فرنسا في إفريقيا: مع ماكرون… نهاية فرنك المستعمرات. كذبة أبريل فرنسية (الحلقة السادسة)
مع تزايد الانتقادات الدولية لفرنك المستعمرات الإفريقية، وما يحيل عليه من استغلال اقتصادي بشع لدول القارة، طرح الرئيس الفرنسي مؤخرا، خطة، روج لها الإعلام الفرنسي كـ”نهاية تاريخية” لملف مخجل، لكن..
التغيير “الكبير” الذي يريده ماكرون هنا، بحسب عدد من الاقتصاديين والخبراء الجيوسياسيين الأفارقة، لن يفعل أكثر، من “تثبيت” الركائز الأساسية للهيمنة النقدية الفرنسية على المستعمرات السابقة، وإبقائها دون تغيير.
تابعنا من خلال الحلقات الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة والخامسة، كيف قررت فرنسا الاستمرار في التحكم في مصير مستعمراتها “السابقة”، وكيف أسست لذلك من خلال خلق نظام رعب حقيقي، يمتد من الانقلابات إلى التواجد العسكري والتحكم في اقتصاد الدول.
في هذه الحلقة السادسة، نتوقف عند مستجدات الملف الإفريقي، ومحاولات باريس الجديدة لوقف سيل الانتقادات والإدانة الدولية والأوروبية خصوصا، الموجهة لقضية الاستغلال الفرنسي لثروات القارة.
حكاية الانقلابات التي دبرتها وأنجزتها فرنسا في إفريقيا، لاغتيال أي حلم إفريقي في التحرر وبناء اقتصاد مستقل؛ لم تتوقف عند حدود الانقلابات العسكرية والدموية…
فرنسا قررت، خلال سنة 2020، القيام بانقلاب من نوع آخر في القارة… يقوده هذه المرة، الرئيس الفرنسي ماكرون. انقلاب، يريد تغيير كل شيء، كي… يظل كل شيء كما هو.
فيما يشبه عملية انقلاب في سياستها النقدية ــ هذه المرة ــ وافقت الحكومة الفرنسية، في 20 ماي 2020، على مشروع قانون من شأنه ــ نظريا ــ إضفاء الطابع الرسمي على نهاية آخر عملة استعمارية، لا تزال متداولة في العالم: FCFA (أو فرنك المستعمرات الفرنسية في إفريقيا)، والمتداول في دول الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا، المعروفة بــ (Uemoa).
مشروع القانون، جاء بناء على رغبة الرئيس إيمانويل ماكرون، في محاولة منه لإسكات الانتقادات المتزايدة التي تتقاطر على فرنسا من إفريقيا وأوروبا (خاصة من ألمانيا وإيطاليا). ولكن…
من التفاصيل الأولى لهذا المشروع، لا يبدو أن الهدف منه هو تحقيق تغيير حقيقي على مستوى العلاقات الاقتصادية والنقدية غير المتوازنة التي لا تزال قائمة بين فرنسا وبعض الدول الأفريقية.
الفرنك الاستعماري الفرنسي (FCFA)، الذي “خلقه” الجنرال الفرنسي شارل دوغول سنة 1945، لتأبيد الاستعمار الفرنسي لإفريقيا، سيترك مكانه اليوم، بحسب خطة ماكرون وحكومته، لعملة جديدة اسمها (eco)، يفترض أن يتم تداولها، في البداية، داخل الدول الثمانية المشكلة لمجموعة دول الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا، المعروفة بــ (Uemoa): بوركينافاسو، بنين، الكوت ديفوار، غينيا بيساو، مالي، النيجر، السنيغال، والطوغو؛ ليتم، بعدها، اعتمادها تدريجيا دخل مجموع دول المنطقة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المعروفة بــ (Cedeao)، أي إضافة للدول المذكورة إعلاه، هناك كل من الرأس الأخضر، غامبيا، غانا، غينيا، ليبريا، نيجيريا وسيراليون.
العملية هنا لن تشمل دول إفريقيا الوسطى: الكاميرون، تشاد، جمهورية إفريقيا الوسطى، الكونغو، الغابون، وغينيا الاستوائية… التي يفترض أن يظل الفرنك الاستعماري (FCFA) متداولا بها.
مع ذلك، ولكي تصبح الاتفاقية النقدية الجديدة مع فرنسا سارية بشكل كامل، يجب، أو لنقل، يفترض أن تخضع لعملية المراجعات والتعديلات البرلمانية، التي ستتطلب في بعض البلدان مراجعات دستورية دقيقة.
في هذا السياق، يرى عدد من المتتبعين أنه لا يمكن استبعاد فرضية أن المعارضة الشعبية، في الموسم المقبل من النضال ضد الطبقات السياسية، المتهمة بالتبعية والفساد، قد تتركز على هذه النقطة الحساسة في بعض دول غرب إفريقيا.
وسائل الإعلام الفرنسية والإفريقية منقسمة، كالعادة، حول هذه القضية، بين نغمات حماسية على الجانب الفرنسي، وتشكيكية على الجانب الإفريقي.
بالنسبة لأولئك الذين يتماهون أكثر مع سياسات باريس، كان الأمر هنا يتعلق بــ “أخبار تاريخية”، و “طيّا حاسمًا للصفحة”، و “نهاية فرنسا الإفريقية” (وهو ما يحب ويعمل ماكرون على تكراره بشكل كبير).
في المقابل، بالنسبة لمعارضي خطة ماكرون الجديدة، يتعلق الأمر هنا، فقط، بـ“إعادة صباغة لواجهة العملة الاستعمارية القديمة”.
الموافقة على مشروع القانون الذي تريد “فرنسا ماكرون” فرضه على إفريقيا، والذي يقر الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع دول مجموعة الـ (Uemoa) في 21 دجنبر 2019 في أبيدجان، عهد به إلى المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية سيبيث ندياي، السياسية الفرنسية من أصل سنغالي، والتي وجدت نفسها في وضع حرج، حين وصفت المشروع بـ “نهاية رمزية تتجسد في تجديد العلاقات بين فرنسا وبلادنا”… قبل أن تتدارك الخطيئة لتقول: “بين فرنسا والدول الإفريقية”.
كان واضحا حينها… أن الناطقة باسم حكومة فرنسا كانت تريد، فقط، طمأنة البطن الإمبريالي النهم لفرنسا، خصوصا عندما سطرت على فكرة رئيسية قالتها مضيفة: “تحافظ هذه الاتفاقية بطبيعة الحال على سعر الصرف الثابت للعملة المشتركة مع اليورو والدعم الذي تقدمه “الضمانات المالية الفرنسية”.
بالإضافة إلى الإرث الاستعماري للاتفاقية، يجب التركيز على أن بنك فرنسا سيواصل الطباعة والنقل والضمانات المالية للعملة الجديدة.
الحكاية هنا، هي ببساطة… ترجمة دقيقة للقاعدة القديمة التي حكمت سلوكيات فرنسا تجاه إفريقيا:
لكي يظل كل شيء على حاله، يجب (التظاهر بـ) تغيير كل شيء.
التغيير “الكبير” الذي يريده ماكرون هنا، بحسب عدد من الاقتصاديين والخبراء الجيوسياسيين الأفارقة، لن يفعل أكثر، من “تثبيت” الركائز الأساسية للهيمنة النقدية الفرنسية على المستعمرات السابقة، وإبقائها دون تغيير.
بالإضافة إلى تغيير الاسم، ينص مشروع إصلاح الفرنك الاستعماري (FCFA) على وقف الالتزام، الذي كان دائما محل جدل، بإيداع نصف احتياطيات الصرف الخاصة ببلدان Uemoa في الخزانة العامة وبنك فرنسا، وسحب ممثلي باريس من هيئات الرقابة الفنية للبنك المركزي لدول غرب إفريقيا (BCEAO)، وتحديدا من مجلس الإدارة ولجنة السياسة النقدية، وكذلك لجنة Uemoa المصرفية.
مع ذلك، ستستمر عملية ربط العملة وسعر الصرف الثابت بعملة اليورو، إلى جانب حماية فرنسا، التي تنتقل من وضعية الشريك في التسيير إلى وضعية “الضامن الائتماني” للعملة الأفريقية في حالة حدوث أزمة نقدية.
لم يتم توضيح طرق هذا الضمان بعد، فقد ظهر فقط أن باريس تطلب، كمقابل هنا، الحصول على امتياز الوصول إلى المعلومات والمعطيات الميكرو اقتصادية لمجموعة دول الــ (Uemoa)، إضافة ــ طبعا ــ إلى قائمة الموروثات الاستعمارية المتأصلة في الاتفاقية، وعلى رأسها تأكيد الدور التجاري لبنك فرنسا، الذي سيستمر في الطباعة والنقل والضمان… وهي “الخدمة” التي تتلقى فرنسا مقابلها 41 مليون يورو سنويا، تدفع مباشرة من قبل البنك المركزي لدول غرب إفريقيا BCEAO، كما كشفت Mediapart.
بعيدا عن الجوانب الفنية الاقتصادية، “يتمتع” الفرنك الاستعماري الفرنسي FCFA في غرب إفريقيا، بقيمة رمزية بشعة في المخيال الجماعي، وخاصة لدى الشباب، حيث يعتبر اليوم العنوانَ الأكبر ضمن حركات ومطالب التحرر، والمحفز الأبرز للمشاعر المعادية للفرنسيين المتزايدة باستمرار داخل القارة (مشاعر العداء هنا، يجب فهمها كمعارضة للسياسة الخارجية لباريس في إفريقيا، وليس كرها عاما للفرنسيين أو بشكل عام “للبيض” كما تحاول بعض وسائل الإعلام الفرنسية تصوير الأمر).
العديد من النشطاء الأفارقة أصبحوا، اليوم، أكثر تبنيا لحجج المجتمع المدني الإفريقي ضد الفرنك الاستعماري الفرنسي FCFA ، بهدف تحرير بلدانهم من أي “حماية أجنبية”، ومن أجل الحصول على السيادة الاقتصادية والنقدية الكاملة.
“نهاية الفرنك الفرنسي الاستعماري FCFA ليست أكثر من كذبة أبريل فرنسية”، هكذا وصف كيمي سيبا، الناشط الشهير في الحركة المناهضة للفرنك الاستعماري، ما يروج له ماكرون اليوم.
“النهاية الحقيقية للفرنك الاستعماري FCFA ستتحقق عندما تمنح دول Cedeao ، بقيادة نيجيريا وغانا، الحياة للعملة الإفريقية، وربطها بعملات مختلفة وبسعر صرف مرن ومتغير”… يقول سيبا.
فهل يتحقق حلم الاستقلال الإفريقي عن دولة تصر على نهب ثروات قارة؟
بعض الإجابة في الحلقة المقبلة، والتي ستكون حلقتنا الأخيرة في هذه السلسلة.
الحلقة الأولى: فرنسا في إفريقيا… دولة تسرق قارة
الحلقة الثانية: فرنسا في إفريقيا: نهب الثروات أو…الاغتيال والانقلابات
الحلقة الثالثة: فرنسا في إفريقيا: نظام الرعب… و اتفاقيات تقنين السرقة
الحلقة الرابعة: فرنسا في إفريقيا: قارة تحت حكم العسكر… الفرنسي
الحلقة الخامسة: فرنسا في إفريقيا: الثروة والفقر في القارة… والأثرياء في باريس
الحلقة السابعة/الأخيرة: فرنسا في إفريقيا: في انتظار تحرير القارة من القمع النقدي الفرنسي
مواضيع قد تهمك:
- محمد الزرقطوني: رجل تجرع السم… ليحيا وطن! 2/1
- محمد الزرقطوني… رجل المثل العليا الذي وهب روحه الشابة دون تردد ليحيا الوطن 2/2
- معركة الهري: فلتسألوا الاستعمار الفرنسي عن… طعم الهزيمة! 1\2
- معركة الهري: المفتاح السحري… لأول هزيمة لفرنسا بإفريقيا! 2\2
- جميلة بوحيرد.. الجزائرية التي جلدت بنضالها مقصلة المستعمر الفرنسي! 2/1
- جميلة بوحيرد: نذرت شبابها لاستقلال بلدها، ثم حين استقل… تنكر لها! 2/2
- فرحات حشاد… أيقونة النضال التونسية
- الفرنكفونية في المغرب، لغة أم سلاح؟ 2/1
- الفرنسية والإنجليزية في التعليم المغربي: هيمنة اللغة… لغة الهيمنة؟ 2/2