مرايانا في مملكة الرحل المغاربة… خصوصيات ثقافية فريدة ومعاناة حقيقية تنذر الرّحل بالنهاية التاريخية! 2\3
ساهم الرحل في خلق تنظيمات اجتماعية قائمة على الجماعة القبلية (تاقبيلت)، التي يربط بينها الدم أو روابط العرق المفترضة، من جهة، وثقافة الترحال القائمة على التضامن والتماسك من جهة أخرى…
بعدما عرضنا في الجزء الأول بعض المشاهد من معاناة الرحل بالجنوب الشرقي بتافيلالت مع الجفاف وبعض المشاكل الأخرى، في هذا الجزء الثاني، نعرض الخصوصية الثقافية والاجتماعية والرمزية للترحال.
يقول الباحث في الثقافة الأمازيغية، لحسن أمقران، في مقال له: “يعيش الرحل حياة بسيطة جدا في مقوماتها، بعيدا عن كل تشعّبات حياة الاستقرار. أناس لا يكترثون للسياسة أو التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لها، ثقافتهم بسيطة لكنها عميقة”.
لا يهمهم من الأخبار إلا التوقعات الجوية، “فهم يرتبطون بالأرض والطبيعة التي تملي عليهم مكان الاقامة ولو إلى حين، كل همّهم توفير الكلأ والماء لمواشيهم. كل حياتهم تتلخص في نصب خيام يسكنونها “لإرضاء” المواشي ليس إلا، مدة من الزمن قبل أن يحين التنقل القسري إلى مكان آخر”، يضيفُ أمقران.
الترحال… أية خصوصية سوسيوثقافية؟
في تصريح لمرايانا، يعتبر أحمد السكونتي، وهو من أبرزِ الباحثين في التّرحال بالمغرب، أنّ الخصوصية السوسيوثقافية للرحل في الجنوب الشرقي، ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببيئة المنطقة التي عاشوا فيها لقرون.
تتميز هذه البيئة، حسب السكونتي، بتنوع المناظر الطبيعية مثل الجبال العالية والمتوسطة في شرق الأطلس الكبير من جهة، والجبال المتاخمة للصحراء وكثبان الصحاري أيضاً، من جهة أخرى.
موارد هذه البيئة هي دالة على ارتفاع هطول الأمطار ببعض الجهات من المنطقة، ويتأرجح مناخها بين البحر الأبيض المتوسط والصحراء.
إلى جانب البيئة، يعتبر السكونتي، الأستاذ الباحث بمعهد العلوم والآثار، أنّ بصماتُ الظّروف التّاريخية واضحة على ثقافة الرحّل في المنطقة، حيثُ أدى اندفاع قبائل صنهاجة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي بين القرن السابع عشر وبداية القرن العشرين، إلى توزيع عكسي للسكان الذين يمارسون أشكالًا مختلفة من الترحال.
الثروة الحيوانية تشكل بناءً رمزياً لخصوصية الرحل من منطقة إلى أخرى، وذلك بحسب الأنواع التي يتم تربيتها: الأغنام، الماعز، الإبل، البغال، الحمير والدواجن… إذ هذه الثروة، بحد ذاتها، هي نتيجة للتكيف الطويل مع البيئة الطبيعية.
يفصّل السكونتي بأنّ الرّحل يقضون الشّتاء بالقرب من الصحراء، والصيف في الجبال العالية، وفق اتفاقيات مبرمة قبل الحماية الفرنسية، وثابتة منذ سنوات الثلاثينيات إلى الخمسينيات من القرن الماضي.
ساهم الرحل في خلق تنظيمات اجتماعية قائمة على الجماعة القبلية (تاقبيلت)، التي يربط بينها الدم أو روابط العرق المفترضة، من جهة، وثقافة الترحال القائمة على التضامن والتماسك من جهة أخرى.
تظهر هذه الخصوصية الثقافية، بحسب الباحث، في تقاليد محددة مثل الزواج وطقوس الاحتفال بالأعياد الدينية، والحرف اليدوية مثل النسيج، والوشم الأمازيغي، والأدب الشّفوي، وغيرها.
طورت كل قبيلة أو جزء من قبيلة خصوصية من قاعدة مشتركة لجميع الرّحل في المنطقة.
يتقاطع لحسن أيت الفقيه، الباحث في التراث الأمازيغي، مع السكونتي، في اعتبار أنّ الخصوصية الثقافية للترحال، راكمت القيم الثقافية التي تنهل منها كل الأعراف الأمازيغية.
يعدّ أيت الفقيه التّرحال بمثابة منهل المجالية الثقافية. مجال أيت خباش محدد بلباسهم الثقافي وكذلك أيت سدرات… هي مجالات رعوية بالدرجة الأولى.
الأهم، في نظر أيت الفقيه، أنّ الترحال هو أساس التحالفات القبلية، وفق طقوس تايسا وتيغرسي وتاظا.
من جهة أخرى، يعتبرُ حسن كوجوط، الإعلامي والباحث في شؤون الترحال، أن الخصوصية الثقافية لا يمكن أن تكتمل صورتها، دون الحديث عن الخيمة ومكانتها الرمزية والثقافية، فهي ترمز للعرض والكَرامة والنّخوة الأمازيغيّة في بريقها.
كوجوط يفصح عن خصوصية نادرة يتمتّع بها الرحل، وهي أنهم، بحكم عيشهم في البراري طيلة حياتهم، ومعانقتهم السماء بالغدو والآصال، تمكّنوا من حفظ التغيرات الفلكية. تمرّسوا في قراءة الجو وطبيعة المناخ المحتمل، فقط بناءً على نظرة معمّقة نحو السّماء.
الرحالة إيدير، وهو يتحدّث لمرايانا عن صعُوبة نصب الخيمة، يقول إنّ من شُروطها، التي تحفظ للرحل خصوصيتهم، أن تكون من جلد الماعز، وأن يتم تنصيبها من طَرف الرجال، مع مراعاة قدرتها على تحمل الشّتاء والرّياح… تلك هي ثقافة الترحال وتلك صرامتها.
غياب الدولة… والجهُود الجمعوية!
في مقابلة مع مرايانا، يعتبر الفاعل الجمعوي، حمو أيت القايد، أن الأنشطة التي تنظمها الفعاليات الجمعوية، وخصوصاً، جمعية المعيدر للثقافة والتنمية التي يرأسها، تساهم في الحفاظ على ذلك الإرث الأمازيغي، وتعميق الخصوصية السّوسيوثقافية للرحل، باعتبارهم ضَمانة أساسية لبقاء الثروة الحيوانية بالمنطقة. الرّحل مجتهدون لدرجة كبيرة في تنمية هذه الثروة، وظلّوا أوفياء لها.
لا ينكر رئيس جمعية المعيدر للثقافة والتنمية، التي تنظم قافلة سنوية لفائدة الرّحل، أنّ هذه الفئة في غالبيتها، لا تتقن أي عمل آخر سوى حياة البدو، وأي محاولة لإدماجهم في المجال الحضري، قسراً، قد تعود بنتائج عكسية، سببها تلك الخصوصية السوسيوثقافية نفسها.
الرحل، وفق المتحدث، لا يمكنهم الانخراط الطبيعي في حياة المدينة، لأنهم لم يعتَادوا على هذا النّمط من العيش، وهو ما قد يجعلهم يلجؤون إلى سلوكات مشينة مثل السّرقة أو يتعرضُون للتّشرد أو التّهميش… رغم أن هذه ليست حقيقة متّفقاً عليها، إلاّ أنّها تبقى مجرّد فرضية، يتمّ، عبرها، دعمُ بقاء التّرحال في المنطقة.
من جهته، يرى موحا نوغو، المستثمر السّياحي وعضو جمعية “جميعاً من أجل المِنطقة”، أنّ الجهُود التي تمّ بذلُها في توثيق زيجات الرّحل بعقود الزواج، وتسجيل أطفالهم في الحالة المدنية، هي محاولة لإدخال هؤلاء إلى عالم الحُقوق المدنية والسياسية، الذي لا يؤمنون به في الأصل.
نوغو، الذي يلقبه الجَميع في المنطقة بـ“صديق الرّحل”، يعتبر أنّ الالتفات لهذه الشّريحة، التي يبلغ عددها زهاء الثلاثين عائلة بمنطقة مرزوكة، دفعهم إلى مساعدة بعضهم للدخول إلى مرزوكة لضمان تمدرس أبنائهم.
هناك بعض العائلات وراء الرّمال، يقول موحا، كانت تشتغل مع السياح الأجانب؛ حيث يتم إحضار السياح للخيمة واستقبالهم ليتذوّقوا قليلاً من نُكهة التّرحال. غير أنّ هذه الفئة، نتيجة أعطاب السّياحة التي خلفتها كورونا، كانوا بدورهم من أكثر المتضررين.
الجمعويون الذين يقومون بأعمال خيرية لفائدة الرحل، تُنسي هذه الشّريحة غياب الدولة بهذه المناطق، يعتبرون أن هذه الشريحة مرآة للثقافة الأمازيغية في وهجها وبريقها، لكنهم مع ذلك يؤمنون بأن الحياة واقعية وبراغماتية. لذلك، هم يساعدون كلّ من يريدُ أن ينتقل للمدينة ليضمن تمدرس أبناءه!
فهل ينبغي للترحال أن يستمر؟
يجيبُ أحمد السّكونتي على سؤال مرايانا، قائلاً: “نحن، كباحثين وإعلاميين، نكتفي برصدِ الظّاهرة والتّعريف بها وبإشكَالاتها وخصوصيتها… لكنّ قرار الاستِمرار، يبقى بيد الرّحل أنفسهم”.
في الجزء الثالث والأخير من هذا الملف، نرصد العلاقة الجندرية بين الرجل والمرأة الرحل، وكيف يتم تقسيم العمل على أساس الجنس، والمرجعيات المتحكمة في هذا التقسيم.
- الجزء الأوّل: مرايانا في مملكة الرحل المغاربة… الإنسان الذي اختار أن يُزاوج الدّم بالأرض! 1\3
- الجزء الثالث: مرايانا في مملكة الرحل المغاربة… مشاهد “حصرية” من التقسيم الجندري للفضاء والعمل! 3\3
مقالات قد تثير اهتمامك:
- كلميمة… برلمانيان من الأحرار والبام ومستثمرون يهددون المنطقة بالعجز المائي والعطش…
- أسامر… الحُمولة الأيديولوجية لتسمية تقاوم تهميش المغرب الرّسمي! 1\2
- إلى جانب الفقر… “أستاذ بيدوفيل” يفجع أطفال أكثر المناطق تهميشاً بالجنُوب الشّرقي
- ابتدائية الراشيدية تحكم على الأستاذ الذي اغتصب أطفال تافراوت… ومرايانا تنفردُ بنَشر تفاصِيل الحُكم!
- من الولايات المتحدة الأمريكية، مونية مناور تكتب: أنا لستُ بربريّة، ولستُ شْليحة… أنا أمازيغيّة!
- عن الأحلام التي سبحت نحو سبتة المحتلة. هشام الرميلي يكتب: المغرب الحافي
- صحراء مرزوكة… هل تشفي “السّياحة الدّاخلية” جرح أزمةٍ لم يتوقّف عن النّزيف بعد؟ (صور) 2\2
- الجائحات… مصائب الفقراء عند الأثرياء فوائد!
- صناعة الجوع: هل الندرة مجرد خرافة؟ 4/1