فتحي المسكيني لمرايانا: حكم المؤمنين بوصفهم “رعايا” لم يعد ممكنا، ولا يكفي أن يصبح الفرد “ملحدا” كي يُصبح “حرّا”…3/4 - Marayana - مرايانا
×
×

فتحي المسكيني لمرايانا: حكم المؤمنين بوصفهم “رعايا” لم يعد ممكنا، ولا يكفي أن يصبح الفرد “ملحدا” كي يُصبح “حرّا”…3/4

تابعنا في الجزأين الأول والثاني من هذا الحوار مع الفيلسوف والمفكر التونسي فتحي المسكيني، ما حلّ بالفلسفة العربية ومدى ضلوع الغزالي في تراجع فعل التفلسف في تراثنا، وكذلك رأيه في التصوف كشكل للإيمان الحر، الذي أسس لنوع من الخلاص الفردي داخل جهاز الملّة.

في هذا الجزء الثالث، نتعمق معه في نهاية دولة الملّة وبداية المدنية، منذ ابن خلدون، وكذلك رأيه الذي ينفرد به في المنطقة عن الإلحاد، ورأيه أيضا… في ما يسمى “التطرف العلماني”.

  • تعتبرُ أنّ دولة الإسلام الكلاسيكية، أي دولة الملّة، قد جرى التأريخ لنهايتها التاريخية من طرف ابن خلدون في كتابه المقدمة. لذلك، فكل حديث عن الملة بعد ابن خلدون هو في الحقيقة حديث عمّا بعد الملة… فهل تعني “ما بعد الملة” بداية المواطنة التي تطبع مفهوم المدنية؟

“ما بعد الملة” ليس اختيارا بل هو واقعة تاريخية، وعلينا التعامل معها بوصفها معادلا سرديّا للأزمنة الحديثة بالنسبة إلى الغربيين. لكنّ ذلك لا يعني الانخراط في عداوة أخلاقية أو سياسية ضدّ الدين أو “الأمة” التي ننتمي إليها. الملة شكل سياسي بحت ومشكل سياسي بحت وليست هي الدين إلاّ من حيث التّجسيد الجماعوي. الدين هو لحظة تحوّل إيمان الوحي إلى أداة شرعنة لشكل من الحكم، وذلك هو الملة. وهكذا، فإنّ التفكير في حقبة تقع تاريخيّا “ما بعد الملة” هو ليس تعطيلا لإيمان الوحي بل فقط تغيير للعلاقة “السياسية” معه: لم يعد يمكن حكم المؤمنين بوصفهم “رعايا”، فقد تغيّرت طريقة ابتكار الناس لأنفسهم، وصاروا “أفرادا”، ولم يعودوا مجرّد “جماعة” من المكلّفين.

وهنا نذكّر بأنّ التصوّف كان قد قطع شوطا رمزيّا باتّجاه هذا التغيير حين تجرّأ على اختراع شكل “فردي” من الإيمان وابتكر له شكلا من الذات الحرة من قيود الملة بوصفها بناءً سياسيّا من نحت الفقهاء. كان التصوّف نوعا فذّا من التألّه الحرّ بشكل شخصي. ولا نظنّ أنّ ما سيفعله “لوثر” في فجر الأزمنة الحديثة تحت مسمّى “حرية الضّمير” أو “الإيمان الشّخصي” يختلف في ماهيته عن تجارب ابتكار الذات التي خاضها المتصوّفة من الحلاّج إلى ابن عربي. لكنّ فرديّة المتصوّف، لئن كانت خطوة وجودية عملاقة نحو الفرد الحديث، فإنّ تنشيطها اليوم بشكل آلي لن يكون كافيا. وهنا تظهر ضرورة “المواطنة” بالنسبة إلى “المؤمن الأخير” أي مؤمن عصور ما بعد الملة التي بدأت: فإنّه لم يعد يمكن حكم المؤمنين إلاّ بوصفهم “مواطنين” أي مشاركين أصليين في “الوطن”، أي في طرح مشكلة إنصاف حقوق الناس ومعالجتها.

  • وهل هذا يعيدنا إلى المعنى العميق للمواطنة والعيش في فضاء عام واحد رغم الاختلاف، كما تصوره هابرماس؟

نعم، لأن ما يبقى والحال هذه هو مجرّد اجتهاد من أجل اختراع الصيغ المناسبة لتأمين الانتقال “الديمقراطي” من المؤمن إلى المواطن. ويبدو لي أنّ هابرماس، فعلاً، قد اقترح طريقة طريفة يسمّيها “ألسنة المقدّس” أي ترجمة “المقدّس” في فعل لساني تواصلي “يذيب” العنف التأويلي المرافق له في قنوات “تداولية” حيث ينجح “المؤمنون-المواطنون” و”المواطنون-غير المؤمنين” في تحقيق أشكال “الفعل الاجتماعي الموجّه نحو التفاهم” والتخلّص من نمط الأفعال القائمة على “الإكراه”. وبما أنّ الدين قد تأسّس منذ أوّل أمره على “الخطاب”، والوحي هو في ماهيته العميقة “لغة” ونظام “خطاب” وليس شيئا آخر، فإنّ الدين ليس غريبا عن آلية “ألسنة المقدّس” التي اقترحها هابرماس بل هو قد مارسها من قبل، ولكن بمنطق “الملة” العمودي القائمة على “الوصاية” و”الرعاية” وليس بالمنطق الأفقي للدولة الديمقراطية القائم على “الفعل التواصلي” و”التفاهم”.

وهكذا، في الواقع، لا يوجد “اختلاف” أنطولوجي بين المواطنين، بل فقط اختلاف “لغوي” في الخطابات، وهو أمر ليس من المستحيل أن “يذوب” أثناء “النقاش”. بذلك، تتحوّل “المواطنة” ما بعد الدينية، أي أن المؤمن لم يعد رعية، ولكن أيضا ما بعد العلمانية، أي أن “غير المؤمن” هو أيضا مواطن أو أنّ المواطن ليس بالضرورة غير مؤمن، إلى مجرد تمارين في “الترجمة”: ترجمة القيم الروحية إلى مفاهيم علمانية، بالنسبة إلى المواطنين-المؤمنين، ولكن أيضا في المقابل، ترجمة المفاهيم القانونية إلى قيم أخلاقية، بالنسبة إلى الموطنين-غير المؤمنين. “علمنة” القيم الروحية هي السبيل المناسب للمؤمن-المواطن؛ نعني أن يحافظ على المحتوى الروحي لشكل حياته ولكن في شكل سلوك “مواطني” لا يهدم الفضاء العمومي، ولا يحوّل “الحيالة الخاصة” إلى أداة قتال. كذلك فإنّ “خلقنة” المعايير القانونية هو السبيل المناسب للمواطن-غير المؤمن؛ نعني أن يلتزم باحترام المواطنين-المؤمنين بوصفهم شركاءه في المواطنة وليسوا غرباء عن الفضاء العمومي. ولكن كل هذا يبقى رهين استعداد كل من الفريقين للقبول بالعيش معاً، أي أنّه مشكل “إرادة” وليس مشكل “اختلاف”.

  • لنتعمق قليلاً في الإلحاد، وأستحضر قولك بأنّه “لا يوجدُ ملحد إلاّ في ثقافة دينية، أي أنّ شخصاً يدّعي أنه ذو تفكير علمي أو عقلاني أو ما شاء، لا يستطيع أن يكون ملحداً، لأنّ الإلحاد هو قيمة لاهوتية تأتي في نطاق جدل بين مؤمنين مختلفين، أحدهم يجدف على آلهة الآخر، فيصبحُ ملحداً”. هناك من قد يقول إن فتحي المسكيني ينكرُ وجود ظاهرة الإلحاد التي تترجم رغبة تحررية لدى الشباب للانفلات من سُلطة الملّة؟

يبدو لي أنّ الأمر يتعلق بمشكلة “مفردات” أو “مفاهيم”: من أراد أن يتمرّد على “سلطة الملة” عليه أن يعثر على معجمه الخاص قبل أن يستلف من مفردات الملة ما به يعترض عليها. من الصعب ادّعاء التغلّب على خصم نستعير منه مقولات تفكيرنا ضدّه. وهذا ينطبق على مقولة “الإلحاد”: فهي مفردة من اختراع الملة ومن السخف ادّعاء الانفلات من سلطتها ونحن نواصل التفكير بمقولاتها. لذلك، علينا أن نميّز بين مستويين من الصعوبة: مستوى أوّل يتعلق باستعمال المفاهيم المناسبة. وماذا يمكنها أن تعني مفردة “الإلحاد” بالنسبة إلينا في أفق “ما بعد الملة”؛ ومستوى ثان يخصّ الرغبة في الإفلات من سلطة الملة.

من أراد أن “يدحض” منطق الملة يمكنه أن “يلحد” ولكن مع العلم بأنّه يواصل منطق الملة بطرق أخرى، ولا يخرج من أفقها وبالتالي من سلطتها أبدا. أمّا مستوى الرغبة في الإفلات من سلطة الملة فهذا ليس بالضرورة موقفا “دينيّا” وبالتالي سيكون من الخطأ أو الظلم تصنيفه في خانة “الإلحاد”: إنّ موقف الخروج من أفق الدين بعامة، واعتناق نمط آخر من التفكير هو شيء سمّاه الأوروبيون منذ القرن الثامن عشر باسم “التنوير”. لكنّ التنوير ظاهرة أوروبية ومن السخف أن نتبنّاها معزولة عن تاريخها الميتافيزيقي السرّي: التنوير تنصيب لنور “العقل الطبيعي” بوصفه المرجع الوحيد للبشر ليس فقط في “معرفة” الطبيعة أو العالم من حولهم، بل أيضا في تقدير معنى الكينونة في العالم بوصفها تخصّ جنسا من الكائنات التي تتميّز بالسؤال عن معنى كينونتها بأنفسها.

ليس التنوير مجرّد موقف قد يُقدم عليه شخص دون آخر بل تاريخ طويل من التحوّلات تمتدّ من ديكارت أو الاكتشاف الميتافيزيقي للإنسان بوصفه المصدر الوحيد لحقيقة ما يعرفه حول نفسه أو حول الطبيعة أو حول الإله، إلى كانط، حين جرى تحويل المفاهيم الدينية التقليدية إلى مجرّد “مصادرات” قبلية في طبيعة العقل البشري بحيث تمّ امتصاص قوة التعالي التي كانت تشير إليها في داخل الذات الترنسندنتالية التي لا ترى في الله أو النفس أو العالم غير “أفكار” محضة ثاوية في طبيعتها ولا تستقيها من أيّ جهة خارج أفق البشر. فهل أنّ “الشباب” الذين يريدون الإفلات من سلطة الملّة قد خاضوا مثل هذه المعارك الرمزية مع مصادر أنفسهم؟

لا يكفي أن تصبح “ملحدا” كي تصبح “حرّا”. وربما العكس هو الصحيح: الملحد يواصل معجم الملة ويكرّسه على خلاف ما يدّعيه. وذلك أنّ “الحرية” لا تحتاج إلى ملحدين، بل فقط إلى أرواح حرّة، أي مندفعة نحو إعادة اختراع نفسها بما تملكه من شروط الحياة. عندئذ فقط يمكن أن نجبر مصادر أنفسنا على أن تتغيّر. إنّ ما نحتاج إليه ليس الشتيمة المناسبة ضدّ مصادر أنفسنا، أو ضدّ الحداثة، بل أن نتجرّأ على تغيير أوليات العقل في أفق ثقافتنا ومجتمعاتنا: إنّ “مصالح العقل” تحتاج من حقبة إلى أخرى إلى “تغيير الموضوع” أو تغيير الاتجاه، ولكن دون حاجة إلى جلد أنفسنا القديمة، التي باتت بمثابة “أمانة” أخلاقيّة أكثر منها “مصادر للتّشريع” حول ما أو من يجب أن نصير عليه في المستقبل.

  • لكنّ، ضمن جماعات “الملحدين” يوجد من يتبنى خطابا هجوميّا من شأنه جرح مشاعر المؤمنين، وهو ما يرفضه الإيمان الحرّ بصرامة. هذا “التعصب” وهذا “الهجوم” على الثروة الرّوحية للمؤمنين بات يصطلح عليه بـ”التطرّف العلماني”… كيف يقرأ فتحي المسكيني هذا “التطرف”، الذي لا يتمّ الإفصاح عنه، في العادة، بشكل صحيّ؟

هذا يؤكّد أنّ ما يسمّى اليوم “إلحادا” هو مواصلة لخصومات لاهوتية قديمة، وليس تفكيرا حقيقيّا، أي مبدعا لأشكال جديدة من أنفسنا. وكلّ من يفهم الإلحاد بوصفه “هجوما” على المؤمنين المطمئنّين إلى شكل حياتهم وطريقتهم في تدبير أنفسهم، فقط من أجل “جرح مشاعرهم” سبهلُلاً، هو يواصل العصور الوسطى، ولا علاقة له بروح “الحداثة” كما يتصوّرها فيلسوف مثل كانط، أي روح الاستقلال الأخلاقي الحرّ الذي ينوّر العقول ولا يحتلّها أو يبخّس ثروتها الروحية. بيد أنّه علينا أن نميّز بين “الإلحاد” اللاّراهن أو الخارج عن العصر، وبين “التعصّب العلماني” الذي يشير إلى ظاهرة “حديثة”، هي الوجه العنيف من التنوير: نعم، يمكن أن يكون التنوير عنيفا، أي استعمالا أداتيّا للعقلانية “يشيّء” المؤمنين ويعاملهم كأنّهم كائنات “ظلاميّة” و”متخلّفة عن عصرها” وعليها أن تنقرض. لكنّ هذا ليس الوجه الوحيد للحداثة بل لها وجوه شتّى ومتنوعة.

وهذا النوع العنيف من “العلمنة”، ومهما بلغ من التعصّب لنفسه، هو تاريخيّا مجرّد امتداد للقيم المسيحية، فهو “علمنة” لقيم دينية، وليس أكثر من ذلك. بل الحداثة كلّها هي مجرّد علمنة للقيم المسيحية، وإنْ كانت قد ثابرت بحرص محموم على ترجمة تلك العلمنة في مصطلح يوناني يوهم الذات الحديثة بأنّها وريثة شرعية للعقل اليوناني، ولا علاقة لها بالتراث المسيحي، وهذه مغالطة تاريخيّة ومنهجيّة. من ديكارت إلى هيغل، لم يفعل “الفيلسوف الحديث” سوى الاستيلاء المنهجي على الثّروة الرّوحية للتراث المسيحي، ومن ورائه التراث التوحيدي، وترجمتها في مفاهيم يونانية أو منسوجة على طريقة اللغة الفلسفية التي نحتها اليونان. ثمّة إذن “لاهوت سياسي” متردّم تحت جهاز المفاهيم الذي اقترحته الحداثة الليبرالية وفلسفة الذات التي عبّرت بها عن روحها الجديدة. وهذا يعني أنّ “التعصّب العلماني” لا يعرف حقّا عدوّه: كل خصومة العلمانية والدين هي خصومة مزيّفة، لأنّها تتمّ داخل نفس الأفق الأخلاقي، أي الدين المسيحي سواء في صيغته الكنسية أو في ترجمته الحديثة.

  • وماذا يعني هذا الأمر بالضرورة؟

يعني، ببساطة، أنّ الغرب ليس جاهزا حقّا للتّفكير على نحو “مغاير” لمصادر نفسه، بل هو ما فتئ يخترع “مفردات” جديدة قادرة في كل مرة على إعادة وصف ذاته بشكل حر أو جديد، ولكن، دون خروج حقيقي عن أفق الدّين المسيحي. وإذا نجحنا في إعادة العلمانيّة إلى جذورها المسيحيّة فإنّ هذا سوف يقلّص بشكل كبير من جدّية التقابل التنويري السائد بين “العصر العلماني” أي الحداثة، و”العصر الديني” أي “القرون الوسطى”، وهذا التحقيب الأخير هو نفسه خدعة منهجية ابتدعها المؤرخون، وبالتالي هو لا ينطبق على المسلمين. ومن حيث أنّ الإلحاد والعلمانية لهما نفس الجذور اللاهوتية، فإنّه لا معنى للمفاضلة بين التعصّبين: هما من أرومة واحدة. وهي الضغينة على الأرواح الحرة، ولا فرق إن كانت تتّخذ الآلهة أو الأنبياء قدوة للتحرّر أو تأخذ الفلاسفة والعلماء نموذجا للانعتاق.

إنّ أخطر ما في هذه الخصومة المزيّفة هو إهمال الأفق المناسب لطرح الأسئلة: أسئلة العقل في عصر أو ثقافة ما. إنّ “مصالح العقل” واضحة لكنّ الصراعات اللاهوتية تطمسها، وهي صراعات يمكن أن يخوضها الناس باسم أيّ نوع من الرغبات والمعتقدات، أكانت دينية أو علمانية. وتتميّز هذه الصراعات بكونها تصدر عن أناس لازالوا يعتمدون على دور سياسي خطير ومرعب لمفهوم “الحقيقة”. الحقيقة جهاز مرعب للحكم على الآخرين وتبخيسهم أو إبادتهم. ولا فرق أن يتمّ ذلك باسم الدين أو العلم. كلّ تعصّب، سواء كان دينيا أو علمانيا، هو قبيح. لكنّه يصدر في كل مرة عن تمسّك مرضي بمفهوم “الحقيقة”. إنّ تحرير الناس من الحقيقة هو مهمّة لم تُطرح بعد بشكل مناسب أو كاف. وعليه، كلّ من يدّعي أنّه يمتلك مدخلا مفضّلا إلى خطاب الحقيقة هو يخفي تحت ادّعائه خطرا عموميا ما يلبث أن يطلّ برأسه. طبعا، لا يعني ذلك أن يتعلّم الناس حكمة الجهل مرة أخرى. لكنّ الجهل ليس مفهوما قديما إلى هذا الحدّ: لقد أخذ أشكالا أخرى أكثر رعبا.

في الجزء الرابع والأخير، نتابع مع فتحي المسكيني التمييز الذي وضعه بين الفتنة والإرهاب، وكذلك أفق الحداثة في سياقنا التداوليّ.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

  1. ابراهيم بن جبريل

    الاستاذ فتحي المسكيني يكتب بعمق و اقناع
    مقالاته جديرة بكل المتابعة و الاهتمام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *