اللَّقاحية… حين كانت اللاسُلطة مذهبا سياسيا للعرب! 1/2 - Marayana - مرايانا
×
×

اللَّقاحية… حين كانت اللاسُلطة مذهبا سياسيا للعرب! 1/2

جاء رجل من بني أسد إلى قريش، وأبلغها بقرار القيصر تتويجه ملكا عليهم، ثم لوح لهم بقوة البيزنطيين التي تدعمه. ظل الأسدي كذلك أياما دون أن يأبه له أحد، حتى حدث أن ضاقت منه قريش فاجتمعت لتصده.
حينها، أعلنت من فوق الكعبة موقفها الموحد، إذ نادى المنادي في الجموع التي حضرت لتشهد الإعلان: “إن قريشاً لَقاح لا تَملك ولا تُملك”.

مرت بالعرب مبكرا نزوة ملكية لما حاول النعمان بن المنذر (582-609م) توطيد حكم عربي يجابه التسلط الساساني[1]… قاوموهم وثأروا للنعمان منهم. لكنهم، مع ذلك، قرروا عدم الإذعان لسلطته في الحيرة[2]، وبسبب ذلك… فشل مشروعه الطموح.

كانت العرب يومها تعرف من الدول نماذج إمبراطورية كسرى وقيصر. نماذج لم تستسغ السلطةَ فيها مطلقا، ونبذت أن يكون لديهم مثلها.

في حادثة يوردها المفكر العراقي هادي العلوي، في كتابه “إضاءات”، عن الزبير بن بكّار[3] في “جمهرة نسب قريش وأخبارها”، أن رجلا من بني أسد[4]، ذهب إلى قيصر القسطنطينية وعرض عليه أن يتوجه ملكا على قريش، فكان أن أعطاه القيصر تخويلا بما أراد.

الواقع أن البيزنطيين، يومها، كانوا يتطلعون إلى بسط سيطرتهم على الجزيرة العربية. يمنعهم من ذلك فقط عدم قدرة جيوشهم على اختراق الصحراء للوصول إلى المدن التي توجد في عمقها.

في آخر حديثه عن مصطلح اللقاحية، في كتابه “إضاءات”، يقارنه هادي العلوي بمصطلح أوروبي رأى أنه مقابل دقيق لمصطلح لقاح “الجاهلي”. هذا المصطلح هو “Anarchy”، أو “الأناركية”، الذي يتكون من مقطعين يونانيين؛ An وهي أداة نفي، وArch وتعني حاكم.

صفقة الأسدي جاءت بالنسبة للبيزنطيين، في ضوء استعمال النفوذ السياسي والمالي، لفرض حكام تابعين لهم في تلك المدن.

حين عاد الأسدي إلى قريش، يروي الزبير بن بكار، أبلغها بقرار القيصر تتويجه ملكا عليهم، ثم لوح لهم بقوة البيزنطيين التي تدعمه.

لكن الأسدي ظل كذلك أياما دون أن يأبه له أحد، حتى حدث أن ضاقت منه قريش فاجتمعت لتصده.

حينها، أعلنت من فوق الكعبة موقفها الموحد، إذ نادى المنادي في الجموع التي حضرت لتشهد الإعلان: “إن قريشاً لَقاح لا تَملك ولا تُملك”.

أدرك الأسدي قوة الإجماع القرشي ففر هاربا من مكة… هذه الحادثة تدخل، يقول العلوي، في تاريخ العمالة، وقد أفشلها التمسك باللَّقاحية كنهج سياسي لقريش.

في ذات السياق، يورد الزَّبيدي في “تاج العروس” ثلاثة أبيات شعرية، نسبها إلى حرب بن أمية أو أخيه الحارث، يخاطب صديقا له، يدعى أبو مطر الحضرمي، داعيا إياه إلى العيش في مكة:

أبا مطر هلم إلى صلاح … تكفيك الندامة من قريش

وتأمن وسطهم وتعيش فيهم … أبا مطر، هديت، بخير عيش

وتسكن بلدة عزت لَقاحا … وتأمن أن يزورك رب جيش

بعدما أوردنا حادثة الأسدي، وهذه الأبيات، لنا أن نتساءل الآن عن معنى “لَقاح” (بفتح اللام)، وما المقصود باللقاحية.

في الإجابة عن ذلك، سنعتمد على كتابات المفكر العراقي هادي العلوي، كونه أفرد فيها حيزا مهما لمصطلح اللقاحية، وكون جل ما تابعناه من مصادر أخرى عن المصطلح، تأخذ عنه.

قبل ذلك، يجدر الذكر أن قريش لم تكن لوحدها لقاحا. كان هذا في الواقع شأن معظم العرب عدا اليمن. نقصد بالحديث عن اليمن، سكان المدن الكبيرة دون الأرياف، ودون القبائل اليمنية المهاجرة في أصقاع شبه الجزيرة وامتداداتها العراقية والشامية، التي كانت قبيلة طي الكبرى من أمنعها.

اللَّقاح، ببساطة، مصطلح جاهلي كان دائم التردد في الشعر وكلام الناس قبل الإسلام.

هذا المصطلح يشير، وفق العلوي، إلى معنى غريب في القاموس السياسي القديم، يرتهن بوضع العرب في الجاهلية؛ إذ استعمل لوصف الناس الذين لا يخضعون لسلطة، والذين يكون عدم خضوعهم لسلطة، نتيجة قرار داخلي يتفقون على الدفاع عنه، ضد احتمال فرض السلطة عليهم من مصدر خارجي أو داخلي.

اللغويون القدماء، بحسب ما يذكره هادي العلوي في “إضاءات”، احتاروا في أصل اللفظ الذي يلتبس بمعان أخرى بعيدة عن معناه السياسي، فاللقاح بفتح اللام، هو ما تلقح به الأنثى من النبات والحيوان، وبكسر اللام هي النوق الجيدة الحليب.

يورد ياقوت الحموي، في بند سجستان من معجمه الجغرافي، عن محمد بن بحر واصفا هذه الولاية: “لم تزل لَقاحا على الضيم ممتنعة من الهضم”؛ أي أنه يشير إلى قوة معارضة الولاية للدولة.

كما نرى، لا صلة لهذين المعنيين بمعنى لقاح السياسي.

لكن هادي العلوي يعود في كتاب آخر له بعنوان “في الإسلام المعاصر”، ويقول إن قارئا أرشده إلى مفردة توجد في القاموس السرياني، هي “لقحا أو لقحو”، موضحا له أن أستاذه في الجامعة عربها إلى “ضواحي”.

حين رجع العلوي إلى لويس كوستاز، مؤلف القاموس السرياني العديد اللغات، وجده يفسرها على هذا النحو:

بالفرنسية: Environs d’une ville

بالإنجليزية: Confine of city

بالعربية: رستاق.

ورستاق هذه تعني “القرية”، كما كانت تعرف في العراق على عهد الساسانيين… من المعروف وقتئذ أن سكان حواشي المدن كانوا لا يخضعون لسلطة الدولة، وللأرياف العربية تاريخيا عهد بهذا الوضع.

الواقع أن المفردة ترد بهذا المعنى في المعاجم القديمة، وكذلك استعملها الكتاب المسلمون في عصور لاحقة. مثلا، يورد ياقوت الحموي، في بند سجستان من معجمه الجغرافي، عن محمد بن بحر واصفا هذه الولاية: “لم تزل لَقاحا على الضيم ممتنعة من الهضم”؛ أي أنه يشير إلى قوة معارضة الولاية للدولة.

في آخر حديثه عن مصطلح اللقاحية، في كتابه “إضاءات”، يستطرد العلوي ويقارنه بمصطلح أوروبي رأى أنه مقابل دقيق لمصطلح لقاح “الجاهلي”.

هذا المصطلح هو “Anarchy”، أو “الأناركية”، الذي يتكون من مقطعين يونانيين؛ An وهي أداة نفي، وArch وتعني حاكم.

مدلوله الحرفي إذن هو اللاسلطة، ويستعمل عادة لمن لا سلطة له، وللوضع الذي لا تسود فيه دولة، وقد ترجم إلى العربية فقيل: “فوضوية”.

لكنها ترجمة خاطئة بإجماع عدد كبير من الباحثين. انعدام السلطة لا يعني بالضرورة الفوضى، وقد تحدث بعض المتكلمين المسلمين عن إمكان الاستغناء عن الحاكم، إذا اتفق الناس على التناصف والكف عن العدوان… ومن ثم فمقابله الدقيق، يؤكد العلوي، هو: لَقاحية.

[1]  الإمبراطورية الفارسية الثانية (266-651م)، ويعود تسميتها بالإمبراطورية الساسانية إلى الكاهن الزرادشتي ساسان الذي كان جد أول ملوك الساسانيين أردشير الأول.
[2]  مدينة تاريخية قديمة، تقع جنوب وسط العراق.
[3]  من نسل عبد الله بن الزبير، وكان عالما بالأنساب عاش في العصر العباسي.
[4]  من بطون قريش.

لقراءةالجزء الثاني : اللَّقاحية: بعدما اعتنقوا اللاسلطة مذهبا سياسيا… كيف تعاملت العرب مع ظهور نبي فيهم؟ 

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *