“الأصولية” في اليهودية: بين لعنة المنفى وغواية الأرض (الجزء الثالث) - Marayana - مرايانا
×
×

“الأصولية” في اليهودية: بين لعنة المنفى وغواية الأرض (الجزء الثالث)

أحد أهم إشكالات الأصولية اليهودية أن أغلب المنتمين إليها أحسوا بجاذبية الصهيونية، حتى وهي تنافي أصوليتهم الدينية؛ فوجود دولة يهودية، مهما ناقض ذلك إيمانهم الروحي، يشكل في النهاية غواية تجتذب الروح اليهودية بشدة.

بعدما تابعنا في الجزء الأول شذرات عامة عن “الأصولية”، تطرقنا في الجزء الثاني إلى بعض من جذورها وبعض مما يمكن به تفسير ظهورها… في هذا الجزء الثالث، ودائما بناء على كتاب الباحثة البريطانية في علم الأديان المقارن، كارين أرمسترونغ، “معارك في سبيل الإله”، نتعمق أكثر قليلا لنتناول “الأصولية” كما تطورت في اليهودية.

استبق اليهود العصر الحديث بعد صدامهم الأليم مع “مجتمع أوروبا العدواني”. هكذا، اختار بعضهم العلمانية باكرا، فيما رأى معظمهم أن يكون السبيل إلى العالم الجديد عبر الدين، بيد أنه شكْل عقيدة جديد اعتمد أكثر على منطق الروح، على خلاف ما كان ينشأ في الغرب.

في الواقع، شكل عام 1492 عاما فارقا في تاريخ اليهود، بعدما فتح النصارى غرناطة وورثوا جالية كبيرة من اليهود فقرروا في حقها الطرد… عدّ اليهود في العالم كله ما حدث لهم في الأندلس، كأكبر كارثة حلت بهم منذ تدمير المعبد في القدس عام 70؛ يوم أرغموا على الخروج من فلسطين جاليات متفرقة حملت اسم “الشتات”.

صيغة الحداثة التي ظهرت في أوروبا في عصر الأنوار كانت تتسم بعداء واضح لليهودي؛ فمفكرو التنوير، بالرغم مما قالوه عن التسامح، كانوا ينظرون باحتقار إلى اليهود.

منذ واقعة الطرد تلك من إسبانيا، التي كانت في الواقع ختاما لقرن من حالات الطرد التي تعرض لها اليهود من مناطق مختلفة في أوربا، كان موضوع المنفى من بين الأكثر إيلاما في الحياة اليهودية، وعنصرا محتوما فيها.

والمنفى، بالمناسبة، زحزحة روحية لا مادية فقط؛ لأنه مكان غير مألوف تماما ومن ثم فليس له معنى…

اقرأ أيضا: التاريخ الإسلامي لإسبانيا: التنصير القسري… بداية المحنة! 5\10

بعد ذلك، في عصر الأنوار، كانت صيغة الحداثة التي ظهرت في أوروبا تتسم بعداء واضح لليهودي؛ فمفكرو التنوير، بالرغم مما قالوه عن التسامح، كانوا ينظرون باحتقار إلى اليهود.

من بين ذلك، أن الفيلسوف الفرنسي، فولتير، وصفهم بأنهم أمة تتسم بالجهل المطبق وبأنهم يجمعون بين البخل الحقير وأبشع الخرافات وبين البغض الشديد لجميع الأمم التي احتملتهم بصدر رحب.

الفلاسفة الألمان، كانط وهيجل، اعتبرا اليهودية دينا خانعا حقيرا يناقض العقلانية تماما. أما كارل ماركس الذي ينحدر من أصول يهودية، فقد قال إن اليهود هم المسؤولون عن الرأسمالية، التي كانت تعتبر في نظره مصدر شرور العالم جمعاء.

كان على اليهود، إذن، أن يتكيفوا مع “الحداثة” في جو من الكراهية.

حتى يومنا هذا، لا تزال الصهيونية والدولة اليهودية التي أنشأتها، عاملا من عوامل الفرقة والانقسام في العالم اليهودي. كل موقف من الصهيونية ودولة إسرائيل، تقول أرمسترونغ، سواء كان معها أو ضدها، هو القوة المحركة لكل شكل من أشكال الأصولية اليهودية.

ثم في ظل الاقتصاد الرأسمالي، خرج اليهود من الغيتو[1] وبدؤوا يسكنون الأحياء المسيحية، بيد أنه في وقت كانت فيه الوطنية هي الإيديولوجية الرئيسية للدول الأوروبية، كان اليهود لا ينتمون إلى دولة معينة.

هكذا، واصل بعض اليهود ذوبانهم في المجتمع إما بالتحول إلى اعتناق المسيحية وإما بالتزام حياة علمانية تماما، كما اشتغل بعضهم بالسياسة وأصبحوا اشتراكيين ثوريين في روسيا وأوروبا الشرقية.

اقرأ أيضا: من فلسطين، عامر أبو شباب يكتب: الفلسطينيون حائرون بين حل الدولة أو الدولتين

البعض الآخر رأى أن على اليهود أن يعودوا إلى صهيون (الأرض المقدسة)، وأن ينشؤوا دولة يهودية هناك. آخرون فضلوا وضع حل تحديثي، مثل الحركة المحافظة أو الحركة الإصلاحية.

… بعض آخر واصل إشاحة وجهه عن المجتمع الحديث والتشبث بأهداب المذهب التقليدي. أطلق على هؤلاء اسم الحريديم (المرتجفون)، وأبدوا القلق على مستقبل اليهودية في العالم الجديد، محاولين باستماتة إعادة العالم القديم إلى الوجود.

بعدما ظهرت الصهيونية، وقفوا ما استطاعوا ضدها؛ ذلك أنها ضد مشيئة الرب، وأن الدولة اليهودية (إسرائيل) كفر متمثل في تجاهل حقيقة مقدسة؛ أي أنها كانت تدنيسا متعمدا ينتهك التقاليد الدينية التي استمرت لقرون.

بالمناسبة، حتى يومنا هذا، لا تزال الصهيونية والدولة اليهودية التي أنشأتها، عاملا من عوامل الفرقة والانقسام في العالم اليهودي. كل موقف من الصهيونية ودولة إسرائيل، تقول أرمسترونغ، سواء كان معها أو ضدها، هو القوة المحركة لكل شكل من أشكال الأصولية اليهودية.

فالحداثة العلمانية دخلت في معظمها من خلال الصهيونية إلى الحياة اليهودية، ثم غيرتها تغييرا لا رجعة فيه… أوائل الصهيونيين نجحوا نجاحا باهرا في تحويل “الأرض المقدسة” ذات الطاقة الرمزية الروحية لليهود، إلى واقع عقلاني دنيوي عملي؛ فبدلا من أن يكتفوا بتأملها بالمشاعر الدينية العميقة، استوطن الصهيونيون في الأرض ماديا، واستراتيجيا وعسكريا.

اقرأ أيضا: شمعون ليفي: “تقاليدنا اليهودية، لا يمكن للمرء أن يبدلها لتبرير مصالح إسرائيل” 2\2

الواقع أن رفض الصهيونيين للدين كان رفضا صارخا، حد أن حركتهم بدت بمثابة تمرد على اليهودية.

يشعر الحريديم بالغضب الشديد حينما يتأملون دولة إسرائيل، لكنهم يكتفون مثلا بإلقاء الحجارة على السيارات التي يخرق أصحابها القانون الديني بقيادتها يوم السبت، أو يهاجمون منزل حريديم لا يحيا أصحابه وفقا للمعايير التقليدية!

هكذا، إذا كان بعض اليهود قد رأوا العالم شياطينا، حتى قبل الهلوكوست بوقت طويل؛ فالبشاعات النازية أكدت يقينهم، فتيقنوا بذلك أن الشر لا يقتصر على عالم الأغيار غير اليهودي، بل على اليهود المحدثين أيضا.

مجرد فكرة إقامة “مرتدين يهود” دولة علمانية في أرض إسرائيل هي انتهاك لأحد التابوهات؛ إذ أنه قد أصبح للأرض المفقودة على مر القرون قيمة رمزية صوفية، أوجدت صلة بينها وبين الرب والتوراة بأسلوب يماثل الثالوث المقدس.

حتى إن البعض قال: يستحيل على اليهودي أن يتمسك بالإيمان بالدولة وبالإيمان بالتوراة المقدسة؛ لأنهما طرفا النقيض الكامل.

الحريديم، ورغم أنهم أقلية، إلا أن لحركتهم تأثيرا قويا. بالنسبة لهم، الحداثة، حتى في دولة إسرائيل، هي مجرد تجليات الجالوت أو حالة النفي والاغتراب والابتعاد عن الرب.

اقرأ أيضا: الحريديم: إسرائيل لن تلم شمل اليهود، ومستشار لعرفات من الحريديم

ومع ذلك، فإن أحد إشكالات الأصولية اليهودية، أن أغلب المنتمين إليها أحسوا بجاذبية الصهيونية، حتى وهي تنافي أصوليتهم الدينية. إن وجود دولة يهودية، مهما ناقض ذلك إيمانهم الروحي، يشكل في النهاية غواية تجتذب الروح اليهودية بشدة.

هكذا، يشعر الحريديم بالغضب الشديد حينما يتأملون دولة إسرائيل، لكنهم يكتفون مثلا بإلقاء الحجارة على السيارات التي يخرق أصحابها القانون الديني بقيادتها يوم السبت، أو يهاجمون منزل حريديم لا يحيا أصحابه وفقا للمعايير التقليدية!

في الجزء الرابع نتابع الملف مع الأصولية في المسيحية.


[1]  الحي اليهودي.

لقراءة الجزء الأول: “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)

لقراءة الجزء الثاني: “الأصولية” في الديانات الثلاث: ما بين المنطق الروحي والمنطق العقلاني… (الجزء الثاني)

لقراءة الجزء الرابع: “الأصولية” في المسيحية: حين تنتصب الديمقراطية عائقا! (الجزء الرابع)

لقراءة الجزء الخامس: “الأصولية” في الإسلام: هل فاجأ الغرب المجتمعات الإسلامية بالحداثة وأخطأ تقديره للوقت الذي تحتاجه؟ (الجزء الخامس والأخير)

تعليقات

  1. الحسن لشهاب/المغرب

    فعلا اليهود من نشر افيونية الاديان و هم من نشر ايديلوجية الراسمالية الريعية ،و هم نفسهم من ابدعوا الانتربلوجية الاستعمارية ،و هم من صنعوا النظام الاحادي القطبية ،اي العالمي الكتخصص في حماية مصالح النخب و الاقليات الصهيوعربية ،لكن جاهزية المسلمين السياسيين و الدينيين و العسكريين ، و طمعهم الباشع هما السبب في انجاح المشاريع اليهودية ،كل مؤسسة تساند مثيلتها ،بدات من النخب و الاقليات الدينية تم الى المؤسسات الملكية تم الى المؤسسات العسكرية و مع تطور العصر انتقلت الى المؤسسات المخابراتية و الاعلامية و كل المؤسسات الحساسة القريبة من الشعوب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *