الصوم في الديانات القديمة: في البدء… الولادة من الماء 1/4 - Marayana - مرايانا
×
×

الصوم في الديانات القديمة: في البدء… الولادة من الماء 1/4

لماذا أجمعت الديانات على أن الميلاد المائي هو مبدأ انبثاق الوجود وبداية الخليقة؟
أقرب جواب في نظر مدرسة التحليل النفسي، هو أن عقيدة الميلاد المائي، هي انعكاس لما يستصحبه الإنسان من مرحلته الجنينية، عندما يكون محاطا بالماء والظلمة فيحاول في عملية لاواعية إسقاطه على بداية خلق العالم.

كثيرة هي الشرائع والطقوس الدينية التي تتشابه وتتماثل في شبه الجزيرة العربية بين كافة الديانات الوثنية منها والتوحيدية؛ ويكاد الباحث يجد إجماعا في ما تعتقده طوائفها من معتقدات حول القضايا الوجودية الكبرى، كقصة بداية الخليقة، وخلق آدم وحواء، والطوفان الكبير والجنة والنار، وقصص الأنبياء؛ وقد خصصنا لبعضها ملفات تجدون روابطها في نهاية المقال.

كما أن الشرائع التي سُنَّت لتنظم المجتمعات، لا تختلف كثيرا بين شريعة وأخرى، بداية بشرائع السومريين والبابليين مرورا بتوراة موسى… وانتهاء بالأناجيل الأربعة المعترف بها، والقرآن الكريم.

سنكتفي، في هذا الملف، بنموذجين اثنين من العقائد المتشابهة، قبل عرض مفصل عن شريعة الصوم في الديانات الشرق- أوسطية.

1.    قصة بداية الخلق والميلاد المائي:

تشكل الأساطير السومرية، التي عُثر عليها في الألواح الفخارية، النواة الأولى التي سيستمد منها الفكر الأسطوري في الشرق الأوسط نظرته للوجود والخلق، فالحضارة السومرية التي ظهرت قبل 6000 سنة قبل الميلاد في بلاد الرافدين، كانت الزارع الحقيقي للبذور الحضارية في العالم القديم، وأول مؤسس للمدن بمفهومها الحديث، كما أسهمت إنتاجاتهم الحضارية في اختراع الكتابة المسمارية والعجلة والأشرعة وغيرها من الابتكارات التي ألهمت الأسسَ الحضارية التي تُبنى عليها الدول للشعوب التي أتت من بعدهم، كالإغريق والرومان والفراعنة…

أسطورة الخلق السومرية والبابلية

كانت الإلهة “نمو” ممثلة قوة الماء واللجة والعماء السرمدي، ولم يكن شيء معها، فأنجبت إلهين اثنين هما إله السماء المذكر “آن”، وإله الأرض المؤنث “كي”.

تزوج “آن” “كي” فأنجبا إله الهواء “إنليل”، وكانت كل الآلهة رتقا واحدا، فلم يُطق إله الهواء، لنشاطه وحيويته، أن يظل ملتصقا بين أبيه وأمه، فقام برفع أبيه إلى الأعلى فصار سماءً، وإنزال أمه إلى الأسفل لتصير أرضا، وفيما يلي أحد النصوص السومرية التي تتحدث عن فصل إله الهواء بين السماء والأرض:

أنا الإله الذي أخرج كلّ شيء نافع
الإله الذي لا مبدّل لكلماته
إنليل الذي أنبت الحَبَّ والمرعى
أبعد السماء عن الأرض
وأبعد الأرض عن السماء

لا تختلف قصة الخلق المائي البابلي كثيرا عن القصة السومرية، ففي البدء، كان في لجة الأزل وعمائه ثلاثة آلهة: “أبسو” إله الماء العذب، و”تعامة” إلهة الماء المالح، و”ممو” إله الضباب الصادر عن المائين:

“عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء.

وفي الأسفل لم يكن هناك أرض.

 لم يكن سوى ثلاث آلهة هم “أبسو” الماء العذب، وزوجته “تعامة” الماء المالح، و”ممو” الضباب”.

كانت الآلهة الثلاثة في سكون حتى قرر الإله “مردوخ” الدخول مع أمه “تعامة” في صراع، تغلب عليها خلاله، وخلق من جسدها السماء والأرض… في باقي الديانات، نجد “أقيانوس” عند الإغريق: “المياه الأولى” الذي تشكل عنه الكون، والإله “رع” عند الفراعنة الذي خرج من المياه وأنجب باقي الآلهة.

في الكتب المقدسة التوحيدية، نقرأ في التوراة سفر التكوين: “وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة وَرُوح الله يرف على وجه المياه… وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد وكان كذلك، ودعا الله الجلد سماء… وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة وكان كذلك… ودعا الله اليابسة أرضا، ومجتمع المياه دعاه بحارا ورأى الله ذلك أنه حسن”.

أما القرآن والسنة، فلم يشذا عن قاعدة الخلق من ماء. يقول الله في سورة الأنبياء: “وجعلنا من الماء كل شيء حي.” ويقول في سورة هود: “وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء”.

في سؤال أهل اليمن للرسول عن بداية الأمر “قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر. قال: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض”.

أما مسألة التصاق السماء والأرض وفتقهما، فجاء في تفسير الطبري للآية في سورة الأنبياء: “أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما”: عن الحسن وقتادة: كانتا جميعا ففصل الله بينهما بهذا الهواء… وهو ما يوافق ما جاء في الأسطورة السومرية عن فصل إله الهواء إنليل بين السماء والأرض؛ وكذا في الأسطورة المصرية، فالإله (جيب) إله الأرض المذكّر، و(نوت) إلهة السماء المؤنثة كانتا في حالة اتحاد وقد تزوجا بعضهما سرا دون إذن من الإله رع، فأرسل إليهم الهواء (شو) الذي أبعدهما عن بعض عنوة.

ولعل سؤالا يُطرح هنا بشدة: لماذا أجمعت هذه الديانات على كون الميلاد المائي هو مبدأ انبثاق الوجود وبداية الخليقة؟

أقرب جواب في نظر مدرسة التحليل النفسي، هو أن عقيدة الميلاد المائي، هي انعكاس لما يستصحبه الإنسان من مرحلته الجنينية، عندما يكون محاطا بالماء والظلمة فيحاول في عملية لاواعية إسقاطه على بداية خلق العالم.

2.    خلق الإنسان من طين

تنطلق بداية قصة “آدم” من أقدم مدينة مكتشفة في العالم. إنها مدينة “أريدو” ببلاد الرافدين، فاسم آدم هو دمج بين اسم العَلم “ألولم” أول ملك حكم أوَّلَ مدينة-دولة، وبين اسم وزيره “آدبا” كما انتهى إلى ذلك الباحث العراقي في الديانات القديمة “خزعل الماجدي”.

أما قصة خلقه من طين، فتفيد الأسطورة السومرية أن الآلهة قد تعبت من خدمة نفسها بنفسها، فارتأت خلق إنسانٍ يخدمها ويتكلف بِتَعَهُدِّ مراعيها وقطعانها، ويقدم لها الشراب والطعام، فتوجهت للإله “إنكي”، إله المياه الباطنية الذي أهمل طلبهم، فذهبوا إلى أمه “نمو” التي خاطبته قائلة:

أي بني، انهض من مضجعك انهض منه
واصنع أمرا حكيما
اجعل للآلهة خدما، يصنعون لهم معاشهم
فتأمل انكي مليا في الأمر، ثم دعا الصناع الأهليين المهرة وقال لأمّه نمو:
إنّ الكائنات التي ارتأيت خلقها، ستظهر للوجود
ولسوف نعلق عليها صورة الآلهة
امزجي حفنة من الطين، من فوق مياه الأعماق
وسيقوم الصناع الإلهيون المهرة بتكثيف الطين وعجنه
ثم كوّني أنت له أعضائه
وستعمل معك”ننماخ”(آلهة الأمومة) يدا بيد
ولسوف تُقَدرين للمولود الجديد، يا أماه مصيره
وتعلّق “ننماخ” عليه صور الآلهة
في هيئة الإنسان

في الأسطورة البابلية، يتم خلق الإنسان من طرف الإله المنتصر “مردوخ” على أمه “تعامة” من طين ممزوج بدم الإله المهزوم “كينغو” قائد جيوش “تعامة”. وتتحدث أسطورة بابلية أخرى، وجدت في لوح طيني في مكتبة “أشور بانيبال”، عن قيام الإله: “أيا بخلق زوجين شابين، وأعلا من شأنهما فوق جميع المخلوقات”.  كما يقوم الإله “خنوم” في الحضارة الفرعونية بخلق الإنسان من طمي النيل.

ننتقل الآن إلى التوراة والقرآن، لنرى كيف صورتا لنا خلق الإنسان الأول…

جاء في سفر التكوين: “كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل الأرض… وجَبَلَ الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية”.

“وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض فخلق الله الإنسان على صورته.. على صورة الله خلقه ذكرا وأنثى خلقهم”.

قال الله في سورة الرحمن: “خلق الإنسان من صلصال كالفخار”، ويقول في سورة الصافات: “فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ”. وفي الصحيحين: “إن الله خلق آدم على صورته”.

إن التشابه بين هذه العقائد في جوهرها، يدل بشكل واضح على التلاقح الفكري بين المتساكنين في رقعة جغرافية معينة، كما تتشابه عقائد الهنود الحمر بأمريكا وأستراليا، وعقائد القبائل البدائية بإندونيسيا، وعقائد شعبي الأنكا والأزتيك، وغيرها من الديانات المتجاورة، فقصة موسى هي نسخة حرفية للملك البابلي “سرجون الآكدي”، وطوفان نوح إعادة كتابة لقصة الطوفان بملحمة “جلجامش”، التي كُتبت قبل الكتاب المقدس بـ 1500 سنة، وقصة إبراهيم وسارة هي نسخة كربونية لقصة “براهما وساراسواتي” في الأساطير الهندية، وميلاد المسيح وصلبه تتشابه وقصة “كرشينا” في الهندوسية و”مثرا” في الفارسية و”ديونيسوس” في اليونانية… وشرائع الحج الوثنية في ما يسمى بالجاهلية، هي نفس الشرائع في الإسلام مع بعض التعديلات الطفيفة (تجدون روابط نحو بعض هذه الملفات في نهاية المقال).

مهما اجتهد المتدينون من كافة الديانات في إبعاد عقائدهم عن التأثر بهذه التشابهات نقلا واستلهاما، أو اعتبار التشابه دليلا على وحدة المصدر الإلهي، فإن ذلك يبقى بعيدا لثلاثة أسباب:

1- تشابه الأساطير جغرافيا، وكلما بعدت الجغرافيا اختلفت الأساطير.

2- نشأة الدين وتطوره عند الشعوب، بانتقاله من مراحل بدائية إلى مراحل أكثر روحانية وتجريدا (مرحلة السحر والشعوذة/ مرحلة الطوطمية / تعدد الآلهة/ التوحيد).

3- محدودية الآلهة في الزمان والمكان، فآلهة حضارة بلاد الرافدين ليست كآلهة الأساطير الهندية، وآلهة الإغريق ليست كآلهة الحضارة الفرعونية، وآلهة كل حضارة تختلف زمنيا بين حقبة التأسيس وحقبة الازدهار والتلاشي. وإله الإسلام لم يكن معروفا بنفس الصفات والأفعال قبل مجيء الإسلام.

ولو كان المصدر واحدا لظهر الإله وجوهر الدين كاملا مع الحضارات الأولى، ولم يحتج إلى تطويرٍ بتطور مدارك البشر.

لقراءة الجزء الثاني : في بلاد الرافدين، عند الفراعنة والهنود… الصوم شريعة عابرة للديانات 2/3

لقراءة الجزء الثالث: الصوم في الديانات القديمة… من اليونان والرومان إلى الصابئة 3/4

لقراءة الجزء الرابع: الصوم في الديانات القديمة: صوم اليهود والمسيحيين… وعرب ما قبل الإسلام 4/4

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *