فتحي المسكيني لمرايانا: الإرهاب “عدمية تاريخية” والأوروبيّون لم يحرّروا الفكر من الدّين 4 - Marayana - مرايانا
×
×

فتحي المسكيني لمرايانا: الإرهاب “عدمية تاريخية” والأوروبيّون لم يحرّروا الفكر من الدّين 4\4

رأينا في الأجزاء الثلاثة السابقة أهم تصورات الفيلسوف فتحي المسكيني، عن “الفلسفة العربية”، وعن التصوف، والإلحاد والتّطرف العلماني.

في هذا الجزء الرابع والأخير، يفسر لنا المسكيني المعنى الفلسفي للإرهاب المستفحل في منطقتنا، وحاجة ثقافتنا إلى تنوير من نوع جديد يجيب عن إشكالاتنا التاريخية والراهنة.

  • حين نتحدث عن التطرف، نجد أنك كتبت منذ أواخر القرن الماضي، سنة 1997، مقالاً عنونته “ما هو الإرهاب؟ نحو مساءلة فلسفية”. وأنت تميز بين الإرهاب والفتنة، تبعًا لسياقنا التداولي. لكن بعد مرور كلّ هذا الوقت، حوالي أكثر من ربع قرن، لازال “الجهاد” و”الإرهاب” و”الدّين المسلّح”، واقعا تضررت منه مختلف الدول في العالم. هل ترى أن الأبحاث والدراسات “الفكريّة” أخطأت تشخيص وعلاج مشكل الإرهاب، الذي “فشلنا” في محاصرته ولم يزد إلاّ استفحالاً، فكراً وعملاً؟

دعني أقدم تدقيقا بسيطًا، وهو أنني في الصفحة 75 من كتابي “الهوية والزمان” (الطبعة الأولى، 2001) كنت ميزت بين مفهومي الإرهاب والفتنة، وأشرت إلى أنّ الإرهاب ليس فتنة: لا معنى للفتنة إلاّ في مقابل “سنّة” مستقرة لدى أهلها نجحت في ترتيب الشأن السياسي وصارت خطّته الخاصة. من يدعو إلى “الفتنة” هو يشكّك في تلك “السنّة” باسم “سنّة” أخرى سوف ينظر إليها الناس على أنّها إمّا “بدعة” مبتدعة، وينبغي محاربتها، أو “دعوة” مباركة يجب الاستجابة لها. أمّا “الإرهاب”، فهو شيء “آخر”: إنّه ظاهرة “حديثة” تماما، وأنا حاولت وصفها عندئذ على أنّها نوع مخصوص من “العدمية التاريخية” باسم “الهوية” المجروحة. لكنّني ميّزت أيضا هذا الإرهاب عن “العنف”، وهو المفهوم القانوني الذي ميّز المعجم السياسي “للحداثة” في مقابل “الفتنة” التي ميّزت المعجم الديني “للملة”. لا يمكن أن تكون مقولة الفتنة إلاّ دينية؛ لا يمكن أن يكون توصيف العنف الحديث إلاّ علمانيا أو قانونيا. أمّا الإرهاب، فهو شيء مغاير. هو يقف في منطقة رمادية حيث يتمّ تبذير الحياة بشكل عدمي متعمّد. وهذا جديد تماما، سواء بالنسبة إلى معجم الملة أو معجم الدولة الحديثة.

يبدو أنّ الخطاب الذي ساد في الغرب تحت لواء “إيبستيمولوجيا الشمال”، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، أي الخطاب الذي صار لا يهتمّ بالفرق بين “التطرّف” و”الإرهاب”، هو بشكل ما قد طمس الطريق إلى التفكير في ماهية “الإرهاب” بما هو كذلك، وفضّل اختزاله، فجأة، في وجه واحد ووحيد منه، ألا وهو “التطرّف الديني” بوصفه مرادفاً  “للإرهاب”، ثمّ بوصفه تعريفا “ثقافيّا” عملياتيّا ومقبولا لظاهرة “الإرهاب الإسلاموي”، بعد أن تمّ تشخيصه باعتباره “شيئا إبيستيمولوجيّا” مفضّلا للباحثين الغربيين أو التابعين في مسألة “التطرّف” التي هي، من حيث تاريخ المشكل، مسألة أقدم من “الإرهاب” ومختلفة عنه. إلاّ أنّ هذا القرار الإبستيمولوجي في واقع الأمر ليس بريئا، بل هو جزء من موقف “كولونيالي” مكرّس في جملة ما يقوله الدارسون “المعولمون” اليوم عن “المسلمين” مثلا، أكانوا “خارج” الغرب أم “داخل” الغرب نفسه.

ربّ قرار أدّى إلى هذا البؤس المنهجي “لدينا”: ضرورة البحث عن مسلمين “معتدلين” يكونون شركاء في محاربة “الإرهاب الإسلاموي”. وإذا ما طبّقنا ذلك على مستوى إنتاج “المعرفة” المختصّة، فإنّ ذلك يعني: أنّ على الباحث “المسلم” المعاصر أن يتقمّص دور “الذات المعتدلة”، وأن يعامل جزءًا من انتمائه أو من مصادر نفسه بوصفه “متطرّفا”، أي بوصفه موضوعاً مشبوهاً إبستيمولوجيّا، وأن يعتمد، سواء في “تذويت” ذاته أو في “موضعة” موضوعه، على “مقولات” الباحث الغربي ومفرداته بوصفها تمتلك، سلفاً وبداهةً، “ادّعاء” صلاحية نظريّة تُقدَّم على أنّها خارج المساءلة، بقدر ما يجب اعتمادها “مرجعيّا” بوصفها أكثر الطرق نجاعة “لمحاربته”.

نحن أمام معركتين ينبغي التمييز بينهما: أن نتحرّر من الضغينة الايبستيمولوجية للعلماني الذي يعامل المؤمن العادي كأنّه خطأ أخلاقي دون قدرة حقيقية على الدخول في نزاع اعتراف أصيل مع مصادر ذاته العميقة؛ ولكن أيضا أن نتحرّر من التبعية النظرية لجهاز التفكير الغربي الذي يطمس الفرق بين مقولات التفكير وبين قرارات التنوير التي تكون في صالح هويته السردية. إنّ “الكوني” عندئذ يمكن أن يكون خدعة مرعبة. لا يمكن أن نتحرّر في فهمنا لأنفسنا دون أن نتحرّر من جهاز التفكير الذي نستعيره من الآخرين.

  • هل نفهم من قولك إننا في حاجة إلى تنوير من نوع جديد وبأدوات جديدة؟

نعم، وأنا أعتبر أنّ التنوير “لدينا”، أي الذي لا يكون مجرد سلوك “كولونيالي” مبطّن بالحقيقة، هو مطلب ملحّ وعاجل ولا خيار لنا فيه. إلاّ أنّه لن يكون مجرّد “علمنة” لمفردات الفضاء العمومي، فهذا نفسه لا يخلو من “تنصير” يأخذ لبوس “التغريب” الايبستيمولوجي، سوف يقابله “الهوويّون” بعملية “أسلمة” هووية تحتوي على نفس القدر من رعب “الحقيقة”. إنّ المطلوب هو، بالفعل، الشروع في “أنوار أخرى” أي نمط من التنوير الحرّ الخاص بنا، أي الذي يخترعه المبدعون لدينا من شعراء وروائيين ومفكّرين وأرواح حرة ومن مواطنين نشطين وأناس عاديين حقيقيين، وهو أمر خطير يفترض استعمالات جديدة لأجسادنا الخاصة، وجرأة سياسية غير مسبوقة على “دمقرطة” كل استعمال عمومي لأنفسنا، من المدرسة إلى الدولة، وحيث لا يمكن لأيّ نوع من “التعالي”، سواء كان دينيّا أو أخلاقيّا أو قوميّا أو عرقيّا أو لغويّا أو جندريّا، أن يمارس هيمنته على عقول الناس.

إنّ “الدين المسلّح” هو نفسه في كل أنواع “القرون الوسطى” المفترضة أو الفعلية. لذلك، فإنّ “الإرهاب” ليس نزوة شخصية لبعض الأفراد الضّالين أو المغالين في دينهم، بل هو استراتيجية أشرف عليها مختصون، وموّلتها كيانات عملاقة. ليس الإرهاب مشكلا شخصيًّا لأحد إلاّ عرضا. لذلك، لن يكون الحل هو هذه الوصفة البيداغوجية أو هذا الخطاب المعتدل أو هذا التفسير العلمي… إنّ “الإرهابي” جسد خضع للبرمجة والتدريب وعقل خضع للتعبئة والتكثيف. لكنّ “من” قام بذلك وأشرف عليه يظلّ خارج الشاشة، ولا أحد يمكنُ أن يحاسبه.

لذلك، من السّخف الادّعاء “العلمي” بأنّ المسلم المعاصر “قد تعطّل عقله”: ليس للمسلم “عقل” خاص يمكن تعطيله. هو مجرّد ساكن من ساكنة الأرض يعاني من بيئة غير مناسبة لنموّ أفضل ما فيه. لذلك، لا يمكن التعويل البريء على مراكز “البحث” الغربية من أجل فهم “الإرهابي”: هي لديها مقولاتها التي تريد بكل ثمن أن تكون فعالة في إثبات”رغبة الموضوعية” المزيفة التي تفترضها. لا يجب على من يفكّر أن يسمح بمعاملة مجتمعه أو ثقافته أو مصادر ذاته أو معتقدات أسلافه وكأنّها خطأ تاريخي أو مجرد “شيء” ايبستيمولوجي يجب القضاء عليه.

طبعا، قد يُقال إنّ هذا النوع من التوصيف ربّما يبرّر وجود الإرهابيين؛ وفي الحقيقة ما يبرّر ظهور الإرهابيين هو القرار الغربي والتابع بمحاربة دين بعينه أو نمط من الناس أو شكل من الحياة وكأنّه الطاعون. إنّ الحداثة في حالتنا هي واقعة “كولونيالية” لم نتحرّر منها بعد، ولا يبدو أنّنا سوف ننجح قريبا في التمييز بين أن نفكّر “مثل” الغربيين، أي أن نبدع شكل أنفسنا الجديدة بأيدينا، وأن نفكّر “كأنّنا” غربيون، أي أن نكرسّ قراراته الاستراتيجية حول مصيرنا في العالم.

  • لكنّ الحداثة الغربية قامت على أسس العقلانية الأداتية والفردانية والعلمانية وتحرير الفكر، من قبضة الديني، إلخ. بيد أنّ المأزق الذي نعانيه في ثقافتنا أنّ التديّن لازال، إلى اليوم، يشكّل وجهة نظر حول الحداثة، وحول براديغم حقوق الإنسان أيضًا… فما هو أفق الحداثة لدينا، في ظل وجود “مثقفين إشاعة”، ونحن لا نستطيع أن ننسب للعصر أي نوع من التوقيع إلاّ باعتباره التوقيع الذي رضيته الإنسانية لنفسها؟

منذ شوبنهاور ثمّ مع نيتشه إلى ديريدا وأغمبن، أي إلى اليوم، انتقل الفلاسفة الأوروبيون من “إعلانات الحداثة” التي امتدّت من ديكارت إلى هيغل، أي علمنة القيم المسيحية تحت إلهام الأطروحة الديكارتية: “أن نصبح بمثابة مالكين وأسياد على الطبيعة بواسطة التقنية”، وهو ما أعطى “فلسفة الذات” التي لا ترى الآخر إلاّ “موضوعا” للمعرفة والسيطرة والاستمتاع… ضمن هذه الرحلة، انتقل الفلاسفة إلى عمليات “نقد الحداثة” نقدا أداتيّا سياسيّا، من ماركس إلى ديريدا، ونقدا جذريّا أخلاقيا، من نيتشه إلى دولوز، ونقدا بنيويا جنسيّا، من فرويد إلى فوكو وباتلر. وعلى الرغم من محاولات “الترميم” التواصلي عند هابرماس والتأويلي عند ريكور والتحليلي عند رولز، فإنّ الغربيين لم يمنعوا الانزلاق نحو “الوضع ما بعد الحديث” حيث فقدت كل سرديات الحداثة حبكتها الأساسية أي لعبة “الشرعنة” الليبرالية. وصارت “أزمة السرديات الكبرى”، كما يرى ليوتار، عنوانا متواترا.

  • ما هي إذن الخطة الأساسية في إعلانات الحداثة؟

إنّها مفاهيم “العقلانية والفردانية والعلمانية وتحرير الفكر من قبضة الديني”. فلسفيّا، لا تعدو هذه المقولات أن تكون مجرّد ترجمة “علمانية” لقيم مسيحية، حتى نعلم أنّ العلمنة ليس مجرد غطاء للتعابير الدينية تحت مصطلحات جديدة. إنّ “العقلانية” حسب تفسير هابرماس هي قيمة أخلاقية واجتماعية لم تكن ممكنة من دون “عالم الحياة” الذي جعلها ممكنة: عالم الحياة الذي تحوّل فيه “الشخص” من رعيّة إلى مواطن، ومن مؤمن تابع لكنيسته إلى ضمير حرّ، ومن عضو في جماعة طائفيّة إلى فرد مستقلّ بنفسه. وهكذا فإنّ المغالطة القوية هنا تكمن في الخلط بين “العلمنة” وبين “تحرير الفكر من قبضة الديني”. إنّ الأوروبيين لم “يحرّروا” الفكر من الدين بل “علمنوا” الدين، ولم تكن “الحرية” غير النتيجة الوجودية والسياسية لتلك العلمنة.

إنّ من يفهم “العلمنة” على أنّها تعني “تحرير الفكر من قبضة الديني”، أي على أنّها مجرّد “نفي” لعدوّ تمّ القضاء عليه، وعمليّة منهجية “سالبة” فقط، هو يجرّد الحداثة من قوّتها التداولية ويعاملها كأنّها تعويض لخطاب قديم بخطاب جديد مصنوع للغرض. إنّ الأوروبي الحديث لم يغيّر شيئا من مصادر نفسه، بل غيّر العلاقة معها. لقد “علمنها” فقط. وذلك يعني “ترجمها” في مفردات جديدة أكثر طرافة وأكثر قدرة على تطوير تقنيات الجسد الخاص وترسيخ معايير العدالة في الفضاء العمومي مع الآخرين المشاركين وغير المشاركين في شكل الحياة. الفيلسوف الغربي مترجم جيّد، وليس مجرد “ناقد” كما نعتقد.

ربما من أكبر الخدع المنهجية التي أضرّت بعقولنا المعاصرة هي خدعة “النقد”: مثلا أنّ “نقد الدين” هو كافٍ للتخلّص من سلطته الرمزية على الملايين، أو أنّ “نقد الحداثة” كاف لتجريدها من أصالتها الخاصة وتحويلها إلى مجرد “رأي” ريفيّ أو محلّي خاص بالغربيين، أو أنّ “نقد الغرب” كافٍ للتحرر من سلطته الكولونيالية على المفاهيم التي نستعملها كي نعرف أو نفكّر، إلخ. إنّ “ترييف أوروبا” ممكن، وكان غادمير قد أشار إلى أنّ أوروبا قد أصبحت “ريف” نفسها منذ الحرب العالمية الأولى، أي أنّها فقدت المركزية الأخلاقية للإنسانية التي ادّعتها بقوة منذ القرن الثامن عشر. لكن ذلك يتطلّب أكثر من خطابات الضغينة، أكانت منهجية في شكل كتب مصنّفة بشكل أنيق أو عاميّة في شكل أعمال عنيفة.

  • كيف يمكننا، بهذا المعنى، أن نترجم تراثنا أيضا ونقحمه داخل الزمن المعاصر؟

“نحن” يمكننا أن نتحرّر من “قبضة الديني” ولكن ليس بتكرار سردية “العلمنة” المسيحية، حتى وإن اختزلناها في مجرد ادّعاء قانوني هو “الفصل بين الدين والدولة”، بل باختراع طريقتنا في التحرّر من مصادر أنفسنا. وهذا سوف يتطلّب شرطا آخر “غير” تملّك قيم الحداثة أو تنظيم معاداة منهجية لأصالتها. إنّ “الغيرية” التي نبحث عنها هي شيء مختلف تماما عن مجرد “النقد الأخلاقي” للحداثة، والذي هو موقف بلا أيّ قيمة كونية، بل هو مجرّد استهلاك منهجي محلّي للضّغينة الدينية. علينا أن نتساءل: لماذا تبدو كل تشخيصاتنا للأزمة الأخلاقية التي تخيّم علينا راجعة إلى أنّ “الدين” قد عاد إلى الخدمة عبر موجات مرعبة من “تديّن” الشباب “تديّنا أداتيّا” متوحّشا؟

إنّ الصعوبة هنا هي أنّ “العلوم الحديثة” قد أدّت إلى تكوّن نمط مجتمعيّ كوكبيّ فرض قيمه على كافة سكّان الأرض بواسطة تكنولوجيا الأشياء اليوميّة، ومن يشكّك في واقعة كوكبيّة قاهرة هو يريد أن يعود إلى الكهوف الروحية لعصور أخرى. لكنّ هذا يعني أنّ الدين اليوم وجهة نظر حول العالم وحول الإنسان وحول الإله لم تعد ممكنة إلاّ سرديّا فقط، ومن ثمّ كل استعمال لها هو توظيف سياسي. إنّ العلاقة الحية الوحيدة بالدين هي الإيمان، ما عدا ذلك هو “لاهوت سياسي”. ومن ثمّ فمن الخطأ التسليم بأنّ شكل حياتنا اليوم هو في “قبضة الديني” أو أنّ الدين من حقه أن يؤلّف وجهة نظر حول الحداثة أو أنّ الدين هو أيضا “براديغم لحقوق الإنسان”. هذه كلّها ادّعاءات سردية بلا صلاحية “واقعية”. إنّ “الواقع” يقول شيئا آخر: إنّ العلم هو وجهة نظر الإنسانية الحالية وتوقيعها الميتافيزيقي الجديد حول الكون وحول البشر وحول الإيمان. وهي وجهة النظر الوحيدة التي يتنافس عليها المتنافسون في كل حقول الابتكار التكنولوجي والبحث العلمي. لقد انتصر النموذج العلمي، وما عدا ذلك هو مجرد “نقد” أخلاقي بلا موضوع، وليس له من فائدة سوى الاستعمال “العلاجي” للنفوس التي تعاني من صعوبات الاندماج في آداب المستقبل.

  • ومتى سيكون بوسعنا الاندماج في مستقبل الإنسانية؟

حين ندرك أنّ “أفق الحداثة” لدينا ليس ما يقوله الغربيون، حتى ولو كانوا فلاسفة، بل ما سنفعله بأنفسنا، وما سيبتكره شعراؤنا وروائيّونا ومفكّرونا، من معاجم جديدة وطرق وصف جديدة لأنفسنا وأشكال حياتنا الجديدة. عندئذ فقط يمكننا أن ندّعي أنّنا مجتمعات “نجحت” في تجديد نفسها من الداخل، وتوقّفت عن ترديد أناشيد “الانتصار” الهووي على “عدوّ” ثقافي مازلنا نستعير منه مفاهيم عقولنا ونعاديه بأخطائنا.

وعلى كل، فإنّ أفق الحداثة قد أخذ يتزحزح نحو شعوب “غير غربية” كثيرة. لقد أفلتت “ماهية التقنية” من أيدي الغربيين، وصار الآسيويّ اليوم قادرا على تطوير عصر تكنولوجي خاص به ينافس عصر الغربيين. وهكذا صارت مهمّتنا واضحة: علينا أن نكفّ عن جلد الذات بشكل علماني كما علينا أن نكفّ عن نقد الحداثة بشكل أخلاقي أو ديني: ما علينا هو شيء آخر. أن نبتكر أنفسنا من جديد، وهو ما يتطلّب ليس فقط أن نمارس موقفا “دي-كولونياليا” من إرادة أو رغبة الغرب، بل أن نغيّر شطرا غير يسير من علاقتنا بمصادر أنفسنا.

بعد فشل الاستقلال السياسي ورعب عودة الديني، جاء دور التمرّد الأخلاقي: إنّ الأجيال الجديدة قد مرّت رأسا إلى إعادة ابتكار آداب الجسد الخاص وأنواع الجندر والميول الجنسية ونماذج العيش على نحو زعزع كل صلاحيات الخطاب السياسي لدول الاستقلال وكل ضجيج الهوية الدينية أو الطائفية لدعاة الأمة، وقذف بالمفكّرين في حلبة من الأسئلة غير المسبوقة والمزعجة حوّلت الكثير منهم إلى مثقّفين “إشاعة”: أي مثقّفين بلا مهمّة، يقتاتون كتاباتهم من أخبار شباب “حيوي”، متمرّد ومتحرّر وشرس، هو لئن كان لا يملك “نظريات” لكنّه يمتاز “بمشاكل” جديدة ربما لا نملك بعد المفاهيم المناسبة للتفكير فيها.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *