الثورة البابكية: هكذا أضعفت الخلافة العباسية! 3 - Marayana - مرايانا
×
×

الثورة البابكية: هكذا أضعفت الخلافة العباسية! 3\3

رأينا في الجزء الأول كيف ارتبطت البابكية بالخرمية وبعض أسباب ظهور الانتفاضة، ثمّ رصدنا في الجزء الثاني بعض مشاهد الأنسنة لدى البابكيين من قبيل احترام النساء والتسامح مع حرية المعتقد.
في هذا الجزء، الثالث والأخير، نقدّم، بإيجاز، المواجهات العسكرية بين البابكيين وجيوش الخلافة، وكيف أدت هذه الحروب إلى زوال هيبة العباسيين عموماً.

نودّ بالضرورة تقديم معلومة هامّة يوردها المستشرق بندلي جوزي، وينقلها عن أحمد بن يعقوب؛ مفادها أن عمال الخليفة الكبار في أذربيجان، هم الذين أوعزوا إلى بابك بالخروج على سلطانهم، واعدين إياه بالدّعم.

كان من بين المحرّضين حاتم بن هرثمة زعيم تلك العائلة الكبيرة، حيث كان واليا للخَليفة على أرمينيا وأذربيجان، ثأراً لوالده هرثمة الذي اغتاله المأمون.

عشرين سنة… من الثورة

هناك إجماعٌ على أنّه، في الفترة الممتدّة بين 201 و218 هـ، كان النّصرُ حليفاً للبابكيين وكانت ثورتهم تهزّ كيان الخلافة. خلال هذه الفترة، حدثت معارك كثيرة بين الجيشين، فتعرّضت قوى الخلافة العباسية للإنهاك طيلة عشرين عاماً من الثورة والانتفاضة والحرب.

في البدء، ساعد البابكيين على حسم المعارك، درايتهم بحروب الجبال، وتحصنهم في المناطق المنيعة، وانهماك الجيش العباسي الضعيف في قمع انتفاضات فلاحي مصر والزّط في العراق وخرّمية إيران، وانشغاله في حروب الروم، الذين ساعدوا بالمقابل البابكيين من ناحية أخرى.

كان هذا الوضعُ في عهد الخليفة المأمون، فلمّا جاء المعتصم، وقد أخمدت الانتفاضات وأهمل شأن الجبهة البيزنطية، تیسر للجيش العباسي، الذي تعزز بعناصر كفؤة متدرّبة على قتال الجبال، وأسندت القيادة إلى قائد محنّك. وضع تحت تصرف هذا القائد ما يبتغي من الأموال والرجال. كان اسمه الأفشين وكان تركيّ الأصل.

لمحاصرة البابكيين، تم بناء الحصون والقلاع وترميمها من قبل قادة سبقوا الأفشين بسنوات، لكنّه استفاد منها.

استطاعت جيوش الخلافة هزيمة خرّمية الجبال في معركة همزان عام 218هـ، وتمّ عزلهم عن ثوار أذربيجان، وتمّت، وفق بعض المصادر، في الوقت نفسه خيانة الإقطاعيين المحليين للثورة البابكية، وعزوف الروم عن مساعدة الثورة فهم كانوا يريدونها فقط وسيلة لإضعاف العباسيين. [1]

كما تمكّن الجيش بقيادة الأفشين، ومعه قادة ذووا مهارة وخبرة عسكرية، في حروبه اللاحقة ضد البابكيين بين 220 و222هـ، أن يحقق انتصارات مفصليّة، ويقلل من رقعة الأرض التي تحتلّها الانتفاضة تدريجيا، حتى تیسّر للقائد في النهاية تطويق البذ، قلعة البابكيين الحصينة ومركزهم المنيع، وفتحها.[2]

تمّ ذلك عقب تشدید طوق الحصار العسكري والاقتصادي على البابكيين، وحماية الطرق تأمينا لسلامة القوافل والتّموين، والزحف بالجيش كله رويداً رويداً، والتّحصن في المواقع الجديدة بحفر الخنادق وبناء الحصون. تمكنت الجيوش من الهجوم على قلعة البذ، مقر قيادة البابكيين كما ورد عند الطبري، الذين استبسلوا في الدفاع عنها. [3]

سقطت البذّ في أيدي جيش الخلافة، وكان قد بقي في المدينة ستمائة رجل صمموا على الثبات والمقاومة، فأحرقوا وأهيلت عليهم الدور وقتلوا عن آخرهم. [4]

تمّ إخراج من كان بالبذ من أسرى المسلمين، فكانوا سبعة آلاف وستمائة، كما ذكر اليعقوبي، وأسر بعض من عثر عليه من عائلة بابك. بينما لاذ الأخير بالفرار والتجأ إلى أرمينيا، قبل أن يتمّ تسليمه للخلافة، غدراً، من لدن أمير أرمينيّ إقطاعي، قيل إنّه سهل بن سنباط، الذي كان حليفاً سابقاً لبابك في غضون العشرين سنة من الانتفاضة.

أمر الخليفة، كما ورد عند الطبري، بقطع يده ورجليه ثم بذبحه وشق بطنه وصلب بدنه في سامراء، وبعث رأسه إلى خراسان، وأمر بحمل أخيه إلى بغداد حيث ضرب عنقه، وصلب في الرصافة عند رأس الجسر.

هيبة الخلافة… على المحكّ

فازت الخلافة في معاركها ضد البابكية. لكنّ طول أمد الثورة، والهزائم التي أذاقتها للجيوش العباسية، أدّت إلى اندحار هيبة الخلافة العباسية في ذلك الزمان.

بالطّبع، كان للخلافة، قبل الانتفاضة، سمعتها وقدسيتها وهيبتها لدى الشعوب، وكان اسم الخليفة يتردد بهيبة وخشوع؛ ولئن تعرضت الخلافة العباسية إلى انتفاضات وتمرّدات وحروب واسعة، إلا أن سمعة الخلافة وجلال السلطان ظلا مرتفعين، حسب ما يراه لفيفٌ من الباحثين.

لقد استطاعت الخلافة أن تُبقي على أمن مؤسستها سياسياً ودينيًّا، وبالتالي الحفاظ على سلامة الدّولة من الوهن، رغم الاحتجاجات التي ظهرت قبل البابكيين. لكنّ أسهمها لم تتراجع رمزياً إلا في غضون، وعقب، الانتفاضة البابكية.

لقد انهارت صورة القوّة الخارقة للخلافة، وارتعش جلال السلطان، وسقطت هيبة العباسيين من عليائها من جراء تخاذلها وعجزها عن كسب المعارك مع المنتفضين رغم توفر الإمكانيات الواسعة لديها. [5]

أدّى إخفاق الخلافة، وعدم قدرتها على حسم المعارك في البداية ولا إحراز أي نصر، إلى خلق انطباعٍ سيئٍ لدى الشعوب، نجم عنه استصغار شأن الخلافة وعدم المبالاة بسلطانها وسطوتها.

يُحكى أنّ أحد الحضور، في جمع الخليفة، تجرأ على أن “يقف في بلاط المأمون وأمام علماء المسلمين ليتطاول على أقدس ما يعتز به المسلمون، وكانت حججه الدامغة انتصارات بابك نفسها وعجز جيوش المسلمين عن الوقوف أمامه”.

يقول هذا الشّخص مخاطباً الخليفة، وفق ما تناقلته كتب التاريخ: لو كان الله مع المسلمين والمسلمون على حقّ… فلماذا ينصر الله بابك الكافر؟[6]

كانت البابكية، حقًّا، داءً في جسد الخلافة ولم تجد له أي دواء. لدرجة أبلغ المأمون أخاه المعتصم بأن يبذل قصارى جهوده لإعادة هيبة الخلافة، وسيتأتى ذلك بالضرورة عبر استئصال شأفة البابكية الخرّمية.

الحقّ أنّ المعتصم لم يكن بحاجة إلى من يوصیه بخطر الانتفاضة البابكية وتأثيرها البليغ على هيبة الخلافة وما تسببه من تنامي فرص التخلص من نفوذ السلطة المركزية لدى الأطراف، وأن استقلال الإمارات الوراثية دليل على فقدان الخلافة لهيبتها وسلطانها. [7]

بذلك، فكر المعتصم بكل شيء، واستخدم جل طاقاته للقضاء على الانتفاضة، ولم يبخل لا بالمال ولا بالعتاد العسكري ولا بأي شيء آخر.

يقول الذهبي: لقد أنفق المعتصم بيوت الأموال في حرب هذا (يقصد بابك).

لقد سعى بكلّ ما أوتي لكي يسترجع الصورة المعيارية لمؤسسة الخليفة. رغم أنه، وإن حقق النصر على بابك، لم يستطع أن يعيد للخلافة رونقها وصيتها وجلالها، وبذلك قامت ثورات الزنج والقرامطة وغيرها من الثورات الاجتماعية التي هزّت كيان الخلافة من جديد.

لكن المسمار الأخير في نعش مؤسسة الخلافة، والذي قتلها معنويا، هو هيمنة الأتراك على الحكم، وخصوصاً القواد العسكريون الأتراك، الذين استخدمهم للقضاء على الانتفاضة.

لقد أجهز هؤلاء على ما تبقى من “هيبة مهلهلة متداعية، فكان تسلطهم على الخلفاء الضربة القاضية التي سددت إلى سمعة الخلافة المتدنية. ولئن تيسر للخلافة بعدئذ الفرصة لأن تتظاهر بالوقوف على قدميها، ولو على وهن، فإنها دون شك لم تعد ذلك الجبار المارد المهيب ذائع الصيت، وإنما أصبحت كيانا هزيلا واهياً، معتمدةً على ما لها من سابق عز ومجد، فلهذا لم يبق للخلافة بعد خروجها من الانتفاضة البابكية وما رافقها من إرهاصات، لم يبق لها رونقها وصيتها المجلجل المدوي”. [8]

في النهاية، يمكنُ أن نستشفّ أنّ البابكية، بالقطع، كانت من أسوأ الثورات التي اندلعت في التراث الإسلامي. ورغم أنّ مؤرخي السلطة أبلوا بلاءً حسنة في النيل منهذه الانتفاضة الأذربيجانية وتشويهها، فإن ذلك لم يدعُ الباحثين إلى السير على ذات المنوال.

لقد حسم المؤرخون المعاصرون مع آراء المؤرخين الذين استُخدِموا كوقود لإشعال نار التنكيل بكلّ فرقة جماهيرية معارضة للرأي الرسمي السائد، وما حصل مع الخوارج والقرامطة والزنوج، حصل بالضّرورة مع البابكية الخرّمية.

لكن… لا يدعو هذا الغلو إلى الغرابة، خصوصاً حين نتوصل إلى حقيقة تاريخية مفادها أنّ البابكية “مرّغت” أنف الخلافة في التراب، وأنزلت بالخلافة خسائر جسيمة بالأرواح والأموال، وهددت المصالح الشّخصية للطبقة الأرستقراطية… في ذلك العصر!

هوامش:

[1]كشك حسنين،النزعة الإنسانية: دراسات في النزعة الإنسانية في الفكر العربي الوسيط، مؤلف جماعي، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الطبعة الثانية.

[2] المرجع نفسه.

[3] نفسه.

[4] نفسه.

[5]قاسم العزيز حسن، البابكية، الانتفاضة ضد الخلافة العباسية، دار المدى للثقافة والنّشر، الطبعة الأولى، 2000.

[6]المرجع نفسه.

[7] نفسه.

[8] نفسه.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *