المليار” والاندماج في العصر مثلهم مثل بقية البشر على هذا الكوكب.

مقالات قد تهمك:

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *