الثّورة البابِكية الخرّمية: حين ثار الفلاحون على إقطاعية الخِلافة العباسية! 1\3
بدأ كابوس البابكية حين بدأ الإقطاع في دولة الخلافة يسيرُ بوتائر أسرع، خصوصاً قُبيل انتهاء الفترة الأولى من الحكم العباسي، بعد التلكؤ الذي أصاب سیره؛ فأخذت تتوضح أكثر شروط التملك الإقطاعي للأرض، بموازاة مع تأكد هشاشة السّلطة المركزية ونشوء الإمارات شِبه المُستقلّة.
حين تغدو القيود الإقطاعية في ازدياد مُهول، تصبح حالة الفلاحين مثقلة بالفقر والشّكوى و… الرغبة في النهوض والانتفاضة.
بهذا المنطق، انبرى الفلاحون حينها للدّخول في غمار ثورة بابك الخرّمي، تحت أهداف تنحصر في أخذ الأراضي الواسعة من الإقطاعيين وتوزيعها على مجموعات فلاحية تزرعها مشاعة.
بعض المصادر التي اهتمت بالموضوع، تذهب إلى أن البابكية، لم تقف هنا، بل ذهبت إلى حدّ الانشغال بمسألة التحرر من دفع الضرائب وفي المُساواة العامّة بين النّاس، أي أنهم كانوا يسعون للتخلص من التبعية الإقطاعية والتسلط الحكومي للخلافة. تمّ ذلك بعد أن صار الاستِغلال الاقطاعي والجور الحكومي من الثقل إلى درجة يتعذر السّكوت عنها. [1]
البابكية في جبّة الخرّمية!
اندلعت الثورة البابكية في أذربيجان وشمال غربي إيران وأرمينيا الشرقية، بسبب ما كان يعانيه الفلاحون والفلاحون الأقنان وعامة المدن والعبيد (الذين شاركوا في هذه الثورة) من استغلال وقسوة واضطهاد. وكان الفلاحون هم القوام الرئيسي لهذه الحركة الاجتماعية. [2]
ذكر الطبري والمسعودي والبلاذري، أن غالبية سكان مناطق أذربيجان وأرمينيا والجبال التي عمتها الثورة، هم من الفلاحين الذين كانوا يتذمرون من الظلم والتعسف، ومن الأمراض الوبائية والمجاعات التي كانت تفتك بالعديد منهم، ومن إلحاق الأراضي الواسعة الخصيبة بأملاك الخلفاء وذويهم خلال القرن الثالث الهجري.[3]
شارك في الحركة ثوّار من مذاهب وقوميّات مُختلفة: مسلمون وذميون من عرب وإيرانيين وأذربيجان وديالمة وأرمن وأكراد، إلخ، بالرغم مما قيل عن أسبابها المذهبية أو العنصرية.[4]
تذهبُ الدّراسات المادّية للتراث إلى اعتبار البابكية تفتّقاً موضوعياً لا يعكس أي انفجار عنصريّ أو ديني. يتمّ تقديمها كثورة مسلحة للتخلص من الشروط “الظالمة” السائدة زمنئذ. لذلك، وقف الإسماعيلية من الشيعة إلى جانبها وزوّدوها بالمال والنّصيحة والرّجال.
بيد أنّ الواضح أن فصائل الخرّمية برزت بنشاط باهتٍ في أواخر العهد الأموي. لكن هذا النشاط تقوّى ونضجت فعاليته في العصر العباسي الأول، بسبب تخلي العباسيين عن وعودهم في تحسين أحوال البلاد الاقتصادية، ولتطبيقهم أساليب جائرة قاسية في الاستغلال والتّسلط، فأصبحت تعاليم الخرّمية بمثابة الغطاء الأيديولوجي للثورات الشعبية، وعلى رأسها البابكية.
حدث اختلاف في أصل تسمية الخرمية: ثمّة من يعدّ أصلها آتٍ من اسم زوجة مزدك خورامه ابنة فاده، وقد وردت هذه الرواية لدى الوزير نظام الملك.[5]
أمّا ابن الجوزي، فيعتبر كلمة خرم لفظا أعجميا، يحيل على الشيء المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان له، وأنّ الخرمية لا تعدو كونها لقباً للمزدكية التي كانت في العهد السّاساني. من ناحية أخرى، يعتقد ابن خلدون أن خرم معناه فرح، وأن البابكية والخرّمية كانوا يعتقدون مذاهب المجوس.[6]
هناك ردود على هذا التّصور الذي يربط الخرّمية باللذة، يقدمها بونيياتوف، الذي يرى أن الرواية التي تربط اسم خرم بالإباحية تحتاج إلى إعادة النّظر، لأنّها تعبّر عن أفق علمي ضيّق في دراسة التراث، وتنمّ عن تحيّز سياسي وطبقي للذين عارضتهم البابكية الخرّمية.
يعلّل بونيياتوف رأيه مستخدماً أقوال المستشرق تومارا، القائلة بصعوبة اعتبار الخرميين المكافحين كفاحا بطولياً، لمدة عشرين عامًا، جمهوراً من المرحين جدًّا… ذلك أنّه، ببساطة، أيّة حركة تحررية ترافق بالسكر والمجون يكتب لها الفشل مسبقًا.
في حين يقدّر الباحثون المحايدون، بأنّ الصّراع بين البابكية الخرمية وسلطة الخلافة، يمتح من دوافع عدّة، أبرزُ عناوينِها اشتداد الحيف والظّلم والجُور والاستغلال الحُكومي إبّان زمن الخلافة العبّاسية.
يدفع هذا التّصور المادي للنزاع إلى الجزم، مبدئيا، بأنّ البابكيين يناهضون سلطة قائمة أساساً باسم الإسلام، وليس نسف الدين الإسلامي أو إبطال تعاليمه عن العوام، كما ذهب ابن الجوزي وغيره من… فقهاء ومؤرّخي السنّة.
بابك… من العَدم إلى القِيادة!
من المشكلات المنهجية التي تعتري أي بحث عن حياة قائد الحركة البابكية المسمى بابك، أنّ المعلومات عنه محدودة وشبه منعدمة، لاسيما من حيث مولده ونشأته وأصله وأهله والقادة الذين تولّى التنسيق معهم.
المواقف والآراء بخصوص هذه الشخصية متباينة ومتضاربة، لكن العنوان السائد هو التحامل والتنكيل والتشويه، الذي لن يقدّم معرفة مقبولة بخصوص هذه الشّخصية.المؤرخون الرّسميون، من عيار الطّبريوابن الجوزي، اعتبروه “ابن زنى” لنسف قيمته الرّمزية أو البطُولية.[7]
لكنّ الراجح أن بابك رأى النور في وسط كادح وقتها، ومعدم لدرجة الصّفر، ولم تكن هذه الفئات تعبأ بولادة أبنائهم ولا تقيم وزناً للتواريخ المماثلة بالتّبعة.
قيل إنّه مسلم، وقيل أيضا إنّه تخلى عن الإسلام بعد اعتناقه مبادئ وأفكار الخرّمية.
لم يسع الباحثين الوصول إلى معلومة يقينية عن أصله، أي هل هو من أصل عربي أم من النبط أم من الإيرانيين الساكنين في العراق أم أذربيجاني. أما بخصوص موطنه، فهناك إجماع على تمضية حياته بأذريبجان.
هناك رواية أخرى قدّمها الدينوري، تعتبرُ بابكاً من نسل أبي مسلم الخراساني، الذي قتلته الخلافة حين طالبها بالوفاء بوعودها التي كلّلت بفتح المناطق الفارسية. إنّما هذه الرواية بدورها تبقى محدودة، لأنّ هناك مصادرا تاريخية تشير إلى قيام الخرّمية بشكل سابقٍ لأبي مسلم الخراساني.[8]
عاش بابك حياة قاسية. قضى وقتا مهمّا من يفاعته وعنفوان شَبابه في أشغال تتطلّب جهداً بدنيًّا شاقًّا، وذلك في بعد عن والدته؛ قبل أن يعود إلى جانبها حين بلغ من العمر ثمانية عشر عاماً.
لكن… كيف اتصل بابك بالقادة الخرميين وأصبح قائداً للثورة ضد الخلافة؟
لننقل أولاً خبراً مهمًّا تناولته عدد من المصادر، ويتعلّق بالخلافات بين قادة الخرّمية، سيما أبو عمران وجاويدان، أي خلافات سابقة لمجيء بابك. يعود التّفكك هذا إلى حقبة هارون الرّشيد، وقد شهد معارك بين القائدين.
كان حظّ بابك أن يعرف الخرّمية عن طريق جاویدان. جاء في المصادر العربية أنّ اللقاء بينهما كان بعدما أصبح بابك خادماً لدى قائد الخرّمية جاویدان.
بعد التحاق بابك بالخرمية بمدة، جمعت معركة بين جيشي جاویدان وأبا عمران، وقضى القائدان نحبهما معاً على أرضها. ترأس بابك قيادةالخرّمية خلفًا لجاويدان. يتساءل الباحثون المعاصرون: كيف ترقى بابك من خادم إلى قائد؟ وكيف يمكن اكتشاف صفات القيادة على نحو السرعة هذا؟
هناك احتمالان للقضية، إما أنّ بابك عمل في خدمة جاويدان مدة طويلة، واكتسب احترامه وثقته وأهله والمقربين إليه ورؤساء الخرّمية، وإمّا أن بابك عمل مع الخرّمية كعضو بارز في الفرقة ساهم في فعالياتها بنشاط وتحمّس، مما جلب الانتباه إليه وكان في مركز أرفع من خادم، ودفع ذلك جاویدان إلى أن يطلع زوجته بذلك.[9]
ذلك أنّه، بمجرّد ترجّل جاويدان من جرحه البليغ، دعت زوجته إلى انتخاب بابك، حسب وصية زوجها الراحل، ولاقت هذه الدعوة استحسان الجميع، لما عهدوا في بابك من الأهلية لذلك، ولما سبق وان سمعوه من رئيسهم جاویدان من إطراء على شجاعة وإقدام وقابلية بابك للرئاسة.
لكن الحكاية لم تنته هنا، فمازالت تعج بأحداث، نتابعها في القادم من أجزائنا.
في الجزء الثاني من هذا الملف، نستقصي بعض ملامح الأنسنة وإنصاف المرأة واحترام المعتقد لدى البابكيين.
بينما سيتطرق الجزء الثالث والأخير إلى الضعف الذي ألحقته هذه الثورة بالخلافة العباسية.
هوامش:
[1]قاسم العزيز حسن، البابكية، الانتفاضة ضد الخلافة العباسية، دار المدى للثقافة والنّشر،الطبعة الأولى، 2000.
[2]كشك حسنين، النزعة الإنسانية: دراسات في النزعة الإنسانية في الفكر العربي الوسيط ،مؤلف جماعي، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الطبعة الثانية.
[3] المرجع نفسه.
[4] نفسه.
[5] قاسم العزيز حسن، المرجع السابق.
[6] المرجع نفسه.
[7] نفسه.
[8] نفسه.
[9] نفسه.
- الجزء الثاني: البابِكيّة: إنصاف المرأة وتحرير والإنسان واحترام المعتقد… لقطات “نادرة” من التراث الإسلامي! 2\3
- الجزء الثالث: الثورة البابكية: هكذا أضعفت الخلافة العباسية! 3\3
مقالات قد تثير اهتمامك:
- القرامطة: عن… ثورة الكادحين في الإسلام! 1/4
- إخَوان الصّفا… هذه حكايةُ رواد الفكر التنويري في التراث الإسلامي! 1\4
- اللَّقاحية… حين كانت اللاسُلطة مذهبا سياسيا للعرب! 1/2
- حسين مروة: صوت الفكر الذي اغتاله الرصاص
- المعتزلة… العقل العربي الإسلامي في بداية تشكّله! 1\3
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… التاريخ الديني 1/4