الصوم شريعة عابرة للديانات: في بلاد الرافدين، عند الفراعنة والهنود… 2/4 - Marayana - مرايانا
×
×

الصوم شريعة عابرة للديانات: في بلاد الرافدين، عند الفراعنة والهنود… 2/4

شُرع الصوم عند الفراعنة كما شرع لغيرهم، وعرفوا شعيرة الصوم ومارسوها في أعيادهم كنوع من التقرب إلى المعبود. وفي الديانة الهندوسية، يعتبر الصوم أحد أهم الوسائل الروحانية للتأمل، والتخلص من الشوائب التي تعلق بالروح نتيجة انغماسها في زحمة الحياة ومشاغلها.
… وعُرف الصوم كعبادة دينية في الحضارة السومرية والبابلية، وكان يطلق عليه اسم “شبتو” sabatu، وهو الاسم الذي يطلقه البابليون على أيامهم المقدسة التي يُحرِّمون فيها كل شيء ما عدا العبادة والصوم، وهو ما أخذه عنهم اليهود في سبتهم المقدس.

وقفنا في الجزء الأول من هذا الملف، عند أهم حكايات التشابه بين المعتقدات المؤسسة للكثير من الديانات القديمة، واقتفينا نموذجا لذلك، من خلال قصة الميلاد المائي للكون وخلق الإنسان من طين.

في هذا الجزء الثاني، نقدم عرضا مفصلا لشعيرة الصوم في الديانات الشرق ــ أوسطية.

الصوم شعيرة عابرة للديانات

يُعتبر الصوم الركن الرابع من أركان الإسلام، وأحد أهم الطقوس والشعائر الدينية، كما يحظى بقدسية وتعظيم كبيرين في نفوس المؤمنين، لارتباطه بحدث نزول القرآن.

يصوم المسلمون في رمضان ثلاثين يوما من الفجر إلى غروب الشمس، ويحيون لياليه بالذكر والصلاة… غير أن الصوم قد عُرف عند شعوب الشرق الأوسط والشعوب المجاورة قبل الديانات التوحيدية الثلاث بشروط وكيفيات لا تختلف كثيرا عن بعضها البعض.

.    الصوم في بلاد الرافدين

عُرف الصوم كعبادة دينية في الحضارة السومرية والبابلية، وكان يطلق عليه اسم “شبتو” sabatu، وهو الاسم الذي يطلقه البابليون على أيامهم المقدسة التي يُحرِّمون فيها كل شيء ما عدا العبادة والصوم، وهو ما أخذه عنهم اليهود في سبتهم المقدس.

يقول الدكتور خزعل الماجدي: “وقد كان الكهنة السومريون، ولأسباب اقتصادية على الأغلب، يوصون الناس بالامتناع عن أكل بعض أنواع اللحوم والفاكهة والخضار ولوقت محدد فقط من السنة، ويتم الإشارة إلى ذلك الحدث بأنه طقس ديني”. المصدر: “متون سومرية”.

ويقول الدكتور عبد الحكيم الصادق الفيتوري في دراسته (الأديان وفلسفة الصوم) المنشورة في موقع نقد معرفي: “عرفت أرض الرافدين الصيام من خلال أهل بابل، حيث كان أهل بابل يصومون قرابة ثلاثين يوما متفرقة من السنة، يمتنعون فيها عن الطعام والشراب من الشروق إلى الغروب”.

وكانوا يقسمون الثلاثين يوماً إلى ثلاثة أقسام، حسب ما يفيدنا الدكتور عبد الرزاق رحيم صلال في كتابه “العبادات في الأديان السماوية”.

قسم يصومون فيه أربعة عشر يوماً في فصل الشتاء موافقة لأعداد الكواكب السبعة المشهورة وأفلاكها.

قسم يصومون فيه سبعة أيام في الربيع.

قسم يصومون فيه تسعة أيام في أواخر الصيف.

.    الصوم عند الفراعنة

في دراسة أثرية للدكتور “حسين دقيل”، الباحث المتخصص في الآثار اليونانية الرومانية يؤكد أن:

“قدماء المصريين كأمة من الأمم شُرع الصوم عندهم كما شرع لغيرهم وعرفوا شعيرة الصوم ومارسوها في أعيادهم كنوع من التقرب إلى المعبود. كما يضيف أن “الصوم كان متنوعًا عند قدماء المصريين ما بين الواجب والمستحب والتطوع، فقد عرف المصريون القدماء الصوم ثلاثة أيام من كل شهر من أجل الحفاظ على صحتهم، كما كانوا يصومون احتفالًا بالأعياد… والحصاد وبداية السنة الجديدة، وكان هناك نوع آخر من الصوم؛ يسمى بصوم الانقطاع، وكان يستمر لمدة 70 يومًا يحرم فيه تناول أي شيء عدا الماء والخضر”.

وكان الصوم عند الفراعنة ينقسم إلى قسمين:

ــ    صوم الكهان:

ويبتدأ عندما يلتحق الكاهن بالمعبد ويمتد 42 يوما يصوم في أولها سبعة أيام متواصلة دون انقطاع ثم يكون صومه على الشكل التالي:

يصوم عشرة أيام عن أكل اللحوم والنبيذ لتلقي الواجبات المقدسة.

 يصوم عشرة أيام بعد تلقيه الواجبات المقدسة ويكتفي بالشعير والماء للترقي في المهام الروحية.

يصوم عشرة أيام ممتنعا عن جميع أنواع الطعام والشراب.

يصوم تطوعا ورغبة منه لا فرضا وواجبا.

ــ    صيام العامة في الحضارة الفرعونية:

صيام مدته أربعة أيام من كل عام، تبدأ عندما يحل اليوم السابع عشر من الشهر الثالث من فصل الفيضان.

صيام يحرم فيه أكل كل شيء من الطعام خلا الماء والخضر ومدته سبعين يوماً، ويكون في موسم الأعياد كوفاء للنيل ومواسم الحصاد… (الصيام من البداية حتى الإسلام، “علي الخطيب”، العبادات في الأديان السماوية، “عبد الرزاق رحيم صلال”)

يقول خبير الآثار عبد الرحيم ريحان، مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمي بجنوب سيناء بوزارة السياحة والآثار المصرية: “الكهنة في مصر القديمة كانوا يحملون في احتفالية هلال القمر مصابيح زيتية بغرض الإضاءة ومباخر للتبخير وهم ينشدون… وكان يستمر هذا الاحتفال طوال الليل حتى شروق الشمس، ويرجع تاريخها إلى عصر الملك “سقنن رع”، الذي يعرف أيضا باسم “تاعا الثاني”، وحربه ضد الهكسوس وانتصاره عليها، وكانت “إياح حتب” زوجة “سقنن رع”، هي من شجعته على خوض المعركة ضد الهكسوس، وبعد تحقيق انتصار عظيم عليهم، خرج المصريون يهتفون في الشوارع “وحوي وحوي إياحا” والتي تعني الترحاب والتقدير لـ “إياح حتب” على دورها في دعم الجنود بالمعركة، ومن هنا ظلت عبارة “وحوي وحوي” مستخدمة حتى العصور الإسلامية، وفي عهد الدولة الفاطمية ومع استخدام الفوانيس لإنارة الشوارع في ليالي رمضان”.

كما قيل إن “وحوي” كلمة مصرية الأصل، وأن المصريين القدماء اعتادوا على غناء كلمات “وحوي يا وحوي”، مع مطلع كل شهر عند استقبال القمر، وذكرت روايات تاريخية أخرى أن عبارة “وحوي يا وحوي إياحة”، هي لغة قبطية، وتعنى اقتربوا لرؤية الهلال، لذلك ارتبطت بعد ذلك بالاحتفال بظهور هلال شهر رمضان ورؤيته استعدادًا للصوم وإقامة طقوس الاحتفال به، من تعليق الفوانيس وتزيين الشوارع احتفالاً بقدوم الشهر الكريم رمضان، وارتبطت هذه العبارة مع الشهر الكريم لتصبح جزءًا من التراث الشعبي في مصر”.

وقد ذهب الدكتور علاء الخزاعي في كتابه “التطور التاريخي للصيام” إلى أن كلمة (صوم) هي كلمة مصرية قديمة تنقسم إلى قسمين هما (صاو) بمعنى امتنع و(الميم) بمعنى عن أي (امتنع عن).

.    الصيام في الحضارة الهندية

يُعتبر الصوم في الديانة الهندوسية أحد أهم الوسائل الروحانية للتأمل، والتخلص من الشوائب التي تعلق بالروح نتيجة انغماسها في زحمة الحياة ومشاغلها. فالصوم هو نوع من الزهد والتقشف والتركيز العميق الذي يدفع النفس إلى ضبط نزواتها وشهواتها تهييئا لها للخلاص الأبدي…

تختلف أيام الصوم وطرائقه في الديانة الهندوسية من منطقة لأخرى، ومن إله لآخر، ففي جنوب الهند يصومون أيام الثلاثاء، وفي شمالها أيام الخميس، في حين يصوم من يتبعون الإله “شيفا” يوم الاثنين، ومن يتبعون الإله “فيشنو” يوم الخميس.

وقد يكون الصوم خفيفا كالامتناع عن نوع من الأطعمة، وقاسيا كالصوم لحد الهلاك. يقول الدكتور أحمد بن علي الصفيان في كتابه “الريان في مفهوم الصيام بين الأديان: حقائق علمية – صحية طبية – رؤى نفسية”: “وهناك أيام معينة من الأسبوع للصيام، فأتباع الإله شيفا وهو الإله الأعظم عند أتباعه، يصومون أيام الاثنين، أما أتباع الإله “فيشنو” فيصومون أيام الخميس، أما الصوم يوم الثلاثاء فهو شائع عند الهندوس جنوب الهند، حيث يأكلون قبل شروق الشمس، وهناك أيضا صيام الفصول الأربعة ويكون 9 أيام بداية كل فصل من غروب الشمس حتى شروقها في اليوم المقبل”. ويمكن تقسيم الصيام في الديانة الهندوسية إلى:

ــ   صيام الكهنة: ويتميز بالقسوة والكثرة، وله أوقات خاصة في كل فصل من الفصول الأربعة، وعند كسوف الشمس، واليوم الأول والرابع عشر من كل شهر قمري.

ــ  الصيام الأكثر شيوعا، صوم يوم الإيكاداشي: الإيكاداشي هو اليوم القمري الحادي عشر في التقويم القمري ويخصص هذا اليوم للإله “فيشنو”، وهو يوم صيام وصلاة لجميع الهندوس، للتخلص من التأثيرات المؤذية للكواكب، واختبار السعادة وراحة البال والوعي العالي، وحفاظا على نقاء العقل ونضارة البشرة، وإزالة السموم من الجسد.

ــ  صوم بداية العام احتفالا بالإله “شيفا”

ــ   صيام النساء المتزوجات في أوقات خاصة كما في “كارفا شوت”: عيد سنوي لمُدة يوم واحد تحتفل به نساء الهندوس المتزوجات في شمال الهند، وولاية غوجرات وأجزاء من باكستان، حيثُ تصوم فيه النساء المتزوجات من شروق الشمس حتى رؤية القمر في الليل، ويفعلن هذا تضرعاً للإله ” سوريا” وآلهة القمر من أجل سلامة وصحة وطول عُمر أزواجهن.

ــ   صيام النساء العزباوات يوم الاثنين تقربا للآلهة من أجل الظفر بزوج صالح.

ــ   Navaratri:  هو مهرجان يصوم فيه الناس لمدة تسعة أيام.

هناك الكثير من أنواع الصيام في الديانة الهندوسية تختلف طريقة وزمنا، يبقى القصد من ورائها تهذيب النفس وتزكيتها وإرضاء الآلهة المختلفة.

 

في الجزء الثالث نتابع: الصوم في الديانات القديمة… من اليونان والرومان إلى الصابئة 

 

لقراءة الجزء الأول: الصوم في الديانات القديمة: في البدء… الولادة من الماء 1/4

لقراءة الجزء الثالث: الصوم في الديانات القديمة… من اليونان والرومان إلى الصابئة 3/4

لقراءة الجزء الرابع: الصوم في الديانات القديمة: صوم اليهود والمسيحيين… وعرب ما قبل الإسلام 4/4

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *