الخَوارج… أحد ملامِح الفكر الديمقراطي في التّراث العربي الإسلامِي 3/4
كان الخوارج متشددون في حضهم الثوري على أئمّة الجور، وفي استحلالهم لدماء مخالفيهم، والدعوةِ إلى العدالة الاجتماعية والمساواة. لذلك كله، فقد اعتبر ميور، وهو أحد الفلاسفة الغربيين، الخوارجَ بأنهم “مذهب ثوري ديمقراطي اشتراكي”…
رأينا في الجزأين الأول والثاني نشأة الخوارج وفرقهم واستمرار فرقة الإباضية، مع أنها تعتبر نفسها بعيدة عن فكر الخوارج… وأنهُ بانتصار نظرية كبار الصحابة السياسية، انتصرت قراءتهم وتأويلهم للدين الإسلامي!
في هذا الجزء، نسُلّطُ الضوءَ على ملامح الحداثة السياسية في فكرِ الخوارج.
كان أولَ شعارٍ رفعهُ الخوارج بعد معركة صفين، هو “لا حكم إلاّ لله”، عندما قَبل علي بن أبي طالب بالتّحكيم. من هذا الشعار بالذات، ستتبلورُ نظريتهم السياسية.
فـ”الحقّ حق الله”، وليس لأحدٍ إذن أن يتصرّف به، أو يجعل أحداً من الرجال حكماً يحكمُ به على هواه… يقول حسين مروة.
هل من علاقة بين الخوارِجُ والدّيمُقراطِية؟
يقولُ عبد الله العروي: “لا شيء يمنعنا من أن نتصوّر حالة يكونُ فيها إسلامُ الخوارج هو الغالب على شكل مجموعة جمهوريات ديمقراطية ثيوقراطية على غرار جنيف كالفن بناءً على تأويل متناسق للنصّ للقرآني” [1]
فظاعةُ الأرقام مرعبة، حيث نقلَ المؤرخون العرب أنّ عدد الأشخاص الذين أعدمهم الحجاج بالعراق، بلغ نحو مائة وثلاثين ألف نسمةٍ…
محمد عبد الوهاب رفيقي، في حديثه مع “مرايانا”، ينحازُ إلى حداثَةِ الخوارج السياسية… فهو يقولُ بأنه، من الناحية التاريخية، ثبتُ أن الفكر الخارجي كان فعلاً أكثر حداثةً من غيره. لهذا، فهو يقتربُ في كثير من النواحي للفكر المعتزلي العقلاني.
الشروط التي صيغت، بمنطق سياسي، حسب أهل السنة والجماعة، فرضت أن يكون الخليفةُ قريشياً وأن يكونَ حرّا… أمّا الخوارجُ، وفق رفيقي، فهم لا يشتَرطُون إلاّ أن يكُون عدلاً، ويجيزون أن يكُون عبداً أو امرأةً، ويجيزون أن يكون من أي نسبٍ كان.
بالنسبة لمحمود إسماعيل، فإنّ الخوارج شكلوا أحد الأحزَاب السياسية المعارضة عبر التاريخ الإسلامي، وكان فكرهم السياسي معبرًا عن قطاع عريض من الجماهير السّاخطة على الخلافة، مما يجعلهم بحقّ “جمهوريي الإسلام”.[2]
كانوا متشددين في حضِّهم الثوري على أئمّة الجور، وفي استحلالهم لدماء مخالفيهم، والدعوةِ إلى العدالة الاجتماعية والمساواة. لذلك كله، فقد اعتبر ميور، وهو أحد الفلاسفة الغربيين، الخوارجَ بأنهم “مذهب ثوري ديمقراطي اشتراكي”. [3]
الخوارج… الثوارُ “فيمَا يُرضِي الله”!
يصفُ محمود إسماعيل الخوارج بأنّهم “ثوريو الإسلام”؛ ويعتبرُ أنّ تاريخهم، حتى أواخر العصر الأموي، يسايرُ مبادئهم الاعتقادية في التطرف والثورية الصادعة.
ثورية الخوارج، في نظره، كانت تعبيراً واضحاً عن اتجاه الجناح الديمقراطي بين الأحزاب الإسلامية الأخرى من حيثُ النّاحية السياسية.
لقد أزعجت ثوراتهم الكثيرة عليّا بن أبي طالب… الأخيرُ واجه ثوراتهم بالبطش والعنف والقسوة. كما أن كل المعارك التي وقعت بين الخليفة علي والخوارج كانت تنتهي بالقضاء على جيش الخوارج [4]، ومن أشهر هذه المعارك معركة “النهروان”.
الشروط التي صيغت، بمنطق سياسي، حسب أهل السنة والجماعة، فرضت أن يكون الخليفةُ قريشياً وأن يكونَ حرّا… أمّا الخوارجُ، فهم لا يشتَرطُون إلاّ أن يكُون عدلاً، ويجيزون أن يكُون عبداً أو امرأةً، ويجيزون أن يكون من أي نسبٍ كان.
ضاقَ الأمر بالخوارج، فأفكارهم الثوريةُ لا تجدُ لها متنفّساً. لذلك، فكروا في التآمر على قتل علي. ذلك الاغتيال الذي نفذهُ عبد الرحمن بن ملجم المرادي في رمضان سنة 40 هـ.
رغم مقتل علي، يجدُ محمد إسماعيل أن ثورات الخوارج استمرّت، عندما انضموا إلى عبد الله بن الزبير، الذي ناوَأ الأمويين في الحجاز والعراق لمّا أظهر الميل لمذهبهم، فحاربوا في صَفّه زمناً… لكن، سرعان ما انقلبوا عليه حين لاحَ لهم أنّه يظهرُ خلافَ ما يبطنُ، فدارت المعاركُ بين الطرفين، وأزهقت فيها آلاف الأرواح من الخوارج. [5]
يخلصُ حسين مروة في كتاب “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، إلى أن تعيين الحجاج بن يوسف الثقفي في العراق، من طرف الحاكم الأموي عبد المالك بن مروان، كان لرأب صدع ثورات الخوارج وتضييق الحِصار عليهم وإنهاء وجودهم…
أمام كل بطشِ الحجاج وقتله للآلاف منهم، بقي فكرُ الخَوارج ثورياً وداعماً للفئات المسحُوقة والمظلومة من الفلاحين والمشتغلين في الزّراعة في الأرياف العراقية والفقراء والكادحين الحرفيين في المدن وقتئذٍ… ومن أبرزها انتفاضةُ الفلاحين على الحجاج بالبصرة!
يبدو لنا، هنا، أن ثورية الخوارج في ظاهرها، هي وقوفٌ ضد القمع والظلم ودعمٌ للحقوق الأساسية للبسطاء والفئات الهشّة داخل الدولة الإسلامية حينئذٍ.
الخوارج شكلوا أحد الأحزَاب السياسية المعارضة عبر التاريخ الإسلامي، وكان فكرهم السياسي معبرًا عن قطاع عريض من الجماهير السّاخطة على الخلافة، مما يجعلهم بحقّ “جمهوريي الإسلام”.
لم يتراجع الفكرُ الثوري للخوارج حتى في عهد الحجاج في الكوفة. هناك، نشطت المعارضة السياسية وبداية الانتفاضات التي نظمها الخوارج، وهو ما أقلق الحجاج ودفعهُ إلى تغيير مكان إقامته ونقلها إلى دجلة في جنوب العراق، باعتباره مكاناً يصلحُ قاعدةً استراتيجية له في مواجهة أحزاب المعارضة، ومنهم الخوارج. “هناكَ، أسس المدينة التي يقترن اسمها بتاريخه الإرهابي، مدينة واسط”. [6]
فظاعةُ الأرقام مرعبة، حيث نقلَ المؤرخون العرب أنّ عدد الأشخاص الذين أعدمهم الحجاج بالعراق، بلغ نحو مائة وثلاثين ألف نسمةٍ… ولا شكّ أن الخوارج كانوا أكثرهم عددا؛ لأن مهمته الأولى كانت القضاء عليهم، كما يرى بعضُ الباحثين ومنهم حسين مروة.
أمام كل هذا، يبقى سؤال وحيد: هل كان فكرُ الخوارج نظرياً فقط… أم أنهُ انزلقَ إلى العنف والدماء أيضاً؟
سؤال نحاول الإجابة عنه في الجزء الرابع والأخير من هذا الملف.
هوامش:
[1] العروي عبد الله، السنّة والإصلاح.
[2] إسماعيل محمود، الحركات السرية في الإسلام.
[3] المرجع نفسه.
[4] نفسه.
[5] نفسه.
[6] النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، المجلد الثاني، دار الفرابي.
- الجزء الأوّل: تعرّضوا للظلم والإقصاء… من هم الخوارج؟ وما أهمّ فرقهم في التاريخ العربي الإسلامي؟ 1/4
- الجزء الثاني: الخوارج بين الإباضية والسنة… والتأويل بين الخوارج وأهل السنّة! 2/4
- الجزء الرابع: الجانب المظلم من فكر الخوارج… الدّماءُ أفقاً! 4/4
مقالات قد تثير اهتمامك:
- نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: الوعي التاريخي الإسلامي الشقي والمزيف 1/4
- اللَّقاحية… حين كانت اللاسُلطة مذهبا سياسيا للعرب! 1/2
- الترجمة إلى العربية: حين أدرك العرب أن العلم وحده المدخل إلى حياة الحضارة 4/1
- الحنيفية: عن دين إبراهيم في “الجاهلية”! 3/1
- الفقهاء والجنس: التلذذ بالآدمية والاستمتاع بزوجة رجل آخر (1\2)
- “حُروب الرّدة”: حين كشف أبو بكر عن وجهه الآخر! 2/1
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… التاريخ الديني 1/4
- دولة “الإسلام”: من العدل والرحمة إلى الجور والاستبداد… حكم “السفاح المبيح” 3/3