الإحسانُ تحتَ رحمة الصّورة… ما يَخفَى من مُمارساتٍ رسمتْ خطوطها الدّولة وتبنّتها الشّبكات الاجتماعية! 2/2 - Marayana - مرايانا
×
×

الإحسانُ تحتَ رحمة الصّورة… ما يَخفَى من مُمارساتٍ رسمتْ خطوطها الدّولة وتبنّتها الشّبكات الاجتماعية! 2/2

“الإعلام يُصرّح بذلك عندما يُعتبر تدخّل الدولة “فعلاً إنسانيا”، أي تفضلها بالتّصدق على مواطنين أنهكهم الفقر والجوع؛ والحال أن هناك دستورا يحمي حقوق هؤلاء في العيش الكريم، فلا يمكن للدولة أن تتصدق على مواطنيها، فذاك حقهم”

في الجزء الأوّل من هذا الملف، رأينا أنّ رهن الأعمال الخيرية بالآلة الفوتوغرافية يعتبر، في حدّ ذاته، تسليعا للفقر وللفقراء، واستعمال “الإحسان” كوسيلة للظهور والشهرة.

في هذا الجزء، نفسّر أصل هذه الممارسات في الإعلام، وكيف انتقلت عفوياً إلى شبكات التراسل الفوري بوعي أو بدون وعي!

إذا رأينا في الجزء الأول أنّ هذه الأعمال عضّدت انتفاء العنصر الأخلاقي للفُوتوغرافيا، ففي هذا الجزء، يتّضحُ أنّنا أمام أمرٍ أبعد من ذلك… إننا أمام قلب الأحاسيس الإنسانية رأساً على عقب!

سعيد بنگراد: الكامِيرا في الغالب ليست معنية بالفردِ المُواطِن، إنّها تبحث عن البائس ضمن بؤساء آخرين. إن إلغاء النسخة لصالح النوع، هو إلغاء للهوية الفردية لصالح الهوية الجماعية: من سيسألُ عن أسماءِ هؤلاء الفُقراء من النّساء والرّجال؟ إنّهم موضوع وليسوا كائنات بكيان مميز. لذلك، تلتقط الكاميرا لقطة واسعة تمكن من رسم لوحة عامّة عن بؤساء يتلقّون صدقات من سُلطة تتمتع بـ”حسّ إنسانيّ” كبير.

لم يعُد جوهر الفوتوغرافيا هو التمثيل ولا التسجيل ولا التوثيق ولا الذكرى ولا حتى المتعة البصرية… وإنما بات هَمّ المتحكمين في المجال، هو إنتاج صور / فوتوغرافيات تبحث عن الإثارة، وتنتج الفرجة لاستمالة جمهور المشاهدين، بل استدراج الحشود، كما يعترفُ صاحبُ كتاب “نظرة حول الفوتوغرافيا بالمغرب”، جعفر عاقيل في حديثه لـ”مرايانا”.

وفق هذه الفكرة، يأتي بثّ فيديوهات وصور الأعمال الإحسانية. ولكن، ما الذي لا تستطيع العينُ التقاطه وليس من اليسير إدراكهُ تلقائياً… يا ترى؟

ما لا يُدركُ تلقائياً!

سعيد بنگراد، الأستاذ الباحث في السيميائيات، في حديثٍ لهُ مع “مرايانا”، يعتقدُ أنّ ما يسمّى بـ”الإحسان”، هنا، هو في واقع الأمر “صدقة”، ذلك أن الإحسان في الضمير الإنساني هو سلوك محسن، فهو يحضر في الفضاء العمومي بصفته تلك، بعيداً عن تعاليم دين أو عقيدة ما. لذلك، كانت صُورته معمَّمة في كل التراث الإنساني، بما فيها التراث الديني.

لكن الصّدقة هي مفهوم ديني خالص. إنها مرتبطة بالحسنات والجنة والثواب… والكثير من طرق تصريف الرحمة والشفقة.

ما تقدمه القنوات التلفزية بالخُصوص، يضيفُ بنگراد، يدخُل ضِمن هذا التّصدق، بل إنّ “الإعلام يُصرّح بذلك عندما يُعتبر تدخّل الدولة “فعلاً إنسانيا”، أي تفضلها بالتّصدق على مواطنين أنهكهم الفقر والجوع؛ والحال أن هناك دستورا يحمي حقوق هؤلاء في العيش الكريم، فلا يمكن للدولة أن تتصدق على مواطنيها، فذاك حقهم”.

لكل ذلك، يردفُ بنگراد، لا تحتفي الصّورة في الإعلام المغربي، في حالات توزيع “الصّدقات”، بالوجه المخصوص، بما يُمكن أن يمنحه قسمات وجه أو تثيره تضاريس جسد أو انفعالات نظرة…

الحُضور المادّي للشّيء في الوُجود وإبرازه، لم يعد له معنى مع الاستعمالات الجديدة لهذه الفوتوغرافيات المنشورة على هذه المواقع / الأسناد الجديدة، يقول الباحِث في الفوتوغرافيا، ذلك أنها صارت تُقدّم نفسَها إلى جُمهور الفضَاء الافتراضِي وهي في حالةِ عراء وفراغ وتيه وموت.

بالنسبة للمتحدّث، فالكامِيرا في الغالب ليست معنية بالفردِ المُواطِن، إنّها تبحث عن البائس ضمن بؤساء آخرين. إن إلغاء النسخة لصالح النوع، هو إلغاء للهوية الفردية لصالح الهوية الجماعية: من سيسألُ عن أسماءِ هؤلاء الفُقراء من النّساء والرّجال؟ إنّهم موضوع وليسوا كائنات بكيان مميز. لذلك، تلتقط الكاميرا لقطة واسعة تمكن من رسم لوحة عامّة عن بؤساء يتلقّون صدقات من سُلطة تتمتع بـ”حسّ إنسانيّ” كبير.

عندما تتهاطل الثلوج والأمطار في الجبال والقرى النائية، وتحاصر السكان ويتهددهم الجوع والمرض والموت، تسارع السلطة بإعلامها للتّدخل، ولن يكون الخبر هو ما يعاني منه هؤلاء المساكين في جبالهم، بل يغدُو “الحدث”، هكذا، هو تدخّل السلطة، وسرعتها في القيام بذلك والآلات المستعملة والقوات المتدخلة، أي كل ما يمكن أن يكشف عن قوة السلطة وهيبتها، كما يرى الباحثُ في السيميائيات.

الأخطر، حسب بنگراد، أنّهُ لن تكُون المُساعدات المقدمة لهؤلاء حقا من حقوقهم، فتلك وظيفة السّلطة وذاك واجبها… بل أنها مساعدات “إنسانية” فقط، لبؤساء تقطعت بهم السبل في الجبال. بما يعني أن الدّولة ليست ملزمة بالقيام بذلك، ولكن الرحمة عندها والشفقة هما ما دفعاها للقيام بذلك.

من هذا المنطلق، يتّضحُ أنّ الدولة وسياساتها في “الأعمال الإنسانية”، قد تكونُ هي أصلُ هذا “الخلل. هذه المُمارسات، التي أخضَعت الكثير من البؤساء في ربوع الوطن للتشهير، صريحاً أو ضمنياً؛ هي ممارسةٌ كرّسها الإعلام على أنّها خَيّرة، فتبنّاها الأفرادُ تلقائياً، بعد أن وجدوا “الأرضية” وجميع الإمكانيات لذلك، وما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً… حتّى وإن كان ذلك على حساب اغتيال الفُوتوغرافيا فنّياً واغتيال كرامة الأفراد في نفس الوقت!

الاغتيال الفني للفُوتوغرافيا!

حسب ما قالهُ الأستاذ الجامعي الباحث في الفوتوغرافيا، جعفر عاقيل لـ”مرايانا”، فإنّهُ من الممكن النّظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي وما تنشره من صور وفوتوغرافيات على وجه التحديد باعتبارها سيفاً ذو حدين…

هي أولاً، كما يردفُ عاقيل، “آلية أو وسيلة جديدة تنضاف إلى التجارب العديدة التي راكمها الإنسان في مجالي الإخبار والتواصل”، وثانياً، هي”مرآة مَجْلُوَّة تكشف عن أعراض بعض الذّوات وأحياناً كثيرة عن حالاتها المرضية… ذلك أنّها تبُوح بالتّصورات والتمثلات والتفسيرات والمعاني التي تنتجها هذه الذوات، من خلال ما تنشره من فوتوغرافيات، عن فِكرة الحميمية أو الصّداقة وأحياناً حتّى عن فكرة الموت”.

يتأسّف عاقِيل، لأنّ هذه المَفاهيم السّالفة الذكر، وأخرى ذات صلة بالحياة عموماً، تَعَرَّت من جوهرها مع ما تنشره هذه المواقع من فوتوغرافيات وصور عموماً، لتلبس كساء الواجهة الخارجية للشيء فقط، أي الاهتمام أساساً بتجسيد هيأة الأشياء ومَظهرها الحسي، والميول أكثر إلى تخليد نسخة صورة الشيء عوض التركيز على أصله!

… الحُضور المادّي للشّيء في الوُجود وإبرازه، لم يعد له معنى مع الاستعمالات الجديدة لهذه الفوتوغرافيات المنشورة على هذه المواقع / الأسناد الجديدة، يقول الباحِث في الفوتوغرافيا، ذلك أنها صارت تُقدّم نفسَها إلى جُمهور الفضَاء الافتراضِي وهي في حالةِ عراء وفراغ وتيه وموت.

جعفر عاقيل: لم يعُد جوهر الفوتوغرافيا هو التمثيل ولا التسجيل ولا التوثيق ولا الذكرى ولا حتى المتعة البصرية… وإنما بات هَمّ المتحكمين في المجال، هو إنتاج صور / فوتوغرافيات تبحث عن الإثارة، وتنتج الفرجة لاستمالة جمهور المشاهدين، بل استدراج الحشود

أي… أصبحت عَاجِزة كُلّ العَجز “عن تجسيد حالات وانفعالات وجروحات وذاكرات الموضوعات المُصَوَّرَة. بمعنى أوضح، تمثيل الأشياء في صمتها والتباسها وانفتاحِها بعيدا عن الضوضاء والاصطخاب والبلبلة…”

في النّهاية تطرح هذه الصّور الملتقطة للبؤساء سؤال الفنّ والأخلاق في نفس الوقت. إنها تفسدُ غايات الفوتوغرافيا، لأنّها تقصي القانون ومعه “الحق في الصّورة”، كما أنها تسيء للأخلاق وللكرامة الإنسانية.

بشكلٍ أدقّ، هي صُور تخاطبُ عاطفة الإنسان، بما يضمنُ تعطّل الإدراك العقلاني في اللّقاء الأول بين الرّائي والمرئي، وقد يحدثُ “الانبهارُ” و”الدّهشة” و”المشاركة”…

لكن، في آخر المطاف، يبقى عبثاً بخُصوصية الأفراد… الفُقراء، عفواً!

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *