أسلمة المعرفة: “البدعة” التي قضّت مضجع المعرفة العالمية 2/3 - Marayana - مرايانا
×
×

أسلمة المعرفة: “البدعة” التي قضّت مضجع المعرفة العالمية 2/3

العلماء المسلمون قديماً، لم يثبت في حقهم أن قالوا بأنّ المعارف هي إسلامية؛ وإنّما تحدّثوا عن العلوم، فأنشأوا لها فروعاً وحقولاً، أو ابتكروا مناهج وأدوات، أو وضعوا مذاهب ونظريات. والمهم فيها مفاعيلها التفسيرية والإجرائية، أي قدرتها على الفهم والتشخيص أو التقدير والتدبير.

تابعنا في الجزء الأوّل من هذا الملف بروز مصطلح “أسلمة المعرفة”، وكيف أنّه كان بمثابة تفجير لنرجسية الذات العربية “المثقّفة”، باعتباره صنفاً من العلوم يخصّ المسلمين، حصراً، دون سواهم من البشرية.

في هذا الجزء، نعاين كيف خلق هذا المفهوم أزمة معرفية، وأصبح من الإشكالات العالقة، التي ينبغي للابستمولوجيا الإجابة عليها…

تخلصُ الباحثة وسيلة خزّار في كتابها “الأيديولوجيا وعلم الاجتماع: جدلية الاتصال والانفصال”، إلى أّن الأصل في “النظرية العلمية، وبالتالي السوسيولوجية، هو أن تنطلق من الواقع المحسوس والمشاهد، ومن خلال الدراسة الإمبيريقية (التجريبية)، حيث يحاول علم الاجتماع صياغة المفاهيم، وربطها في شكل قضايا، ثم اختبار صحة هذه القضايا لتتخذ شكل قوانين ونظريات.

البداية، إذن، ينبغي أن تكون من الواقع في اتجاه بناء النظرية وليس العكس. ثم، بعد ذلك، يكون الاعتماد على النظرية في دراسة أجزاء أخرى من الواقع. مثل هذه الدراسة تعد أساساً لاختبار صدقية النظرية، ومدى صلاحيتها للاسترشاد بها في تفسير الظواهر الاجتماعية.

هكذا، تتابع وسيلة خراز، عندما يذهب الاتجاه الإسلامي إلى أن الاتجاهين الماركسي والبنائي الوظيفي، يتضمنان مقدمات أيديولوجية تعبر عن اجتهادات بشرية قاصرة، ويقترح في مقابل ذلك مقدمات أيديولوجية مختلفة، تنطلق أساساً من الدين الإسلامي، فإن هذا الطرح يتنافى مع أسس العلم والموضوعية، لأن الانطلاقة أساساً في بناء النظرية السوسيولوجية لا بد أن تكون من الواقع، وليس من أية مقدمات أيديولوجية مهما كانت طبيعة هذه المقدمات فلسفية أو دينية، عقلية أو نقلية”.

بالنسبة لعلي حرب، فإنّ مقولة “إسلامية المعرفة” تعدّ من المصطلحات المطروحة على الساحة العربية منذُ ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم، وراجت بشكل مثير لدى الحركات الفكرية الداعية إلى أسلمة الحياة والمجتمع والثقافة.

الأسلمة”: البدعة المعرفية

يذهبُ علي حرب، في كتابه “الإنسان الأدنى، أمراض الدّين وأعطال الحداثة”، إلى أنّ القول بإسلامية المعرفة هو أشبه ببدعة، ذلك أننا لا نجد لدى المسلمين القدامى تصنيفاً للعلوم على أساس ديني؛ وإنّما صنّفوها بحسب المنهج كقسمتها إلى عقلية ونقلية أو برهانية وعرفانية، أو من حيثُ الزمن كتسميتهم “علوم الأوائل” تلك التي اقتبسوها عن الحضارات السّابقة.

رفع سجال أسلمة المعرفة، هو بمثابة صدمة بالنّسبة للابستمولوجيا، لأنّه يحاول أن ينتزع منها صفة الحياد والدقة العلمية، ويُشحنها بمضامين الدّين والإيديولوجيا، وهو بهذا نوع من التّراجع عن “عالمية المعرفية” التي نظّر لها العلماء والفلاسفةُ المسلمون قديماً.

بمنطق الدّين الذي انبثق عنه “المشروع”، فإنّ التمييز في النهاية، عند حرب، هو بين من يعلم ومن لا يعلم مستدلاّ بالآية القرآنية: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. كما أنّ العلم يطلب بصرف النظر عن قائله، ويؤخذ من أي مصدر كان، من فارس أو من الإغريق، من الهند أو من الصين، كما يشير إلى ذلك الحديث النبوي “اطلبوا العلم ولو في الصين”… لكنّ المهم في كل هذا أن يستوفي هذا العلم الشّروط المتواضع عليها كونياً، من قبيل الدّقة والإحكام أو اللزوم والضّرورة أو العموم والكلية.

يمكنُ أن تنعتَ الدّيانة أو الفرق بكونها إسلاميةً، حسب الكاتب. لكن العلماء المسلمين قديماً، لم يثبت في حقهم أن قالوا بأنّ المعارف هي إسلامية؛ وإنّما تحدّثوا عن العلوم، فأنشأوا لها فروعاً وحقولاً، أو ابتكروا مناهج وأدوات، أو وضعوا مذاهب ونظريات. والمهم فيها مفاعيلها التفسيرية والإجرائية، أي قدرتها على الفهم والتشخيص أو التقدير والتدبير.

القول بأسلمة المعرفة، والذي لازال يعششُ في الأذهان الأصولية إلى اليوم، هو بمثابة نقيض للإبداع، بمعنى أنّه يعرقل نشاط الفكر الخلاّق بقدر ما يحول دون تطوير المعارف والعلوم أو دون تجديد المفاهيم والمناهج.

وصفةُ الإسلامية، عند حرب، هنا، لا ترمزُ إلى مجرّد إطار لحصر موضوع الدّرس، وإنما يصدر عن منزع نرجسي أو عن هاجس أصولي يُغلّب الاعتبارات الأيدلوجية، “التي يهتمّ أصحابها بالمدافعة والمحافظة أو بالترويج والتبجيل، على المشاغل المعرفية التي يمارسُ أصحابها التفكير، بصورة حرّة من غير مصادرة، وعلى نحو نقدي يقوم على المساءلة والفحص من غير مسبقات”.

العلم والهوية… أية علاقة؟

ينحازُ علي حرب إلى صفّ أولئك الذين لا يعتبرون أن للعلم هوية ولو كان موضوعه الهويات.

يقدم المفكّر مثال علم النفس، حيثُ نجد أنّه يُشكّلُ إطاراً جامعاً في المعارف المُشتركة، يتجاوز العاملون فيه ثنائية الأنا والغير، دونما تفريق بين واحد وآخر على أساس ثقافي أو ديني…

العلم يطلب بصرف النظر عن قائله، ويؤخذ من أي مصدر كان، من فارس أو من الإغريق، من الهند أو من الصين، كما يشير إلى ذلك الحديث النبوي “اطلبوا العلم ولو في الصين”… لكنّ المهم في كل هذا أن يستوفي هذا العلم الشّروط المتواضع عليها كونياً، من قبيل الدّقة والإحكام أو اللزوم والضّرورة أو العموم والكلية.

ما يُعتدّ به، وفق حرب، في هذا الصدد، هو صلاحية النّظريات ومصداقية المفاهيم. فحتّى “في حقل الإناسة، لا فرق مثلاً بين أوروبي وأفريقي أو بين صيني وإنجليزي أو بين عربي وفرنسي، لأنّ ما ينتجه العاملون في هذا الحقل من الحقائق العلمية يغني معرفتنا بالإنسان عامّةً”.

الأمر ينطبقُ أيضاً على علم الاجتماع، بالشكل الذي نشأ به وتطوّر، سواء مع ابن خلدون أو مع المحدثين كإميل دوركايم وماكس فيبر. فما خلص إليه ابن خلدون في علم العمران بخصوص المجتمع البشري، هو ما قاده إليه الدّرس والبحث بصرف النّظر عن عقائده الإيمانية، يقول حرب.

ويردف حرب بأن ما ابتكره دوركايم أو فيبر في علم الاجتماع، قد تحقّق بإخضاع الظّاهرة الدينية والممارسات التّقديسية إلى الدّرس العلمي والفحص العقلاني.

ينسحبُ هذا إلى بقية فروع المعرفة، بما فيها العلوم الإنسانية أو الرياضة أو الطبيعة، إذ تشكّل جميعها فضاءً رحباً للمعرفة والتثاقف، فضلاً عن اللقاء والاتفاق والتبادل أو الحوار والنّقاش والتداول بين العقول، بصرف النّظر عن هويات أصحابها وانتماءاتهم.

لا ينزع هذا عن المعرفة رداء النسبية، ولا يسبغها بصفة الإطلاقية أو أنها ثابتة ونهائية، إذ إنّ العلم، حسب علي حرب، ينشأ ويتكوّن ويتطوّر ويزدهر عبر نقد العقليات والأيدلوجيات أو المدارس والأنساق؛ ناهيك “عن المنظومة الأيدلوجية والنّماذج الثقافية، لكشف ما تنطوي عليه من أشكال المصادرة والاعتباط أو ما تنبني به من أوهام البداهة.

في الأخير، يتّضحُ أنّ رفع سجال أسلمة المعرفة، هو بمثابة صدمة بالنّسبة للابستمولوجيا، لأنّه يحاول أن ينتزع منها صفة الحياد والدقة العلمية، ويشحنها بمضامين الدّين والإيديولوجيا، وهو بهذا نوع من التّراجع عن “عالمية المعرفية” التي نظّر لها العلماء والفلاسفةُ المسلمون قديماً.

يسعى أيضاً هذا “المشروع”، إلى تكريس فكرة الإعجاز العلمي في القرآن، التي اعتبرها الباحثون بمثابة سطو على أبحاث الآخرين، وصفع كل إنجاز إنساني بأنه نتاج إلهي ورد ذكره في التراث… هذه هي الأسلمة، وهذه نتائجها!

فكيف ساهمت فكرة “الأسلمة” في تنمية الفِكر المُتطرّف؟

الجواب سنحاول اقتفاءه في الجزء الثالث.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *