حكاية الطوفان… بين القرآن والتوراة والرواية البابلية 1\2
كل السرديات اللاهوتية في العالم تضمنت حكاية الطوفان. الفكرة كانت واحدة، لكن السيناريو والشخوص (إن جاز التعبير)، اختلفا من حكاية إلى أخرى.
اعتقد الناس، حتى أواخر القرن التاسع عشر، أن أقدم مصدر للحكاية كان التوراة، حيث لا تختلف تفاصيلها كثيرا عما ورد في القرآن. لكن الاكتشافات الحديثة وجدت ما هو أقدم…
للسردية الإسلامية روايتها لحكاية الطوفان…
كان بطل الحكاية نوحا، الذي عاش 950 عاما ينهى عن عبادة الأصنام ويدعو قومه إلى توحيد الله؛ فلما استكبروا وأخذهم بجانب اللين وتعنتوا، يئس من هدايتهم، فدعا ربه: “رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا”.
ثم قال لاحقا: “رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ “، فاستجاب له الله أخيرا: “فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ”.
كانت تلك انطلاقة جديدة للبشرية في السردية الإسلامية!
الحقيقة أن كل السرديات اللاهوتية في العالم تضمنت حكاية الطوفان. الفكرة كانت واحدة، لكن السيناريو والشخوص (إن جاز التعبير)، اختلفا من حكاية إلى أخرى.
لكن الناس اعتقدوا، حتى أواخر القرن التاسع عشر، أن أقدم مصدر للحكاية كان التوراة، حيث لا تختلف تفاصيلها كثيرا عما ورد في القرآن. لكن الاكتشافات الحديثة وجدت ما هو أقدم.
بصرف النظر عن تفاصيل خلق الإنسان، فإن المآثر السومرية والبابلية تتفق على أن الإنسان خُلق من طين: لم يكن خلقه غاية في حد ذاتها، ولا نتيجة مكملة لخلق الكون. لقد خُلق من أجل خدمة الآلهة وأن يكد ويكدح في سبيل إطعامها وبناء معابدها.
عام 1853م، عثر على نسخة من الرواية البابلية للطوفان. في نهاية القرن، اكتشفت بعثة أمريكية كانت تنقب في العراق، على الرواية السومرية للطوفان.
النّحو الذي كتبت به هذه الأخيرة، يجعلها تعود حسب المختصين، إلى عهد أقدم بقليل من ظهور الملك البابلي الشهير حمورابي (1810-1750 ق.م) على مسرح التاريخ.
هذا الحادث تصور الأقدمون أنه قد وقع في عصر موغل في القدم، وكان كونيا؛ أي أنه شمل العالم القديم كله، لا منطقة واحدة منه فقط.
الطوفان لدى هؤلاء حدث في غاية الأهمية، بحيث كان نقطة تأريخ. عندما نقرأ في مراجعهم مثلا عن كلكامش (في حدود 2700 ق.م)، نجد أنه “جاء بأخبار تعود إلى ما قبل الطوفان”، وعن آشور بانيبال (669-631 ق.م) نجده يقول: “وأمعنت النظر في كتابته على حجر تعود إلى ما قبل الطوفان”.
فكيف حدث الطوفان إذن في أولى المصادر التي تؤرخ له؟
اعتقد القدماء في وادي الرافدين أن المياه أزلية، وكانت أصل الوجود…. تكونت حسبما اعتقدوا من عنصرين: “أبسو” الذي يمثل المياه العذبة، و”تيامة” التي تمثل المياه المالحة.
لما امتزج أبسو وتيامة، ولد أول جيل من الآلهة ثم تبعتها أجيال أخرى… وحدث أنهم كانوا يزعجونهما بصخبهم، فقرر أبوهم وزوجته تيامة القضاء عليهم!
عام 1853م، عثر على نسخة من الرواية البابلية للطوفان. في نهاية القرن، اكتشفت بعثة أمريكية كانت تنقب في العراق، على الرواية السومرية للطوفان.
الذي حدث أن إلها يدعى “إيا”، وكان إله الحكمة، قتل أبسو، فاندلع بعد ذلك صراع مرير بين تيامة والآلهة الأخرى التي انتخبت لها إلها قائدا يدعى “مردوخ”.
نتيجة لهذا الصراع، قتل مردوخ تيامة وشطر جسمها إلى نصفين، خلق منهما السماء والأرض. عقب ذلك، وزعت الآلهة في السماء والأرض والعالم السفلي وأنيطت بكل واحد منهم مهمة خاصة.
مهمة إعمار الأرض وفلاحتها أوكلت إلى فئة من هذه الآلهة تدعى “إيكيكي”، فأثقلها ذلك دون غيرها بالعناء والتعب.
بعد أربعين عاما من العمل المرهق ليلا ونهارا… قرر هؤلاء إعلان العصيان على الإله إنليل!
يقول أستاذ السومريات العراقي، فاضل عبد الواحد علي، في كتابه “الطوفان في المراجع المسمارية”، إن تمرد الآلهة ها هنا، يعكس حقيقة شهدتها البشرية منذ وجودها: “استبداد سيد الأرض وثورة الأتباع في آخر المطاف”.
أثارت الآلهة “إيكيكي” الذعر في إنليل، إذ أضرموا النار عند بابه. ودار في ذهن وزير الأخير “نسكو” أن يبحث عن كبش فداء من بينهم ليكون عبرة لهم. لكن ردهم كان حازما بالتضامن.
الذي حدث في نهاية المطاف، أن قلب إنليل رق لهم، حتى سالت دموعه إشفاقا عليهم… لكن، كيف يمكن أن يريحهم؟
كان ينبغي إذن خلق بديل يحمل العناء عنهم… هذا المخلوق لم يكن غير الإنسان!
الطوفان لدى هؤلاء حدث في غاية الأهمية، بحيث كان نقطة تأريخ. عندما نقرأ في مراجعهم مثلا عن كلكامش (في حدود 2700 ق.م)، نجد أنه “جاء بأخبار تعود إلى ما قبل الطوفان”، وعن آشور بانيبال (669-631 ق.م) نجده يقول: “وأمعنت النظر في كتابته على حجر تعود إلى ما قبل الطوفان”.
بصرف النظر عن تفاصيل خلق الإنسان، يقول فاضل عبد الواحد علي، فإن المآثر السومرية والبابلية تتفق على أن الإنسان خُلق من طين: لم يكن خلقه غاية في حد ذاتها، ولا نتيجة مكملة لخلق الكون. لقد خُلق من أجل خدمة الآلهة وأن يكد ويكدح في سبيل إطعامها وبناء معابدها.
لكن الإنسان تكاثر في الأرض في أقل من ألف ومائتي سنة، وعلا ضجيجهم على نحو أزعج إنليل، فقرر التخلص منهم! وكان أن اختار أول الأمر إنزال الأمراض والأوبئة عليهم لتفتك بهم.
عند هذه النقطة، يبدأ دور أتراخاسيس، بطل الحكاية، وهو يماثل نوح… كان رجلا حكيما، طلب من إله الحكمة إيا التدخل لإنقاذ الناس.
أرشده إيا إلى طريقة تخلصهم، فأوصاه بجمع الشيوخ لتدبر أمر بناء معبد لإله يدعى “نمتار”، إله الأمراض، وأن يبعث المنادين ليأمروا الناس بالعزوف عن عبادة الآلهة الأخرى وتكريس اهتمامهم بعبادة نمتار.
تخلص الناس بذلك من الأمراض التي ابتلاهم بها إنليل، فتكاثر عددهم مرة أخرى وتزايد ضجيجهم؛ فثارت ثائرة إنليل، وقرر في حقهم هذه المرة، إنزال القحط والمجاعة بهم لإبادتهم.
لجأ أتراخاسيس إلى إيا ثانية، وأشار عليه بعبادة إله يدعى “أدد”، إله الرعد، الذي أمره إنليل بأن يحبس مطره. وكان أن أنزل أدد بعد ذلك المطر والندى خلسة.
شعر إنليل بأن الآلهة تفسد عليه خططه، فاجتمع بهم وحرضهم هذه المرة على إحداث الطوفان لإبادة الناس.
كان إيا الإله الوحيد الذي عارض القرار بشدة. لم يلجأ إليه أتراخاسيس هذه المرة؛ ذلك أنه من تلقاء نفسه أخذ المبادرة وأفشى سر الآلهة، إذ حذر أتراخاسيس من الخطر المحدق بالبشرية… وحثه على الإسراع ببناء سفينة للنجاة!
في الجزء الثاني، نتابع تفاصيل أكثر عن الطوفان وعن السفينة التي أقلت الناجين، كما وردت في مصادرها الأولى.
لقراءة الجزء الثاني: الطوفان: تفاصيل حكاية السفينة… كما وردت في أولى مصادرها! 2\2