القرامطة: براعة التنظيم الدعوي… وتفجير أبرز تجربة “اشتراكية” في التاريخ الإسلامي! 2\4
فطن حمدان ومن معه، باكراً، إلى أنّ الأصل الحقيقي في تذمر الفقراء هو الشقاء المادي والحطّة الاجتماعية، وأنّه لا أفق في بلورة العدالة الاجتماعية على أرض الواقع، دون تبيئتها بكثير من المساواة المادية…
بعدما رأينا في الجزء الأول بداية الحركة في أحضان الشيعة الإسماعيلية، والظروف الذاتية والموضوعية التي ساهمت في ظهور القرامطة في العراق، نعاينُ في هذا الجزء الثاني السبل التّنظيمية التي اعتمدتها حركة حمدان بن الأشعث.
صرامة الدعوة
يمكن معرفة طبيعة الدعوة القرمطية ونظمها وأساليبها ومدى تأثرها بظروف المجتمع وروح العصر، عبر الانتباه إلى أن قرامطة العراق والبحرين أفادوا من “صابئة حران”، لاسيما من فلسفة دعوتها ونظمها.[1]
محمود إسماعيل يقول، نقلاً عن ابن حيون، إنه لما كان للصابئة باع طويل في علم الفلك؛ فقد كرسه القرامطة لخدمة نظام دعوتهم.
لقد اعتقدوا أن تدابير العالم منوطة بالكواكب السيارة السبع. لذلك، بدأت دعوتهم للإمام الإسماعيلي السابع، طبعاً قبل الانشقاق عن الاسماعيلية. [2]
كما عمل القرامطة، في بدايتهم، على نهج دعوتهم على نسق الدعوة الإسماعيلية في تقسیم منطقة الدعوة إلى اثنتي عشرة إقليماً، كل داعية فيه تحت إمرته ثلاثون نقيباً، يشرف كل نقیب منهم على أربعة وعشرين داعياً. هذا التقسيم قائم على أساس فلكي، فالسنة تنقسم إلى اثني عشر شهراً، والشهر إلى ثلاثين يوماً، واليوم إلى أربع وعشرين ساعة. [3]
تكون مكانة النقيب مصنفة على مرتبتين، الأولى يحتلها المستجيب، أي الشخص العالم والورع والتقي والذكي الذي يستطيع جلب الأتباع واستقطابهم.
في المرتبة الثانية، يوجد المكاسر، وهو الشخص المتمكن من بنية المذهب، ومن شأنه مكاسرة حجج الخصوم وتفنيد أدلتهم.
بهذا المنطق، نهل القرامطة من العلوم الفلكية، بغيةَ تبيِئَةِ نظرةٍ فلسفيةٍ للكون، رسمت معالم نظام الدعوة الذي اعتمدوه.
حين استقلّ حمدان بن الأشعث بأمر الدعوة، وصار “داعياً مطلقاً” لا يتبع لأي أحد، حافظ على الفلسفة السبعية.
لذلك، جعل حمدان الترتيب الحزبي لدعوته وفق منهاج سياسي، تقول روايات إن صهره عبدان هو من صنّفه، وسماه البلاغات السبعة: خصص “البلاغ الأول للعامة، والثاني لفوق هؤلاء قليلا، والثالث لمن دخل في المذهب مدة سنة، والرابع لمن دخل في الدعوة مدة سنتين، والخامس لمن دخل في الدعوة لثلاث سنوات، والسادس لمن دخل في الدعوة أربع سنوات، والبلاغ السابع وفيه نتيجة المذهب والكشف الأكبر، ويتضمن أسرار المذهب وحقائقه الأساس”. [4]
القرامطة: براعة الاستقطاب
من الأشياء التي تسترعي الاهتمام أيضاً في تاريخ القرامطة، أن هذه الحركة كان لها تنظيم محكم وصارم، في مراحل الدعوة ونشر المذهب بين العوام؛ إذ، دائماً في صلب الفلسفة السبعية، عمل حمدان على تقسيم مراحل الاختيار إلى الحركة إلى سبع مراحل، وهي:
- التفرس: وتتعلق بأن يختار الداعي الأشخاص بعين فاحصة، وأن يحاورهم بلغته المحببة، ليقنعهم أنه لا يعادي مذهبهم سواء كان سنياً أو شيعياً أو من الخوارج، ليقنعهم أن أصل مأساة الدولة والرعية هي الخلافة العباسية.[5]
- المؤانسة وهي أن يأنس الداعي القرمطي بالشخص المراد استقطابه إلى الحركة حتى يثق به تماما،[6]وإذا لمس فيه استجابةً زاد في تودده إليه وهوّن عن أمره.
- التشكيك: يعني التشكيك التدريجي في معتقدات الشخص المراد استقطابه إلى الحركة، وإقناعه أن الظلم الاجتماعي الواقع علیه مرده إلى الحكام وفساد رأيهم ومذهبهم؛ وما عليه إلا أن يتخلى عن عقيدته السابقة ويعتنق العقيدة القرمطية. والواضح أن التشكيك يتركز على مذهب الدولة بالدرجة الأولى لا على الدين نفسه. [7]
- التعليق: أي حين يتشكك المراد استقطابه في مذهب الدولة والخلافة، ويصبح باحثاً عن مذهب بديل، فينتظر الداعي حتى يتأكد أن المدعو لن يبوح بالسر، فيما إذا أفضى للمستقطَب بخبايا المذهب والطَريق؛ فإن أقسم المدعو على الكتمان، استمر معه وإلا أعرض عنه. وهنا إما يتعلق بالدعوة أو يتركها، لذلك تسمى بالتعليق.
- الربط: وهو أن يرتبط المدعو بكتمان أخبار القرامطة الذين يعرفهم، وأن يتعهد بالطاعة والارتباط بالدعوة وبالإمام وبأهل بيته، وذلك بأن يقسم اليمين المحددة لهذه الغاية في الميثاق الخاص بالدعوة. [8]
- الخلع: أي خلع تعاليم المذهب السابق واتباع المذهب القرمطي الجديد. تنظر المراجع السنية المعارضة للقرامطة إلى الخلع على أنه ترك للتكاليف الشرعية والتخلي عنها.
- السلخ: وهو انسلاخ المدعو عن مذهبه السابق وتركه نهائيا، والتقيد بالمذهب الجديد، أي مذهب القرامطة.
نشير هنا أنّ ثمة من الباحثين من يجمع بين التفرس والمؤانسة دفعةً واحدة، ويضيف إلى المراحل “التدلیس والتلبيس”، وترد، تسلسلياً، قبل مرحلتي الخلع والسلخ، وتعني قول القرامطة “للغر الجاهل بأصول النظر والاستدلال أن: الظواهر عذاب وباطنها فيه الرحمة”. [9]
لكن، بالمقابل، هناك قراءات معاصرة تجد أن هذا الرأي مستمد من عند الغزالي، وهو من أشهر خصوم القرامطة في التاريخ، لتشويه دعوتهم.
حجّة هذا التيار أنّه ليس معقولاً أن يصم القرامطة أنفسهم “بالتدليس والتلبيس”، كما أن وضعها بين مرحلتي الربط والخلع تدليسٌ واضحٌ؛ فبدونهما يبدو التسلسل المرحلي منطقياً من ناحية، ومتسقاً مع روح النظام وفلسفته السبعية من ناحية أخرى”. [10]
عموماً، فإن مراحل الاستقطاب، تشير إلى براعة فريدة أفصح عنها القرامطة، تتعلّق في اعتماد الديني والاجتماعي، لكسب الأتباع، ذلك أنّ المذهب يتوجه للفلاحين والفقراء والمعدمين والكادحين من العمال، الذين عانوا من بطش الخلافة وتسلّط الأتراك.
على ضوء ذلك، يذهب بعض الباحثين إلى أنّ القرامطة اعتمدوا في دعوتهم على الآية القرآنية التالية: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}. وقيل إنهم رفعوها في أعلامهم البيضاء خلال كل ثورة خاضوها ضدّ الخلافة العباسية.
الألفة… اشتراكية المال!
بعد أن نشر حمدان مبادئه في بعض القرى، قالت بعض المراجع إنه تمّ إقرار ضرائب يؤديها الأتباع والمنتمون إلى التنظيم.
في عام 276 هـ، أقرّ رسمياً ما يعرفُ بنظام الألفة، والذي بموجبه، تجمع أموال القرية في محلّ واحد ليشترك الجميع في التمتع بها. يختار الداعي من أهل القرية رجلا موثوقاً يتسلم كل ما يملكه أهل القرية من مال ومتاع وحلي ودواب. [11]
هذا الشخص الموثوق، كانت مهمته أن يسبر أغوار الفقر في الدولة. يمنح الأغطية للعريان ويسد حاجات الناس الأخرى، في أفق أن ينتهي الفقر في دولة القرامطة نهائياً.
بدأ الكادحون يترجمون مجهوداتهم في العمل، ويشتغلون بكلّ جهد وإخلاص لأن في ذلك خيراً للجموع، فكلّ فرد كان يحتلّ مركزاً تبعاً للخدمات التي يقدّمها. “النساء يأتين بما يحصلن عليه من الغزل، وحتى الأطفال يقدمون الجعل الذي يحصلون عليه من نظارة الحقول، وليس لأحد ملك عدا سيفه وسلاحه. وقد قال حمدان لأتباعه إنهم في غنى عن المال لأن الأرض لهم”.
فطن حمدان ومن معه، باكراً، إلى أنّ الأصل الحقيقي في تذمر الفقراء هو الشقاء المادي والحطّة الاجتماعية، وأنّه لا أفق في بلورة العدالة الاجتماعية على أرض الواقع، دون تبيئتها بكثير من المساواة المادية. [12]
كان لزاماً، إذن، على القائمين على الحركة القرمطية، أن يستأصلوا الفقر من الجذور، فوجدوا أنّه لا مناص من اشتراكية المال لبلوغ ذلك. [13]
هذه الغاية، حاول حمدان بن الأشعث أن يخوض كل السبل الممكنة لبلوغها. وما يعضّدُ ذلك أنه قدّم للفرد ما يتناسب وحاجاته، بينما جعل مركزه الاجتماعي يتناسب وقابليات هذا الفرد لخدمة المجموع. [14]
في الجزء الثالث، نفصل في العدالة الاجتماعية عند القرامطة ودور المرأة في المجتمع.
هوامش:
[1] إسماعيل محمود، الحركات السرية في الإسلام، سينا للنشر، الطبعة الخامسة 1997.
[2]المرجع نفسه.
[3]نفسه.
[4]نفسه.
[5] طقوش محمد سهيل، تاريخ الزنج والقرامطة والحشاشين، الطبعة الأولى 2014، بيروت لبنان.
[6] المرجع نفسه.
[7] نفسه.
[8] نفسه.
[9] نفسه.
[10] إسماعيل محمود، المرجع السابق.
[11] الدوري عبد العزيز، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، معهد دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت 1995.
[12] المرجع نفسه.
[13] نفسه.
[14] نفسه.
- الجزء الأول: القرامطة: عن… ثورة الكادحين في الإسلام! 1/4
- الجزء الثالث: ثورة القرامطة: نحو عدالة اجتماعية… مفقودة! 3\4
- الجزء الرابع: قرامطة البحرين: جمهورية “اشتراكية” رائدة… لكن عنوانها الدّماء! 4\4
مقالات قد تثير اهتمامك:
- إخَوان الصّفا… هذه حكايةُ رواد الفكر التنويري في التراث الإسلامي! 1\4
- اللَّقاحية… حين كانت اللاسُلطة مذهبا سياسيا للعرب! 1/2
- حسين مروة: صوت الفكر الذي اغتاله الرصاص
- المعتزلة… العقل العربي الإسلامي في بداية تشكّله! 1\3
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… التاريخ الديني 1/4
- نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: الوعي التاريخي الإسلامي الشقي والمزيف 1/4
- اغتال العقل وقدس القتل: أثر التشدد الديني على المجتمعات