الزاهي لمرايانا: وجود طبقة متوسطة بالمغرب هو “كذبة القرن”، والثورات لا تخبر أحدا بوقوعها 2 - Marayana - مرايانا
×
×

الزاهي لمرايانا: وجود طبقة متوسطة بالمغرب هو “كذبة القرن”، والثورات لا تخبر أحدا بوقوعها 2\2

في هذا الحوار مع الجامعي والباحث في علم الاجتماع نور الدين الزاهي، نحلل الخيارات الاقتصادية للحكومة الحالية، من منظور علم الاجتماع للوقوف على خطر هذه الخيارات على معيش المغاربة جراء الأزمة العالمية والمحلية الكامنة في غلاء الأسعار والتضخم.

تابعنا في الجزء الأول كيف حلل الزاهي النظام الاقتصادي الهجين بالمغرب، والذي يجمع بين “مدينة المشاريع” و”مدينة الله”، وكذلك خطر الأوضاع الحالية على السلم الاجتماعي للمغاربة. في هذا الجزء الثاني، نسأل أستاذ علم بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس عن إرهاصات تشكّل وعي احتجاجي عند الطبقات الفقيرة في المجتمع المغربي، وكذلك مؤشرات “انقراض” الطبقة الوسطى بالمغرب.

  • هناك تحليلات “سوسيولوجيّة” مواكبة لموجة الغلاء تعتبر أنّ المغربي البسيط قد لا يصمد طويلاً بعد كل ما يذوقه الآن من “افتراس” و”احتقار” بسبب الشّروط الماديّة، سيما أن “هناك وعيا ينضج لدى المغربي الفقير، وربما سينتشله هذا من قعر انهزاميته واستلامه للظروف الاقتصادية والاجتماعية وإيمانه أن ما يحل به راجع إلى القضاء والقدر”، كما ترى ذات القراءات. ما رأيك؟ 

توصيفات الخنوع والخضوع والانهزامية والاستسلام للقدر وللفضل الإلاهي، إلخ، في وضعيات اجتماعية واقتصادية مزرية واستبدادات سياسية عنيفة، لا تتمتع بصدقية وصلاحية علمية لوصف الناس، سوى في حالة واحدة يكون فيها الواصف والمحلل متشبعا بيقين ودوغمائية السببية الميكانيكية والحتمية: أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية مأزومة عليها أن تؤدي حتما إلى انفجارات اجتماعية. وحينما لا يحصل الأمر، فإن تعليل الخلل يتم عبر التّوصيفات المذكورة أعلاه. بالنسبة لي، الأمر أكثر تعقيداً من ذلك. حينما نتتبع تاريخ وتجارب الشعوب في ثوراتها، لا نجد هاته المعادلة البسيطة؛ بل نجد أحداثا، لم يكن ممكنا تصور أنها ستكون شرارة الثورة أو الانتفاضة.

  • لكن، أليس على الشرارة أن تجد حطبها متوفرا، لكي تتّقد؟ 

بالطبع، ومن دون تلك الشرارة لن تشتعل النار، بيد أننا لا نعرف طبيعة تلك الشّرارة. في المغرب احترقت أجساد طلبة وفنانين وأناس بسطاء ولم يحدث شيء. لكن، في تونس، كان حرق البوعزيزي لنفسه شرارة اندلاع ثورة الياسمين. بالبيضاء سنة 1981م، كان رشق أطفالٍ للشرطة في حيهم شرارةَ اندلاع انتفاضة 1981… الأمثلة كثيرة. لذلك، وكما قلت في مناسبات متعددة، الانتفاضات والثورات لا تخبر ولا تعلم أحدا بوقوعها، مثلما لا يعلم أحد بذرتها وشرارتها الأولى أو زمن ومكان انطلاقها، على الرغم من معرفتنا كلنا بحجم الحطب الموجود في كل مكان والمؤهل لاشتعالها. لذلك، بقدر ما تكون الثورات مفاجئة في أصلها الأول، بقدر ما تستعيد رأسها ووعيها حينما تقع الشّرارة في الحطب. الوضعية الاجتماعية للمغاربة الآن كلها حطب يابس. فليحذر من يهمهم الأمر من عود الثقاب.

مع الأسف، هذه حقيقة، فكل المؤشرات الرسمية وغير الرسمية تؤكد أن الغلاء الحالي سيدوم لسنوات. خرجة والي بنك المغرب عن التضخم، وخرجة المندوب السامي للتخطيط تخبرانا أن غلاء المعيشة أصبح الآن هيكليا، أي أنه انغرس في عمق البنيات الاقتصادية والمالية. من ثم، علينا أن نعرف أننا سنعيش سنواتنا القادمة في ظل الغلاء. ما يثير في هاته “الخرجات” هي أنها موازية لصمت الحكومة تارة، ولتضليلاتها المُعلنة تارة. فجأة يظهر رجلان وازنان يعلنان حقيقة الأمر للمغاربة، بل إن أحدهما، أي الحليمي، يطالب بقول الحقيقة للمغاربة وعدم الكذب عليهم، واعتبارهم رأيا عاما ناضجا.

من يعلن الحقيقة للمغاربة؟ الجواهري والي بنك المغرب، الذي هو مريد للبنك الدولي، والمندوب السامي للتخطيط الذي سبق وهندس كذبة وجود طبقة متوسطة مغربية. في رأيي، مبتغى ومقاصد تصريحات وخرجات كهاته هي قول الحقيقة التالية للمغاربة: مهما فعلتم ومهما ارتفعت أصواتكم ومهما بلغ وجعكم، فإن الغلاء سيظل قائما وقد أصبح هيكليا. هي حجة حسابات المال، وحجة حسابات التخطيط. لا تثقوا في أمل أو في محلل أو في أي اقتراح… لأنه سيقول لكم الكذب والبهتان. الأمر هيكلي وكفى. أليس هذا خطاب مدينة الله (الذي أشرنا له في الجزء الأول) معكوسا؟ الأمر قدر قوانين الاقتصاد والمال، لكن إثارة والإعلان من المسؤول عن تضخيم التضخم، ومن المهيكل للأمر الهيكلي، لا يجب أن نخبر به المغاربة وغير المغاربة، لأنه سيفتح باب ملف المطالبة بالمحاسبة ومن ثم المطالبة بتنحي المسؤولين عن هكذا وضع. إن الذئاب لم تكن يوما ما راعية غنم.

  • ذكرت الطّبقة المتوسّطة، واعتبرت وجودها في الأصل “كذبة”. هناك بالفعل مؤشرات تعتبر أنّ الطبقة المتوسّطة “تنقرض” بالمغرب وأن البقاء اليوم سيكون لندّين غير متكافئين: الأثرياء والفقراء. ما معنى أن ترتفع عتبة ولوج المغاربة إلى الطّبقة الوسطى اليوم؟ 

بخصوص الطبقة المتوسطة وسؤال عتبات ولوجها من تحت والخروج منها باتجاه الفوق، أكرر القول بأن وجود طبقة متوسطة حضرية بالمغرب أكبر كذبة إحصائيّة عممتها المندوبية السامية للتخطيط. لقد اختفت الطبقة المتوسطة من الهندسة الاجتماعية للمجتمع المغربي منذ ثمانينيات القرن الماضي، تحت ظل ما عرف آنذاك بسياسة وبرنامج التقويم الهيكلي. ولم تتمكن الدولة من توفير شروط انبعاثها، رغم إحساسها مع الملك الحسن الثاني بأن غيابها يهدد المجتمع المغربي بالسكتة القلبية. لقد كتبت عن الموضوع باستفاضة دراسة صدرت مؤخرا ضمن كتاب جماعي يحمل عنوان “التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية بالمغرب”، أصدرته مؤسسة فريدريش ايبرت الألمانية، وأنصح بالعودة إليه.

في هذه الدراسة، أوضّح انعدام وجود طبقة متوسطة حضرية وفلاحية، وكذا عطالة المصعد الاجتماعي. لا أحد ينزل من طابق الثروة العلوي ولا أحد يصعد، بل إن النزول هو الحاصل. تتسع دائرة الفقر والتفقير لتشمل الآن الفئات الدنيا والوسطى من الطبقة المتوسطة، ومداها يتسع. المجتمع المغربي الآن يعيش في العري والعراء الطبقيين. الرأسمال ممركز في الأعلى ولا يدور ولا يتحرك خارج دائرته. ذاك ليس رأيي أنا فقط، بل يقره اقتصاديون وعلماء اجتماع وأنثروبولوجيون مغاربة أكفاء.

  • جرى الترويج أيضا لخلق طبقة متوسطة فلاحية أو قروية. ما هو تعليقك؟ 

أعتبر هذا بمثابة الكذبة الثانية، وهي كذبة القرن، ولقد تطرقت لهذه المغالطة الكبيرة في الدراسة التي ذكرت قبل قليل. حين كانت المحاولات حثيثة لإنشاء هذه الطبقة المتوسطة الفلاحية، فقد تم خلق “مخطط الجيل الأخضر” سليل “المخطط الأخضر” لتوفير شروطها بالقرية المغربية. تجمع الدراسات الجادة في هذا المجال أن ما تم خلقه هو أثرياء جدد، ينعتون بالفلاحين الحضريين والقرويين الجدد، أصحاب ضيعات عصرية، منتجاتها مخصصة للتصدير. فئة جديدة من الملاكين العقاريين يتسع عددها وكذا جغرافيتها، تنبئ بالتشكيلة الطبقية القادمة للمجتمع المغربي.

إنهم خريجو مخطط الجيل الأخضر، الذين يستفيدون من كل أنواع الدعم، والتسهيلات الضريبية والإدارية، ينتجون الفراولة والأفوكادو والبطيخ والخضر والفواكه الفاتكة بالفرشة المائية ويصدرونها مزودة بمياهها، في حين تعيش مناطق بأكملها ندرة المياه الصالحة للشرب. هؤلاء الآن هم الفلاحون الجدد الذين يُسمَح لهم بأن يكونوا نافذين في رسم السياسات الفلاحية للبلد.

إن غياب طبقات متوسطة من النسيج الاجتماعي المغربي يجعل هيكلته الطبقية موزعة بين رأسمال كبير ممركز في قمة الهرم وفقر كبير منتشر في أسفل الهرم، أي أن هناك هوّة خطيرة لا توصف بين القمة والقاعدة. لذلك، لا يجب أن نستغرب أنه في حالة ما فارت فورة منطقة ما، حضرية أو قروية، لا تجد الدولة وسيطا يمكنه أن يتدخل للتفاوض أو الإنصات؛ وما حصل مع ساكنة الحسيمة خير دليل على ذلك، فتبقى ساكنة المنطقة وجها لوجه مع الأجهزة الأمنية.

غياب الطبقات المتوسطة يعني ضعف النخب السياسية والنقابية، وهي نخب بدون أساس اجتماعي وجماهيري، ومن ثم ضعف إن لم نقل غياب من يلعب دور الوسيط بين الدولة والمجتمع. المنطقة الفارغة يتم ملؤها بأجهزة وزارة الداخلية التي تلعب دور الوسيط بالعصا والاعتقال وليس بالحوار الإنصات.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *