الأشعرية: بداية تشكل الاستدلال العقلي عند جماعة أهل السنة والجماعة 1 - Marayana - مرايانا
×
×

الأشعرية: بداية تشكل الاستدلال العقلي عند جماعة أهل السنة والجماعة 1\3

شقت الأشعرية طريقها من رحم المعتزلة، نظرا لكون الأشعري، مؤسس المذهب، كان معتزلي التفكير بداية.
كان الأشعري معتزليا أشد الاعتزال تفكيرا ودعوة، ملازما لشيخه الجبائي، فكان يقول بخلق القرآن، وينفي رؤية الله بالأبصار، موافقا للأصول الإعتزالية الخمسة. لكن ما لبث أن فاجأ الناس بنكران الإعتزال ورجوعه عنه.
فهل انشقاق الأشعري عن مذهب المعتزلة، جعله تابعا لأهل السنة والجماعة من حيث المنهج؟

يعتبر الكثير من الباحثين أن نشأة علم الكلام، تكشف عن انبثاق “الوعي الفلسفي” في الفكر العربي، وتحديد بنية فلسفية في مقاربة التفكير الإسلامي، وأساسه القرآني.

علم الكلام يهتم بالبحث في العقائد الإيمانية وإثبات صحتها، وفق أدلة عقلية ونقلية، والاشتغال بآليات الاستدلال العقلي على المسائل الإيمانية.

يُتخذ الاستدلال العقلي منهجا عند علماء الكلام. لكن الفِرَق الكلامية تباينت حول النظرة إلى النصوص من حيث التأويل، لا من حيث الوقوف عند ظاهرها.

أسس المعتزلة للاتجاه العقلي في الفكر العربي، وجعلوه الأساس لعلم الكلام وتأويل النصوص؛ مفارقين بذلك مذهب أهل السنة المعتمد على النقل والوقوف عند ظاهر النص. بيد أن الأشعرية، التي جاءت مناقضة للمعتزلة في طروحاتها الإيمانية، تسلحت بسلاح المعتزلة نفسه: سلاح المنهج العقلي؛ لكن من أجل الدفاع عن طروحات أهل السنة. فكانت بذلك مدرسة كلامية منهجا، وسنية تفكيرا.

 أبو الحسن الأشعري: من المعتزلة إلى تأسيس الأشعرية:

الأشعري: هو علي بن اسماعيل بن أبي بشر بن أبي موسى الأشعري، أحد صحابة الرسول. وكان أبوه، اسماعيل بن إسحاق، من أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث.

لم يَكن العقل عند الأشاعرة سلطة بقدر ما كان خادما. غير أنَّهم تبنوا المنهج العقلي المتمثل في القياس والمنطق والاستدلال في مقاربة مشروعهم الفكري، إيمانا منهم بأنه لم يبق في زمنهم مجال لمحاربة الفكر المعتزلي بفكر يختلف عنه، خصوصا الفكر السلفي الذي تجاوزته عجلة التاريخ في تلك المرحلة.

مع الأشعري، حدث التحول الجوهري الثاني في الفكر العربي الإسلامي. يرتبط التحول الأول بظهور النزعة العقلية في التفكير الإيماني الذي أسسه المعتزلة، بينما يرتبط التحول الثاني، باعتراف أهل السنة والجماعة بعلم الكلام، كعلم من علوم الدين، وكاستجابة فرضتها الظروف السياسية والفكرية في الدفاع عن المسائل الإيمانية ضمن منظور عقلي.

شقت الأشعرية طريقها من رحم المعتزلة، نظرا لكون الأشعري، مؤسس المذهب، كان معتزلي التفكير بداية، وهذا ما يُثبته ابن عساكر قائلا: “إن أبا الحسن الأشعري كان معتزليا، وأنه أقام على مذهب الإعتزال أربعين سنة. وفجأة غاب على الناس خمسة عشر يوما، ثم خرج إلى الجامع في البصرة، وصعد المِنبر بعد صلاة الجمعة، فقال: معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المرة لأني نظرتُ، فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي شيء، فاستهديت بالله فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده، كما أنخلع من ثوبي هذا[1].

تحول الأشعري الفكري من المعتزلة نحو تأسيس مذهبه، يرجع لأسباب عدة. غَير أن نُقطة التحول الأولى كانت، بالأساس، تلك المسائلُ والإشكاليات التي كان يَطرحُها الأشعري على شيخه المعتزلي الجبائي[2]، والتي لم يَكن يجد لها جوابا، مما أوقعه في حيرة وتشكك من المذهب المعتزلي.

كان الأشعري معتزليا أشد الاعتزال تفكيرا ودعوة، ملازما لشيخه الجبائي، فكان يقول بخلق القرآن، وينفي رؤية الله بالأبصار، موافقا للأصول الإعتزالية الخمسة. لكن ما لبث أن فاجأ الناس بنكران الإعتزال ورجوعه عنه.

هنا، يطرح بعض الدارسين سؤالا في هذا الصدد: هل انشقاق الأشعري عن مذهب المعتزلة، جعله تابعا لأهل السنة والجماعة من حيث المنهج؟

 الأشعرية: في الوسطية بين العقل والنقل:

انشقاق الأشعري عن مذهب المعتزلة، ليس معناه الارتماء في أحضان أهل السنة منهجا، وإنما تصورا؛ بحيث لم يكن مجرد تابع، بل عمل على شق طريق جديدة، ومنهج قوامه تقييد العقل بالنقل، وشرح النقل بالعقل، صياغة لعقائد أهل السنة صياغة عقلية.

بذلك، جعل الأشاعرة العقل مدخلا لفهم النص، لا العقل كحاكم وسلطة في التأويل، لكن خادما للنصوص. وهذا معناه أن منهجهم توسط بين دعاة العقل المطلق، وبين الجامدين عند حدود النص وظاهره.

حتى لا يَقعَ الخلطُ، وجبت التفرقة بين مفهوم العقل وبين المنهج العقلي؛ لأن الأشعري إنما تمرد على المعتزلة من حيث إخضاع النصوص لسلطة العقل المُطلقة، في حين اعتمد المنهج العقلي في المُقاربة.

المُعتزلة اتخذوا من العقل مَصدرا للمعرفة وفي عملية التأويل. بذلك، فكل ما لا يتماشى مع العقل، وإن ورد عن الصحابة، فهو مرفوض عندهم. ومن أجل التحاجج والجدال حول ذلك، اعتمدوا المنهج العلمي العقلي في الاستدلال على ذلك.

أما الأشاعرة، فقد توسطوا المذهبين، بين العقل والنقل.

لم يَكن العقل عندهم سلطة بقدر ما كان خادما. غير أنَّهم تبنوا المنهج العقلي المتمثل في القياس والمنطق والاستدلال في مقاربة مشروعهم الفكري، إيمانا منهم بأنه لم يبق في زمنهم مجال لمحاربة الفكر المعتزلي بفكر يختلف عنه، خصوصا الفكر السلفي الذي تجاوزته عجلة التاريخ في تلك المرحلة.

انشقاق الأشعري عن مذهب المعتزلة، ليس معناه الارتماء في أحضان أهل السنة منهجا، وإنما تصورا؛ بحيث لم يكن مجرد تابع، بل عمل على شق طريق جديدة، ومنهج قوامه تقييد العقل بالنقل، وشرح النقل بالعقل، صياغة لعقائد أهل السنة صياغة عقلية.

من هذا المنطلق، يُفسر حسين مروة قوة المذهب الأشعري وسيطرته منذ أواخر القرن الثالث للهجرة، قائلا: “إن السر في ذلك لا نفهمه دون أن نفهم المنهج الذي اعتمده الأشعري في العودة إلى مذهب أهل الحديث الأولين. إن الاستناد النظري إلى مذهب أهل السنة في قضايا الدين والمُجتمع والطبيعة، ليس جديدا. لكن الجديد الذي يُضفي أهمية خاصة على مذهب الأشعري، هو ذلك المنهج الذي أخذ به. إذا نحن نظرنا في جوهر الأمر هنا، دون الظاهر السطحي، ودون التطلع إلى النيات والرغبات، سهُل علينا أن نرى المنهج المعتزلي يمتد في منهج الأشعري بنوع من الامتداد؛ أي أن الاتجاه العقلاني الذي أسسه المعتزلة في الفكر العربي، وجعلوه الأساس لعلم الكلام، لم تستطع الموجة المحافظة التي أبعدت المعتزلة عن التأثير المباشر في مسار حركة التطور الفكري، أن تطفئ جذوته ولا أن تضع حاجزا متماسكا يقوى على الحيلولة بين هذا الاتجاه العقلاني المعتزلي، وبين التأثير غير المباشر في مسار تلك الحركة”[3].

تشرب الأشعري من مذهب المعتزلة. بذلك، فإن كان الهدف من المذهب الأشعري الرد على المعتزلة، إلا أنه تسلح بسلاح المعتزلة نفسه: سلاح المنهج العقلي.

لم يكن للأشعري أن يعود إلى مذهب أهل السنة، دون أن يحمل إلى هذا المذهب حاصل العملية التي وجهت الفكر العربي الذي يعتبر علم الكلام إحدى ظاهراته.

بذلك، شكل ظهور الأشاعرة، نقطة تحول في تاريخ أهل السنة؛ بحيث تدعمت بنيتها العقائدية بالأساليب الكلامية كالمنطق والقياس، والاتكاء على الدليل العقلي والاستدلالي في توضيح المسائل الإيمانية.

[1] – ابن عساكر: تبيين كذب المُفتري فميا نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، مطبعة التوفيق بدمشق 1929.
[2] – أنظر: أبو الحسن الأشعري بين المعتزلة والسلف، ص 32-33.
[3] – حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفرابي بيروت – لبنان.

 

لقراءة الجزء الثاني: الأشعرية: جذور الاختلاف مع الفكر المعتزلي 2\3

لقراءة الجزء الثالث: رفضهم أهل السنة واتهموا بالبدعة: في نقد الأشعرية 3/3

 

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *