الصوم في الديانات القديمة: صوم اليهود والمسيحيين… وعرب ما قبل الإسلام 4/4 - Marayana - مرايانا
×
×

الصوم في الديانات القديمة: صوم اليهود والمسيحيين… وعرب ما قبل الإسلام 4/4

التشابه في الشرائع بين الأديان، يقتضي من المتدينين من كافة الطوائف اعتبار الحقيقة الدينية حقيقةً نسبية، ويفرض على الملتزمين احترام خصوصية كل الأديان، وفتح أبواب الحوار بينها بحثا عن القواسم المشتركة التي تجمع ولا تفرق.
كما يشكل هذا التناغم بين أساطير الديانات رافدا من روافد الوحدة الإنسانية وسموها على الاستقطابات والعداوة المبنية على التناحر الطائفي والاقتتال الديني.

وقفنا في الجزء الأول من هذا الملف، عند أهم حكايات التشابه بين المعتقدات المؤسسة للكثير من الديانات القديمة، واقتفينا نموذجا لذلك، من خلال قصة الميلاد المائي للكون وخلق الإنسان من طين.

وقدمنا في الجزء الثاني، عرضا مفصلا لشعيرة الصوم في الديانات الشرق ــ أوسطية القديمة في بلاد الرافدين، وعند الفراعنة… وفي الحضارة الهندية.

واقتفينا في الجزء الثالث، أثر هذه الشعيرة العابرة للديانات، من خلال صوم اليونان والرومان… والصابئة.

وفي هذا الجزء الرابع والأخير، نقف على أهم تفاصيل صوم اليهود والمسيحيين وعرب ما قبل الإسلام.

  • الصوم في الديانة اليهودية

الصوم في الديانة اليهودية من أقدم الشعائر الدينية وأقدسها، ترافقه طقوس تعبدية لإضفاء نوع من الروحانية وإظهار النسك والتبتل، حيث يمتنع اليهود عن الأكل والشرب والجماع، وانتعال الأحذية والاستحمام، وغسل الأسنان وتغيير الملابس والتعطر في يوم الصوم، وكدا الامتناع عن كل قبيح من الأقوال والأفعال، وينقسم الصوم عند اليهود إلى:

1- صوم واجب: هو صوم يوم الغفران “كيبور”، وهو اليوم الذي نزل فيه النبي موسى من سيناء للمرة الثانية، ومعه ألواح الشريعة. ويبتدأ من غروب اليوم التاسع من شهر تشرين “رأس السنة العبرية”، وينتهي بغروب شمس اليوم العاشر، ويستمر 26 ساعة. قبل الصوم، يرتاد المتدينون اليهود حائط المبكى من أجل الصلاة استعدادا للصوم، ويمتنع اليهود في هذا اليوم عن كل المتع الحسية والمعنوية ويقصرونه للعبادة ومحاسبة النفس.

2- صوم نافلة: وهو صيام عدد من الأيام المرتبطة بأحداث جسام وقعت لليهود كـ:

  • صيام التاسع من أغسطس (غشت) إحياءً لذكرى خراب الهيكل.
  • صيام لذكرى بداية حصار القدس من قبل القائد البابلي المشهور نبوخذ نصر.
  • صيام جيداليا، وهي ذكرى اغتيال جيداليا حاكم يهوذا بعد تدمير الهيكل الأول.
  • الصيام الأربعيني المذكور في التوراة، والمعروف أيضًا بالصيام الموسوي، وفيه يصوم اليهود المتدينون أربعون يومًا، اقتداءً بالفترة التي صامها النبي موسى أثناء تلقيه الوحي بالوادي المقدس طوى…
  • صيام “إستير” شكرا للرب على خلاص اليهود في بلاد فارس من التنكيل بسبب شفاعة الملكة إستير وابن عمها مردخاي، ويقع في الرابع عشر والخامس عشر من شهر آذار (مارس).

كما تفرض الديانة اليهودية على أتباعها نوعا من الصوم الأبدي، كالامتناع عن أكل القرابين المهداة للمعابد وشحوم المواشي والأبقار.

  • الصوم في الديانة المسيحية

لا يختلف الصوم في المسيحية كثيرا عن الصوم في ديانات الشرق الأوسط القديمة من حيث عِلَّته وطريقة القيام به كمًّا وكيفا، فغاية صوم المسيحيين هو التطهر من الذنوب، والخلاص من أدران الخطيئة، وضبط نزوات الجسد والنفس ليصبح الإنسان سيدا على أهوائه ورغباته. فضبط النفس والجسد بإذلالهما يؤدي إلى التواضع، وهو شرط في المسيحية لدخول الملكوت. جاء في سفر دانيال: “فَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى اللهِ السَّيِّدِ طَالِبًا بِالصَّلاَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ، بِالصَّوْمِ وَالْمَسْحِ وَالرَّمَادِ”.

وفي إنجيل “متى” نقرأ: “أَمَّا أَنتَ، فإِذا صُمتَ، فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صائم، بل لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك”.

وجاء في أنجيل لوقا: “إِنَّ تَلاميذَ يوحنَّا يُكثِرونَ مِنَ الصَّومِ ويُقيمونَ الصَّلوات، ومِثلُهُم تَلاميذُ الفِرِّيسيِّين، أَمَّا تَلاميذُكَ فيأكُلونَ ويَشرَبونَ!» فقالَ لَهم: «أَبِوُسعِكُم أَن تُصوِّموا أَهلَ العُرسِ والعَريسُ بَينَهم؟ ولكِن سَتَأْتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعُ العَريسُ مِن بَينِهم، فعِندَئذٍ يصومونَ في تِلكَ الأَيَّام”.

إلا أن الأناجيل لم تفرض أياما محددة للصوم، وتركت الأمر من المسنونات المرغَّب فيها، تهذيبا لنفوس المؤمنين وتعويدا لهم على الصبر والجلَد أمام المصائب.

وتختلف أيام الصوم وصفته عند المسيحيين من طائفة لأخرى، فبعد فترة الانقطاع، يُسمح للصائم بالطعام والشراب بشرط الابتعاد عن الأطعمة الحيوانية والألبان ومشتقاتهما، بينما تسمح بعض الطوائف المسحية في انجلترا للصائمين بالإفطار على كل أنواع الأطعمة ماعدا في الأيام المقدسة كالأربعاء والجمعة والخميس. ولا يعتبر الجماع مفسدا للصوم عند أغلب الطوائف المسيحية. وفيما يلي الأيام الموصى بصومها في الديانة المسيحية:

  • الصوم الكبير: وهو صوم الأربعين المقدسة التي صامها المسيح بالإضافة لصوم أسبوع الآلام. تستمر فترة الصيام ستة أسابيع قبل عيد القيامة، لإعداد المؤمن روحانيا من خلال الصلاة، والتوبة من الذنوب، والصدقة… تُقام طقوس الصوم الكبير من قِبل العديد من الكنائس المسيحية منها الكنيسة الأنجليكانية، واللوثرية، والميثودية، والكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
  • الأيام السابقة للميلاد: ويطلق عليها “صوم الميلاد”، وعدد أيامها 43 يوماً وتبتدأ من 25 “نوفمبر” وتنتهي في ليلة عيد الميلاد “6 من يناير”.
  • صوم الرسل الذي يسبق عيد الرسل، وتتراوح أيامه بين 15 و90 يوماً.
  • صيام يومي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع على مدار العام، ففي يوم الأربعاء تم القبض على السيد المسيح، وفي يوم الجمعة تم صلبه.
  • صوم السيدة العذراء ومدته 15 يومًا.
  • صوم أهل نينوى وعدد أيامه 3 أيام.

هذه الأيام ليست متفقا عليها بين كافة الطوائف المسيحية، فالطائفة الكاثوليكية لا توجب من الصيام إلا الصوم الكبير، والذي يبدأ من منتصف الليل إلى منتصف النهار، ثم يفطر الصائم بأطعمة خالية من المنتجات الحيوانية. أما الكنيسة الإنجيلية، فيشبه صيامها إلى حد كبير صيام المسلمين، حيث يمتنعون عن الأكل والشرب والشهوات، ويحرصون على سرية صومهم لتحقيق شروط التوبة وتمتين أواصر العلاقة مع الله. بينما يبقى الصوم حرية شخصية غير مقيد بزمن ولا سن ولا امتناع عن نوع محدد من الأطعمة في الكنيسة البروتستانتية.

  • الصوم في “الجاهلية”

لم يكن سكان الجزيرة قبل الإسلام بمنأى عن تأثير الديانات المجاورة، كما اعتنقت قبائل منهم اليهودية والمسيحية، وعرفوا شعائر دينية كثيرة كالصلاة والصوم وإهداء القرابين، وتنسَّكتْ طائفة منهم على الطريقة المسيحية سموا أنفسهم بالأحناف.

وكان العرب قبل البعثة يصومون يوم عاشوراء ويعظمونه تقليدا لمجاوريهم من اليهود. روى البخاري ومسلم عن عائشة: “كان يومُ عاشوراءَ يومًا تصومه قُرَيشٌ في الجاهليَّةِ، وكان رسولُ اللهِ يصومه في الجاهليَّةِ، فلما قَدِمَ رَسولُ اللهِ المدينةَ صامه وأمَرَ بصيامِه، فلما فُرِضَ رمضانُ كان هو الفريضةَ وتُرِك عاشوراءُ، فمن شاء صامه، ومن شاء تركَه”.

في نهاية هذا الملف بأجزائه الأربعة، يمكن جرد أبرز نقاط تشابه شعيرة الصوم بين الديانات التي ذكرناها وغيرها مما لم نُرِدْ بذكره تطويل هذا المقال، وبين فريضة الصوم في الإسلام:

  • تقديس الصوم واعتباره أفضل الأعمال وأكملها.
  • ارتباط الصوم في أغلب الديانات بالتقويم القمري.
  • ارتباط الصوم بإحياء ذكرى مهمة من تاريخ الشعوب.
  • اعتبار الصوم سبيلا للتوبة، والتخلص من الخطايا والآثام، وعبادة لتزكية النفس وتهذيبها، ووسيلة لتعزيز الصلة بين الصائم وربه.
  • اعتبار الصوم أحد الوسائل للحفاظ على صحة الجسم، والوقاية من الأمراض.
  • إحياء ليالي الصوم بالعبادة والذكر والتهجد.
  • انتهاء أيام الصوم بالفرح وشيوع أجواء البهجة الرضا بين المفطرين.

إن هذا التشابه في الشرائع بين الأديان، يقتضي من المتدينين من كافة الطوائف اعتبار الحقيقة الدينية حقيقةً نسبية، ويفرض على الملتزمين احترام خصوصية كل الأديان، وفتح أبواب الحوار بينها بحثا عن القواسم المشتركة التي تجمع ولا تفرق، كما يشكل هذا التناغم بين أساطير الديانات رافدا من روافد الوحدة الإنسانية وسموها على الاستقطابات والعداوة المبنية على التناحر الطائفي والاقتتال الديني.

 

لقراءة الجزء الأول: الصوم في الديانات القديمة: في البدء… الولادة من الماء 1/4

لقراءة الجزء الثاني: في بلاد الرافدين، عند الفراعنة والهنود… الصوم شريعة عابرة للديانات 2/4

لقراءة الجزء الثالث: الصوم في الديانات القديمة… من اليونان والرومان إلى الصابئة 3/4

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *