صادق جلال العظم… المفكّر الذي هدّ يقينيّات الفكر الديني! 2 - Marayana - مرايانا
×
×

صادق جلال العظم… المفكّر الذي هدّ يقينيّات الفكر الديني! 2\2

بعدما تابعنا في الجزء الأول من هذا البُورتريه شذرات من سيرة المفكّر السّوري صادق جلال العظم، وبعض نزوعاته العلمانية والعقلانية.
في هذا الجزء الثاني والأخير، نقدّم بعض الأفكار من كتابه “نقد الفكر الديني”، الذي حوكم بموجب ما جاء فيه قبل أن تتمّ تبرئته.

نقد الفكر الديني… هو من أهم مؤلّفات هذا المفكر الإشكاليّ، إذ تعرّض فيه صادق جلال العظم لنقد الدين كأسلوب حياة وطريقة تفكير. كتب في تعريفه: “هو مجموعة أبحاث تتصدى بالنقد العلمي والمناقشة العلمانيّة والمراجعة العصرية لبعض نواحي الفكر الديني السائد حاليًّا (آنذاك) بصوره المختلفة والمتعددة في الوطن العربي”.

لننتبه أن ما جاء في الكتاب ربما مألوف بكيفية من الكيفيات اليوم؛ لكنّه وقتذاك، في فترة الستينات، لم يكن كذلك نهائيًّا، لذلك شكّل الكتابُ صدمةً مدوية في الوسط الثقافي “العربيّ”.

العظم… والدين والعلم؟ 

ينطلقُ صادق جلال العظم من أنّ الإسلام والعلم يقعان على طرفي نقيض. فبالنسبة للدين الإسلامي (كما بالنسبة لغيره)، المنهج القويم للوصول إلى المعارف والقناعات هو الرجوع إلى نصوص معينة تعتبر مقدّسة أو مُنزلة، أو الرّجوع إلى كتابات الحكماء والعلماء الذين درسُوا وشرحوا هذه النصوص.

يكونُ، هنا، تبرير العمليّة بأسرها يستند إلى الإيمان أو الثقة العمياء بحكمة مصدر هذه النصوص وعصمته عن الخطأ.

وبهذا، يعدّ المُؤلّفُ أنّهُ من نافل القول إنّ الطريقة العلمية في الوصول إلى معارفنا وقناعاتنا عن طبيعة الكون ونشأته، وعن الإنسان وتاريخه، تتنافى تماما مع هذا المنهج الاتباعي السائد في الدين، لأن المنهج العلمي قائم على الملاحظة والاستدلال، ولأن التبرير الوحيد لصحة النتائج التي يصل إليها هذا المنهج، هو مدی اتساقها المنطقي مع بعضها ومدى انطباقها على الواقع.

يقدّم العظم افتراضاً بخصُوص هذه العلاقَة المُلتبسة بين الدّين والعلم حول أصل الكون، فمثلاً، لو سلمنا بأن الله هو مصدر وجود المادة الأولى، هل يحلّ ذلك المشكلة؟ هل يجيب هذا الافتراض على سؤالنا عن مصدر السّديم الأوّل؟ الجواب بالنّفي عند العظم.

يقول الكاتب: “أنت تسأل عن علّة وجود السّديم الأول وتجيب بأنها الله، وأنا أسألك بدوري وما علة وجود الله؟ وستجيبني بأن الله غير معلول الوجود، وهنا أجيبك ولماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود وبذلك يحسم النقاش دون اللجوء إلى عالم الغيبيات وإلی کائنات روحيّة بحتة لا دليل لدينا على وجودها، علمًا بأنّ ميل الفلاسفة القدماء، بمن فيهم المسلمين، كان دائما نحو هذا الرأي، إذ قالوا بقدم العالم، ولكنهم اضطروا للمداورة والمداراة بسبب التعصب الديني ضد هذه النظرة الفلسفية للموضوع”.

لذلك، يرى العظم، أنّه،”في الواقع، علينا أن نعترف بكلّ تواضع بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون. عندما تقول لي إنّ الله هو علة وجود المادة الأولى التي يتألف منها الكون وأسألك بدوري وما علة وجود الله، إن أقصى ما تستطيع الإجابة به: لا أعرف إلا أن وجود الله غير معلول”.

من جهة أخرى، يفصّل الكاتب، “فعندما تسألني وما علة وجود المادة الأولى، فإن أقصى ما أستطيع الإجابة به: لا أعرف إلا أنها غير معلولة الوجود”.

ثمّ يعلق بأنّه “في نِهاية الأمر، اعترفُ كلّ منّا يجهله حيال المصدر الأول للأشياء. ولكنّك اعترفتَ بذلك بعدي بخطوة واحدة وأدخلت عناصر غيبية لا لزوم لها لحل المشكلة. والخلاصة، إذا قلنا إن المادة الأولى قديمة وغير محدثة أو أن الله قديم وغير محدث نكون قد اعترفنا بأننا لا نعرف ولن نعرف كيف يكون الجواب على مشكلة المصدر الأول للأشياء. فالأفضل إذن أن نعترف بجهلنا صراحة ومباشرةً عوضاً عن الاعتراف به بطرق ملتوية وبكلمات وعبارات رنانة”.

إبليس في تفسير آخر

في محاولة لنسف يقينيّات الفكر الديني، يتطرّق العظم لمأساة إبليس المعروفة في التراث الإسلاميّ. بالنسبة للعظم، تبدو قصّة إبليس، كما وردت في كثير من الآيات القرآنية، بسيطة في ظاهرها، لقد أمره الله أن يسجد لآدم فرفض وطرد من الجنة.

غير أنه، لو أردنا أن نتجاوز هذه النظرة السّطحية، فيمكن القول إنّ “مشكلة إبليس ترجع إلى فكرة هامّة قال بها بعض العلماء المسلمين وهي التّمييز بين الأمر الإلهي وبين المشيئة أو الإرادة الإلهية، فالأمر بطبيعة الحال إما أن يُطاع وينفّذ وإما أن يعصى، وللمأمور الخيار في ذلك. أما المشيئة الإلهية فلا تنطبق عليها مثل هذه الاعتبارات لأنّها بطبيعتها لا ترد، وكل ما تتعلق به المشيئة الإلهية واقع بالضرورة”.

“لقد شاء الله وجود أشياء كثيرة غير أنه أمر عباده بالابتعاد عنها، كما أنه أمرهم بأشياء، ولكنه أرادهم أن يحققوا أشياء أخرى. لذلك، باستطاعتنا القول بأن الله أمر إبليس بالسجود لآدم ولكنه شاء له أن يعصي الأمر، ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجداً لوقع ساجداً لتوه، إذ لا حول ولا قوة للعبد على رد المشيئة الإلهية”، يقول الكاتب.

إذا نظرنا إلى الأمور “من هذه الزاوية، بإمكاننا أن نعتبر الأمر والنهي أشياء طارئة وعرضية إذا قيست بسرمدية المشيئة الربانية وقدم الذات الإلهية”.

من المسلّم به أن التوحيد يشكّل الواجب الأول والمطلق للملائكة نحو خالقهم. لذلك، تراهم منغمسين في أدائه بكل كيانهم ووجودهم. أما بقية الواجبات المفروضة على الملأ الأعلى، فتعتبر عرضية وثانوية بالنسبة للواجب المطلق الذي ينبع من المشيئة الإلهية نفسها، حسب العظم.

يرى الكاتبُ أنه لا شك أن إبليس خالف الأمر الإلهي عندما رفض السجود لآدم، غير أنه كان منسجما كل الانسجام مع المشيئة الإلهية ومع واجبه المطلق نحو ربه. فلو سجد إبليس لآدم، لخرج عن حقيقة التوحيد وعصى واجبه المطلق نحو معبوده.

ويضيفُ أيضا أنّ الله أرادَ للملائكة أن يقدّسوه وأن يسبحوا باسمه. لذلك، كان السجود لآدم وقوعا في ما يضيفه أهل الشرك إلى الذات الصّمدية مما هي منزهة عنه، إذ أن السجود لغير الله لا يجوز على الإطلاق لأنه شرك به.

انطلاقاً من اختبار إبليس هذا، يثيرُ المفكّر سؤالاً هامًّا جداً: هل تكمن الطاعة الحقيقية في الإذعان للأمر أم في الخضوع للمشيئة؟ هل يكمن الصلاحُ في الانصياع للواجب المطلق أم لواجبات الطاعة الجزئية؟

ثمّ يعتبر أنّه، لو كان الجواب على هذا السؤال بسيطًا واضحًا، لما وُجدت المأساة في حياة الإنسان، ولما وجد إبليس نفسه في هذه المحنة، ولما وقع بين براثن الأمر والمشيئة. “نستنتج إذن أن موقف إبليس يمثل الإصرار المطلق على التوحيد في أصفى معانيه وأنقى تجلياته، وكأن لسان حال إبليس يقول: جبين سجد للأحد لا يذل في الوجود لأحد”.

يستشهدُ العظم بشهيد الصوفية الحلاج بخصوص هذه المسألة، التي وردت في کتاب الطواسين. يقول الحلاج: والتقى موسى وإبليس على عقبة الطور، فقال له “يا إبليس! ما منعك عن السجود؟”، فقال “منعني الدعوى بمعبود واحد، ولو سجدت له لكنت مثلك، فإنك نوديت مرة واحدة أنظر إلى الجبل، فنظرتَ، ونوديتُ أنا ألف مرة أن أسجد فما سجدت لدعوى معناي”.

برر إبلیس، بالنسبة للعظم، رفضه السجود لآدم تبريراً منطقيًّا واضحا، إذ قال: “أنا خير منه. خلقتني من نار وخلقته من طين”. بالإضافة إلى ذلك، تتضمن آية قرآنية أخرى تبريراً خفيًّا لرفض إبليس، وهو معرفته المسبقة بأن آدم وذريته سيعيثُون في الأرض فساداً ويسفكون الدّماء، وكان هذا شعور الملائكة أجمعين عندما قالوا لربهم: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك”…

لقد كانت الملائكة، في نظر العظم، “بما فيهم إبليس، على علم بما سيرتكبه آدم وذريته من الكبائر والمعاصي، فاستكبرت واستعظمت أن يخلق الله من يعصيه ويسفك الدماء. وعند إمعان النظر بحجة إبليس الأولى التي تتألف من مفاضلته بين جوهره (النار) وبين جوهر آدم (الصلصال)، نجد أنها لم تكن استكباراً وفخاراً بقدر ما كانت استذكاراً لحقيقة أساسية شاءها الله وأوجدها على ما هي عليه”.

يعضّد الكاتب طرحه قائلاً بأنّ هذه الحقيقة، هي أن الله لم يخلق الطبائع على درجة واحدة من السمو والكمال، وإنما ميز بينها، ليس من حيث خصائصها الطبيعية والمادية فحسب، بل من حيث درجات كمالها ورفعتها أيضًا. بناء عليه، ففي إمكاننا أن نصنف الكائنات والأنواع في نظام تقديري معين، يبدأ بالكمال المطلق ذاته، ثم يندرج بالأنواع هبوطا، كل حسب درجة كماله التي أسبغها الله عليه إلى أن نقترب من العدم باعتباره الحد الذي نقف عنده…

وفق تحليل العظم، النار، بطبيعتها وجوهرها، تحتل مرتبة أسمى وأرفع في هذا الترتيب من المرتبة التي يحملها الصلصال. بعبارة أخرى، تنطوي مفاضلة إبلیس بين جوهره وبين جوهر آدم على نظرة فلسفيّة معينة لنظام الكون وترتيب الطّبائع وفقا لدرجات الكمال التي تتصف بها.

هكذا، وفق رؤية العظم، يُستخلصُ أنّ قصة إبليس ليست بتلك السطحية والبساطة التي يتخيلها الكثيرون. فهي ليست قصة الصراع بين الخير والشر أو الحق والباطل. رفع إبليس بين شقي الرحى: رحى المشيئة من ناحية ورحى الأمر من ناحية أخرى. فكان عليه أن يختار اختیارا مصيريا بين واجبه المطلق في التقديس والتوحيد والتسبيح، وبين واجبات الطاعة الجزئية التي أمره بها الله، فجاءت محنته مفعمة بالعناصر الدّرامية والمأساويّة…

هذه مجرّد محاولة لرؤية الأمور من زاوية عقلانيّة صرفة، كما يقدم العظم في الكتاب معجزات أخرى، ويناقشها اعتمادا على منهج علمي عقلاني محض. هل نجح في ذلك؟ تبقى الإجابة من اختصاص الباحثين!

بعد 47 عاماً على صدور هذا الكتاب، فارق صادق جلال العظم الحياة في منفاه بألمانيا، في 11 دجنبر 2016م. بهذا، يكون المنهج العقلاني خسر أحد أبرز ممثليه… لكنّ مؤلفاته وأبحاثه ومواقفه لازالت تحتفي به، كمثقّف سجاليّ، في المطلق!

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *