مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية: نهاية 12 عاما من الاستعباد (الجزء العاشر والأخير)
بعد 12 عاما قضتها ماريا في الأسر بالمغرب خلال القرن الـ18، أخيرا، دنت لحظة الحرية التي ستعيد ماريا إلى بلدها… اللحظة التي تختم هذه الحكاية، في جزئها العاشر والأخير.
في يونيو 1742، وأثناء انتشار طاعون بالمغرب كان يحصد وفق ماريا 100 قتيل وأكثر كل يوم، وصل إلى مكناس رقّاص (ساعي بريد) من طنجة، يحمل معه رسالة كما تابعنا في نهاية الجزء التاسع… رسالة تحمل في طياتها أسعد خبر لماريا، يعلن عن قرب نهاية 12 عاما من الأسر قضتها في المغرب، ونهاية حكاية ماريا ، التي تابعناها في “مرايانا” على مدى 10 أجزاء.
وصل رقّاص إلى طنجة يحمل رسالة من تاجر يدعى لويس باتلر، يحمل أسعد خبر لماريا ورفاقها؛ فحواه أن القبطان لومبري، قبطان كبار سادة هولندا، اشترى من الباشا الأسرى الهولنديين الذين كانوا يوجدون بطنجة، واتفق معه على أن يرسل له في ظرف ستة أسابيع، الأسرى الموجودين لدى السلطان في مكناس.
كانت ماريا وحيدة في حانتها حين أعطاها الرقاص الرسالة. ولأنها كانت موجهة إلى معشر الأسرى الهولنديين، لم تفتحها، بل شرعت تصرخ فورا وبلا توقف: “حرية. حرية.”
اقرأ أيضا: هذه بعض من أهم البيمارستانات التي عرفها المغرب يوما ما… 3/3
اجتمع حولها بعد ذلك أبناء وطنها، إذ ظنوا أنها صارت مجنونة وغريبة الأطوار. كانت الرسالة باللغة الإسبانية، ولم يكن أحد غيرها يستطيع قراءتها، ثم حين فعلت، لم يصدقوا ما جاء فيها، وحتى وجود الرقاص أمامهم لم يقنعهم.
كان 84 ألف شخص قد قضوا في مكناس في اليوم الذي حررهم السلطان، تحكي ماريا؛ كما أن العديد من القرى التي مروا بها في سفرهم، اجتاحها الموت… حتى أنهم خشوا أن لا أحد من النصارى سيتحرر بسبب الطاعون.
ثم في الـ9 من نونبر، استدعيت ماريا وزوجها وطفليهما للمثول بين يدي السلطان، الذي وافق على تحريرهم، وسلمهم لمبعوث باشا طنجة… منحهم السلطان حريتهم عن طواعية، أما الأسرى الآخرين، فقد دخل في مفاوضات بشأن حريتهم.
حينما مثلت ماريا وزوجها أمام السلطان، لم يستطع الزوج التحدث أمامه من فرط الفرحة، فيما كانت هي حاذقة في مجاملة السلطان على الطريقة المغربية، حتى إنه قال لها: “صحيح ما رأيت، هذه النصرانية جديرة بأن تكون أميرة”.
بهذا اللقب ودعت ماريا السلطان. ثم غداة ذلك، ودعت أمه وأخته. بدا ذلك، تحكي ماريا، كوداع بين أبوين وواحد من أبنائهما، إذ بكتا معها، ومنحتاها دوكتين من أجل السفر.
اقرأ أيضا: خُنَاثة بنت بكار.. من هدية للسلطان إلى أم للسلاطين!
ثم في الـ16 من دجنبر، شرعوا في السفر إلى تطوان، وقد اتسم ذلك بمشقة كبيرة، من جهة لتجنب الوقوع في قبضة مولاي عبد الله، الذي كان في فاس، ومن جهة أخرى لتزامن السفر مع فصل الشتاء.
حين بلغوها، مكثوا في بيت قنصل إنجلترا 3 أشهر وبضعة أيام، بسبب عدم وجود باخرة تقلهم… لم تصل أي باخرة حينذاك بسبب الموت الرهيب الذي كان مستفحلا في البلاد.
كان 84 ألف شخص قد قضوا في مكناس في اليوم الذي حررهم السلطان، تحكي ماريا؛ كما أن العديد من القرى التي مروا بها في سفرهم، اجتاحها الموت… حتى أنهم خشوا أن لا أحد من النصارى سيتحرر بسبب الطاعون.
وصلت سفينة إلى المرفأ في الـ5 من أبريل 1743. توجه نحوها القنصل والدون لويس باتلر… بيد أنها كانت إنجليزية. أرسلت إلى هناك من جبل طارق لمعرفة الوضع في البلد، ومن أجل عقد اتفاق، لأن جبل طارق كانت تحصل على تموينها من طنجة وتطوان؛ لكن الحرب المندلعة حينذاك بين إنجلترا وإسبانيا حالت دون حصولها على أي معونة.
عادت السفينة من حيث جاءت فالتقت بالسفينة الهولندية، وأخبروها أن الأسرى الهولنديين في انتظارها منذ أزيد من ثلاثة أشهر لكن الموت ما زال مستأسدا. بالرغم من ذلك، ينبغي الحصول على الأسرى، قال القبطان الهولندي، وواصل الإبحار نحو المرفأ.
اقرأ أيضا: التاريخ الإسلامي لإسبانيا… من حضارة غير مسبوقة إلى محنة الدم والدين والطرد 1\10
أما الأسرى، فقد رأوا حينها أن السفينة الإنجليزية تبحر عرضا، ووجدوا أنفسهم في أكبر ضيق، إذ خشوا العودة مجددا إلى الاستعباد… كان يوما طويلا للغاية.
لكن، في صباح الغد، كان المنقذ قد وصل إلى المرفأ حيث صعد إليه القنصل والدون لويس باتلر… بيد أنهما لم يتوصلا إلى اتفاق.
لم يتوصلا… إلى اتفاق حول حصص باقي أسراهم من أجل تأدية ثمن الرحلة، وعلى هدايا السلطان ومبعوثيه، كما لم تتم تسوية تكاليف إقامتهم خلال ثلاثة أشهر… وجد القبطان صعوبة في تسوية ذلك كله.
بعد عشرين عاما، حطت ماريا قدميها، أخيرا، في أمستردام، عاصمة هولندا، في الـ21 من شتنبر 1743. فور وصولها، بحثت عن أقاربها ووالدتها وأصدقائها، لكنهم… كانوا قد قضوا كلهم!
خلال تلك الأيام التي كانت تجري فيها المفاوضات، عاشت ماريا خوفا كبيرا أفقدها شهية الأكل والشرب… خشية العودة مجددا إلى الأسر.
لم ينته الأمر، في الأخير، إلا زوال الـ11 من أبريل… منذ أن رأت ماريا معبر السفينة، هرعت إليه إلى درجة نسيانها لطفليها… كانت فرحتها عارمة جدا جعلتها تنفجر نحيبا. انتابها إحساس كأنها عادت من الموت.
هكذا، في ليلة اليوم الموالي، أبحروا إلى طنجة حيث حملوا بقية الأسرى، وبعدها شقوا المياه الإسبانية… وبعد عشرين عاما، أخيرا، حطت قدميها في أمستردام، عاصمة هولندا، في الـ21 من شتنبر 1743.
اقرأ أيضا: أحمد الخمسي يكتب ـ حزن الظن: باب الجياف… باب اليهود!
فور وصولها، بحثت ماريا عن أقاربها ووالدتها وأصدقائها، لكنهم… كانوا قد قضوا كلهم!
لم تجد… إلا أخا لها غير شقيق، أمضت معه 15 يوما، قبل أن ترافق زوجها إلى مسقط رأسه، مدينة ميدنبليك (شمال هولندا)، حيث استقرت وكتبت مذكراتها هذه عام 1748.
عن 12 عاما من الأسر قضتها ماريا في المغرب، خلال القرن الـ18، تقول في الأخير:
“لا أتحسر على أني كنت في ذلك المكان البعيد من العالم، ولا على 12 سنة من الاستعباد، ولا على الأذى الذي سببه لي المغاربة. ذلك كله يمكنني نسيانه. لكن ما لن أنساه، الإهانات والشتائم التي كنا عرضة لها، أنا وزوجي، من قبل إخوتنا أبناء الوطن. من الصعب علي أن أحكي هنا، كل ما ألحقوه بنا من سوء”.
لقراءة الجزء الأول: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية (الجزء الأول)
لقراءة الجزء الثاني: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية: في قصر السلطان عبد الله بن إسماعيل… (الجزء الثاني)
لقراءة الجزء الثالث: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية: عزل السلطان عبد الله بن اسماعيل وتولية أبي الحسن علي الأعرج (الجزء الثالث)
لقراءة الجزء الرابع: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية: ماريا ورفاقها على أعتاب الحرية… لكن! (الجزء الرابع)
لقراءة الجزء الخامس: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية: نهاية علي الأعرج. تنصيب 4 سلاطين في نصف يوم (الجزء الخامس)
لقراءة الجزء السادس: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية: مجاعة 1738/1737 (الجزء السادس)
لقراءة الجزء السابع: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية: صار لماريا حظوة لدى السلطان… فهل سيفرج عنها؟ (الجزء السابع)
لقراءة الجزء الثامن: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية: تصدع شمل الأسرى الهولنديين والعودة إلى الاستعباد (الجزء الثامن)
لقراءة الجزء التاسع: مغرب القرن الـ18 بعيون أسيرة هولندية: صراع السلاطين (الجزء التاسع)
رائعة جدا ونتمنى المزيد