المعامل “السّرية” في المغرب… زواجُ الاقتصاد غير المهيكل بنقيضه المُهيكل! 1/2 - Marayana - مرايانا
×
×

المعامل “السّرية” في المغرب… زواجُ الاقتصاد غير المهيكل بنقيضه المُهيكل! 1/2

هل كان البلدُ يحتاج إلى مأساة من هذا النوع ليطفو إلى السّطح نقاش الأوضاع الكارثية التي يعيشها العمال في الاقتصاد غير المهيكل وحتى المُهيكل، باعتبارهما وجهان لاقتصاد واحد، كما سنرى في هذا الملف؟
لا، لم يكن البلد في حاجة إلى ذلك… بقدر ما كان في حاجة إلى مسؤولية حقيقية ومحاسبة فعلية وحكامة جيدة.

28 شخصاً… أرواحٌ لمغاربة، أغلبهم من النساء، غادرت هذا العالم في معمل للنسيج، قيل إنّه “سري”، تسربت إليه مياه الأمطار في مدينة طنجة بشمال المغرب.

عاصفة من الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي… نهاية مأساوية لباحثين عن قوتهم اليومي.

فهل كان البلدُ يحتاج إلى مأساة من هذا النوع ليطفو إلى السّطح نقاش الأوضاع الكارثية التي يعيشها العمال في الاقتصاد غير المهيكل وحتى المُهيكل، باعتبارهما وجهان لاقتصاد واحد، كما سنرى في هذا الملف؟

لا، لم يكن البلد في حاجة إلى ذلك… بقدر ما كان في حاجة إلى مسؤولية حقيقية ومحاسبة فعلية وحكامة جيدة.

“لا ينبغي أن يثق الفرد، ولو لثانية، بأنّ هذا الوضع غير معروف من طرف السّلطات…”

معطياتٌ أخيرة مُحيّنة بيّنت أن معمَل طنجة كان يشتغل بترخِيص قانوني، بيد أنّ هذا لا يمنَع في كون هذه الحادِثة كشَفت عن شَجرة تُخفي… ربّما، الغابة حيثُ تنشطُ الوحدَات الصّناعية “السّرية” وغير القانونية.

إشكالات رسم القِطَاع

نجيب أقصبي، المحلل الاقتصادي، في حديثه مع “مرايانا”، يجدُ أنّ ثمّة إشكالٌ يُطرحُ على مستَوى ما يسمّى بـ”الاقتصاد غير المهيكل”، نظراً لغياب الدّراسات والأبحاث الرّسمية وغير الرّسمية الدّقيقة. إشكال لم يُتفق بعدُ على الحجم الذي يحتلّه، ولا على مكوناته، على اعتبار أنّ هناك مقاولات تعمل وتنتج، لكن خارج القانون؛ سواء على مستوى السجل التجاري أو الترخيص أو الضّرائب.

هناك، أيضاً، صنف آخر من الشّركات التي “هي ظاهرياً عادية أو قانونية، ولكن جزءً من نشاطها، تقوم بتهريبه للقطاع غير المُهيكل، ويكون غير معلن وغير قانوني.”

بينما… ثمّة أنشطة اقتصادية “خارجة عن القانون كالتهريب والمتاجرة في الممنوعات والمخدرات.”

أقصبي يضيفُ أنّ ما يُسمى بالاقتصاد غير المُهيكل، هو نطاقٌ مُختلف… فحتّى بالنسبة للأرقام، هناك من يقول إنه يمثّل 20% من الناتج، وآخرون يعتبرون النسبة الصّحيحة هي 40%. من حيث توظيف الساكنة النشيطة، يوجد رأي يدفع بنسبة 80%، وأنّه يشغّل 40% المأجورين… إلخ.

بينما دراسة نشرها بنك المغرب قدّرت أن وزن الاقتصاد غير المهيكل بالمملكة بحوالي 30 في المائة من الناتج الداخلي الخام.

هل الدولة لم تقم بما يلزم من أجل إنضاج المنظومة القانونية وتطبيقها؟ أو هل “تكاسلت” المؤسسات في القيام بالرقابة الصّارمة في خضمّ أدوارها الإدارية والقانونية؟

هنا، نكون أمام وحدات صناعية أو شركات أو معامل “خفية” وغير قانونية ولا تعلنُ عن أنشطتهِا بصفة رسمية؛ وهي تدور في فلك عملية اقتصادية لا قانونية من البداية إلى النهاية… أي في كل مراحل الإنتاج؛ وفي بعض الأحيان، تعلنُ عن شقّ منها فقط.

الاقتصاد المُهيكل… حين يستفيدُ من نقِيضه!

تتّجهُ أصابع الاتهام نحو وجود ترابط، في كثيرٍ من الأحيان، بين الاقتصادين المهيكل وغير المهيكل… أي أنّه ليسَ فقطْ من يشتَغلون في الاقتصاد غير المهيكل هُم من يسيئون للمنظومة الجبائية والاجتماعية في المغرب.

قد نجد مثلا أربابُ عمل يملكون شركَات مُصرّح بها، ويشغلون يدا عاملة مُصرّحا بها، لكن فقط على جزء من الأنشطة… بمعنى أن يُصرّحوا بنِصف العمال ونصف الرّبح فقط. كما يُتّخذُ الاقتصاد المهيكل واجهة للتغطية أحياناً على آخر غير مهيكل.

يضعنا الأمر هنا أمام  إشكال أعمق، يلعبُ على حبلين، ربما نتيجة غياب الرقابة الإدارية؛ أو بسبب عدم امتثال الفاعل الاقتصادي للقانون.

الباحث في الاقتصاد، المهدي فقِير، يصفُ، في تصريح لـ”مرايانا”، هذا بالإشكال الهيكلي أو البنيوي الذي ينبغي إصلاحه من الجذور، وذلكَ لكونه يصبّ، بكيفية من الكيفيات، في إشكالية ماهية تفكير المُشغل، أي هل يشتغل وفق قانونه الخاص أو بخضوعه للقانون العام والمؤطّر للشغل.

هذا يبين، حسب فقير، أن المنظُومة القانُونية التي تهمّ الأعمال لم يتم إنضاجُها بما يكفي من أجل مُواكبة تطورات العصر، وهذا ما أفرز وحدات اقتصادية في نطاق القانون… دون احترام القانون، أي تصريف جزء من نشاطاتها للظل.

ويبقى هذا النقاش قائماً… فهل الدولة لم تقم بما يلزم من أجل إنضاج المنظومة القانونية وتطبيقها؟ أو هل “تكاسلت” المؤسسات في القيام بالرقابة الصّارمة في خضمّ أدوارها الإدارية والقانونية؟

نجيب أقصبي يعتبرُ أنّ هناك تعتيما حول الموضوع، لأن الباطرونا يقولون “سنحارب الاقتصاد غير مهيكل”. وكلما حدث نقاش عن الضّرائب يركبون على الموجة لصبّ الاهتمام نحو النطاق غير المهيكل وصرف النّظر عن إشكالاتهم وتهرّبهم الضّريبي.”

هنا، نحن أمام قطاع “مهيكل لا يدفع الضّرائب”، وبالتالي، يصبح النقاش ليس هو: لماذا لا يدفع الباطرونا الضّرائب في القطاع المهيكل والمعلن عنه بشكل رسمي، بل هو محاربة قطاع غير مهيكل و”سرّي”.

تجدُ الشركة الأجنبية مصلحتها في هذا الوضع المربح. في بلادها، تنادي باحترام حقوق العمال، ولكن في الخارج، هذا النقاش غير مطروح على طاولة هذه الشّركات، وهذا نوع من “النفاق” الاقتصادي!

الواقِع أنّ هذا النّطاق غير المهيكل يحصّل ثروات ضخمة، وفيه أناس أغنياء، وله القدرة أن يقتحم “نقيضهُ” المُهيكل ويدفع الضّرائب، ولكنّ هؤلاء “الباطرونا”، يدرِكُون أنّ الاقتصاد المُهيكَل نطاق هشّ.

القائلون بأن القطاع غير المهيكل ينبغي أن يصبح مهيكلاً ليدفع الضّرائب، فهو “كذب واستهتار بالرأي العام، لأن القطاع غير المهيكل بالأساس ضعيف ولا يضمن أرباحاً أو مداخيل عالية أصلاً ولا حتى متواضعة. لذا، فالأمر لا يرقى أن يكون مشكلة ضريبية بحتة”، يقول أقصبي.

استفادت أطرافٌ وضاع البلد!

يذهبُ الكثيرُ من الخُبراء في علم الاقتِصاد أنّ الوحدات الصّناعية النّشيطة في القطاع غير المُهيكل هي، في الحقيقة، نتيجة لتواطؤ أطراف مُتعددة؛ فالكلّ رابح، بشكلٍ من الأشكَال، باستثناء العُمال والاقتصاد الوطني.

لنأخذ مثلاً العمل بالمُناولة، حيثُ تجدُ الشركة الأجنبية مصلحتها في هذا الوضع المربح. في بلادها، تنادي باحترام حقوق العمال، ولكن في الخارج، هذا النقاش غير مطروح على طاولة هذه الشّركات، وهذا نوع من “النفاق” الاقتصادي!

هذا الرأي أكّدته روبورطاجات نشرتها قنوات إسبانية، تُبيّن أن المستثمرين الأجانب، بالفعل، على دراية بهذه الوضعية المأساوية للمعامل “السّرية”، بيد أنّهم يجدون فيها مآرب مالية وتجارية… ولو على حساب اليد العاملة المغربية!

يعتبرُ المحلل الاقتصادي نجيب أقصبي أنه من المستفيدين أيضاً، هناكَ المستثمِرون بالمغرِب الذين يتعاملون مع الشّركات الأجنبية… أو “السّماسرة” الذين يتوافقون حولَ هذا الوضع، لأنّه ملاذ للزيادة في الأرباح وتكديس الثّروات.

الواقِع أنّ هذا النّطاق غير المهيكل يحصّل ثروات ضخمة، وفيه أناس أغنياء، وله القدرة أن يقتحم “نقيضهُ” المُهيكل ويدفع الضّرائب، ولكنّ هؤلاء “الباطرونا”، يدرِكُون أنّ الاقتصاد المُهيكَل نطاق هشّ.

الدولة أيضاً تستفيد من هذا الوضع، لأنها، وفق أقصبي، تفضّل أن يشتغل المغاربة في هذه الظّروف على أن يخرُجوا للشّارع ويطالبوا بحقوقهم… ربما!

كخلاصة، يعتبرُ المتحدّث أنّهُ “لا ينبغي أن يثق الفرد، ولو لثانية، بأنّ هذا الوضع غير معروف من طرف السّلطات… هذا كلّه معلوم عند الأجهزة، والدّولة تغضّ الطّرف، فيما أنها فشلت في تطوير اقتصاد وطني حداثي مناسب ومنتج في ظروف عادية.”

في النهاية، نكونُ هنا أمام استغلال كارثي للعمال وجشع مُفرط للباطرونا؛ فيستفيدُ هؤلاء، وتضيعُ مصالح المسحُوقين ومعها مصالح البلَد.

لهذا، دفع الحماسُ بالبعض إلى وصف هؤلاء الباطرونا بـ”الباندية”… فهل يجوز هذا التّعبير رغم قسوته وتحامله؟

سؤال سنحاول الرد عليه في الجزء الثّاني من هذا الملف.

مواضيع قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *