صادق جلال العظم… أبرز العلمانيين “العرب”! 1 - Marayana - مرايانا
×
×

صادق جلال العظم… أبرز العلمانيين “العرب”! 1\2

اسمه… لا يقلّ أهميّة عن أسماء من عيار حسين مروة أو الطّيب التيزيني أو مهدي عامل أو محمد عابد الجابري أو محمد أركون أو حسن حنفي وغيرهم.
هو ينتمي إلى جيلهم. وهو محكوم، مثلهم، بضرورة الإجابة عن حاجات فرضتها صَرامة التّاريخيّة. لكنه فضّل الإجابة عنها بعيداً عن استِدعاء التّراث.

رجّح مساءلة الواقع والتاريخ بناءً على عقلانيّة مطلقة العنان. لم يكتف بالاقتراب من الثالوث المحرّم (الدين، الجنس، السياسة)، بل اقتحمه اقتحاما معرفيًّا شاملاً.

إنه المفكّر السوريّ صادق جلال العظم، الذي سنتعرّف عليه في هذا البورتريه.

سيرة مفكّر “مشكلجيّ

سنة 1934، سيصرخُ طفل إعلانا عن ولادته بدمشق. لكنّه سيصرخُ صرختين في حياته: صرخة جنين يرى النور لأول مرّة، ثمّ صرخة مفكّر إشكاليّ ماركسيّ، سيسعى أن يشعّ “النور” في عقول أنهكتها الدّوغما والخرافة… هو، باقتضاب، صادق جلال العظم، أبرز العلمانيين في المنطقة المسمّاة “عربيّة”.

نشأ في دمشق وتلقى تعليمه الابتدائي فيها، قبل أن تحمله أجنحة العلم إلى بيروت لاستكمال دراسته في الفلسفة. هناك، تخرج بميزة متفوقة من قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية عام 1957.

قرّر أن يقبض على جمرة التفلسف استدراراً لخلاصه الفكريّ، فحصل في الفلسفة على الدكتوراه. اشتغل في أطروحته حول الفلسفة المعاصرة، وخرج بعدها بقبعة الدكتور من جامعة بيل في الولايات المتحدة الأميركية.

صادق جلال العظم
         صادق جلال العظم

بعدها، تولى مهمّة تدريس الفلسفة والفكر العربي الحديث والمعاصر في كل من الجامعة الأميركية ببيروت وجامعة نيويورك؛ كما اشتغل أستاذا زائراً في جامعة هارفارد وبرنستون بأميركا، وجامعات هومبولت وهامبورغ وأولدنبورغ بألمانيا، وفي جامعة أنتويرب ببلجيكا، وجامعة توهوكو باليابان.

تعرّف على النّظرية الماركسيّة، فأخذ منها نزعتها الماديّة العلميّة في تفكيك كلّ نظم الواقع. أصبحت الأيديولوجيا الألمانيّة هي العينُ النقديّة التي يرى بها العظم محيطه المتردّي، فكانت الجدليّة المادية هي بوصلةُ آرائه ومواقفه وتحليلاته. يصفُ الماركسية بأنها “أهم نظرية شاملة صدرت في العلوم”؛ ثمّ يصفُ الدين كـ”بديل خياليّ عن العلم”.

هناك بالضّبط، تبلورت تنظيراته للعلمانيّة “العربية”. لا تخلو كتبه من ثلاث كلمات مفتاحية: العقل، العلم، العلمانية؛ وهو حقل دلاليّ يفصحُ بسرعة عن النزوع المدني في هذا المشروع الفكريّ. إنه مشروع يقولُ بضرورة فصل الديني عن الدنيوي، وضرورة إبعاد المرجعية الدينية عن العلم والفلسفة. استجلب ذلك للصادق ألقاباً من قبيل “أبرز العلمانيين العرب”، “أبرز العقلانيين العرب”، وذلك لأنّه أقام مشروعه على أساس علمي محض.

سيظهرُ ذلك بوضوح حين سيصدرُ كتابه بعنوان نقد الفكر الدينيّ سنة 1969، بعد هزيمة يونيو/حزيران بسنتين. أثار هذا الكتاب صدمة وجرحا نرجسيّا غائرا لما احتواه من تفكيك لليقينيات الدّينية ومخلصاتها القطعيّة.

سُجن في لبنان، والتهمة: الكتابة والتّفكير؛ لكنّه غادر المُعتقل بعد تبرئته. جاءت التهمة، طبعاً، على إثر كتابه “نقد الفكر الديني”، إذ وقف في وجهه الشيخ محمد جواد مغنية والإمام موسى الصدر والمفتي نديم الجسر. ثمّ غادر لبنان بعدها نحو الأردن، ليمنع، بسبب مواقفه السياسية وكتاباته المتحررة، من دخول الأردن أيضاً.

قبل كتاب “نقد الفكر الدينيّ”، كان العظم قد أصدر كتاباً بعنوان “النقد الذاتي بعد الهزيمة”. والمقصود تلك الهزيمة المذلة التي تجرعتها الجيوش “العربية” أمام إسرائيل سنة 1967.

كان إصداره نبأ مدويا سيكشف عن مثقّف من معدن آخر. مثقّف سجاليّ سيسَخِّرُ فكره كأداة لتدمير حصون التفكير الخرافي والأيديولوجيا الغيبيّة، التي تختبئ وراءها الديكتاتورية والرجعية.

لاحظ العظم أنّ تلك الأيديولوجيا تحوّلت، بعد الهزيمة، “إلى سلاح نظري أساسي وصريح بيد القِوى الرجعية في مواجهة الدعوات العقلانية، وفي يد الأنظمة لتهدئة الشعوب، وتغطية العجز والفشل الذين فضحتهما الهزيمة أمام الكيان الصهيوني الغاصب من خلال مماشاة التفسيرات الدينية والروحانية للانتصار الصهيوني والخسارة العربية، على وعد بنصر جديد من عنده تعالى”، وهو ما حدا به إلى وجوبِ نسفِ بُنيانِها.

في تقدير الكاتب الفلسطينيّ خيري منصور، فقد تخطى العظم “منذ بواكيره، السقف الأكاديمي وأسوار الجامعة، ليكون طرفًا في عدة معادلات منها: السياسية، والاجتماعية، والإيديولوجية. لهذا، لم تكن أطروحاته داجنة إلى الحد الذي يضمن له البقاء في مأمن من المساءلات، وربما كان كتابه “النقد الذاتي بعد الهزيمة” خروجًا عن السرب، فلم يصفق للهزيمة، باعتبارها لم تحقق هدفها، كما قال الإعلام الذي احترف التزوير والتبرير، ولم يذرف الدموع على أطلال ما قبل حزيران/يونيو؛ لأن ما قبل الهزيمة، كان حاضنة نموذجية لإفرازها، وقد سمى صادق العظم الأشياء بأسمائها؛ فالهزيمة هزيمة ولا شيء آخر؛ أما النكسة أو مرادفاتها من الصفات المستعارة من معجم المرضى؛ فلم تكن بالنسبة إليه نافذة للهرب”.

إلى جانب الكتابين، لديه مؤلّفات كثيرة: الحب والحب العذري، فلسفة الأخلاق عند هنري برغسون، ودراسات في الفلسفة الغربية الحديثة، دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية، الصهيونية والصراع الطبقي، زيارة السادات وبؤس السلام العادل، الاستشراق والاستشراق معكوساً

مثقّف عضويّ… بامتياز

في تعريفه لنفسه ومنهجه، يقول صادق جلال العظم: “أقدم نفسي كمثقف ومفكر وكاتب حاول ما استطاع الاقتداء بالحكمة السقراطية القائلة بأن الحياة غير المفحوصة جيدا غير جديرة بأن تعاش أصلا (…)، مع رفضي كل محاولة لرفع أي موضوعات -مهما كانت- فوق مثل هذا الفحص أكان فرديا أم جماعيا، باسم توجه الناس نحو السّماء وباسم القداسة والمقدّسات“.

ويردفُ العظم: “لا ألعب أبدا لعبة اشتقاق الحلول لمعضلات عالمي العربي الراهن مما يسمى بـ”التراث”، لأن علوم زمني وثقافة زمني وأفكار زمني ومشاريع زمني هي التي تفسر التراث وتحتويه وتعطيه معناه وتقدم الحلول لمشكلاته، وليس العكس على الإطلاق”.

قرنَ صالح جلال العظم القول بالعمل، وكان دفاعه عن الحريّة مستميتاً. ونذر مشروعه، كاملاً، لتبيئة حداثة معياريّة منشودة. نادى بحتميّة الذهاب نحو التقدّم، وخصوبة الشروط الراهنيّة للنّهضة. قارعَ الدوغما وساجل الخرافة وقاوم الديكتاتورية والاستبداد. فضح أسس الفساد، وناضل لأجل الكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية، والديمقراطية، والعلمانية.

من بين أنبل مواقفه، التي تنمّ عن وعي عميق بالحريّة، وقوفه إلى جانب الروائي البريطاني، الهندي الأصل سلمان رشدي، بعد صدور روايته الشّهيرة “آيات شيطانية”.

أفردَ العظم كتاباً بعنوان “ذهنية التحريم”، ثمّ كتاباً آخر بعنوان: “ما بعد ذهنية التحريم”، لينسفَ الحجج النكوصيّة والساذجة التي حاصرت الرواية حين تلقيها في السياق “العربيّ”. واستهجن الرؤى السّطحية لدى كثير من المثقّفين، والتي انزاحت مع الموجة دونما مطالعةٍ رصينة للرواية.

يقول صادق جلال العظم: إن أدب سلمان رشدي ينتصر للشرق ولكن ليس لأي شرق بالمطلق، بل للشرق الذي يجهد لتحرير نفسه من جهله وأساطيره وخرافاته، وبؤس دكتاتوريته العسكرية وحروبه الطائفية والمذهبية وهامشيّته الكاملة في الحياة المعاصرة.

ظلّ صادق جلال العظم كذلك؛ وحافظَ على مكانته كمثقف ينتصر للمظلومين. لذلك، لم يتردّد في دعم الثّورة السوريّة ضد نظام الأسد التي انطلقت منذ ثورات الربيع الديمقراطيّ. استمرّ في دعمها إلى آخر يوم من حياته. اعتبرها “ثورة مَسْرَحَت ذلك الكبت التاريخي التي تعرض له الشعب السوريّ على أرض الواقع، فأفرزت ردّ فعل عنيف يخلو من السّلمية. ويؤكّد أنّ السلمية ليست شرطًا للثورة وأن تاريخ الثورات يثبت أنها في غالبيتها اتّسمت بالعُنف”.

لم يتراجع لوهلة عن موقفه الداعم للثورة، إيماناً منه بأنها عمليّة “استرجاع الجمهورية من السّلالة الحاكمة إلى الأبد، ومن مجمعّها العسكري/التجاري الاحتكاري لكل شيء مهم في البلد”. وربما، ستكون بمثابة “تمهيد لمستقبل أكثر ديمقراطية وحرية مما عرفناه حتى يومنا هذا”. تماشيا مع مواقفه الداعمة للثورة السوريّة، أدان مرارا السياسات الأمريكية والروسية وتدخلها عسكريًّا في بلاده والإساءة إلى روح الثورة فيها.

في أحد حواراته، يقول العظم:”عندما أُسأل هنا في أوروبا عما يجري في سورية، أقول لهم إن أردتم نموذجاً لتفهموا من خلاله، تذكروا الانتفاضة المسلحة في المجر سنة 1956 ضد الحكم الستاليني. لم يقل أحدٌ وقتها إن ما يجري هو حرب أهلية، قالوا إنها انتفاضة ضد حكم ستاليني. ما يحدث في سورية شبيه لما حدث في المجر وقتها؛ انتفاضة أو ثورة ضد مزيج من الحكم الستاليني والفاشي”.

لكن… كيف حاكم صادق جلال العظم الفكرَ الديني؟

هذا ما سنراه في الجزء الثاني.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

  1. محمد شرنان

    من يقول الأخلاق قبل الأديان إما لا يفهم الدين الإسلامي أو يتحامل عليه لإيديلوجية مستوردة لم تحاقظ على الاتحاد السوفياتي.

  2. عزيز

    حلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *