في حواره الحصري مع مرايانا، مصطفى حجازي: الشّخصية المتطرّفة تشكو من خصاص في الكفاءة العاطفية، والأصوليّة مجرّد وهم أسطوريّ! 2 - Marayana - مرايانا
×
×

في حواره الحصري مع مرايانا، مصطفى حجازي: الشّخصية المتطرّفة تشكو من خصاص في الكفاءة العاطفية، والأصوليّة مجرّد وهم أسطوريّ! 2\3

تابعنا في الجزء الأول من هذا الحوار، تشخيصَ مصطفى حجازي لواقع الشباب، وكيف يوليه أهمية بالغة في دراساته الإكلينيكية كشريحة هامّة وحساسة.
في هذا الجزء الثاني، يساعدنا حجازي في تعميق نظرنا تجاه الإرهاب، عبر الخوض في، ما اعتبره: المسببات “البرّانية والجوّانية” للإرهاب.

  • تقول في كتابك “الأسرة وصحّتها النفسية”، إنّ الكفاءة العاطفية تجعل الفرد يعي “ردود فعله الانفعالية ويوازنها في تعامله مع الآخرين: متى يجب أن أنفعل ومتى يجب أن أكظم غيظي، ومتى أتعاطف ومتى أتشدد، أو أتجاهل لإفساح المجال للتبريد الانفعالي”. بهذا المعنى، نلاحظ أنّ الشخصية الأصوليّة لا تميّز، عادةً، بين هذه الأشياء، ونراها تتدخل في حياة الآخر وتكفّره إن دعت الضرورة، أو تقصيه من حقه في التّدين وحرية الضمير… هل يجوز القول إن الذات الأصوليّة تشكُو من خصَاص في الكفاءة العاطفية؟

بالفعل. لكن، لنوضّح بدايةً أنّ كفاءة الذكاء العاطفي، المتمثّلة في فهم الذات والآخر والتفاعل مع الذّات والآخر، وإدارة الذّات والعلاقة مع الآخر وتنمية الطّرفين، هي كفاءة قابلة للتّنمية والتّطوّر، وتشكّل بالأساس أحد مفاتيح النّجاح والتّطور.

هنا، يختلفُ الأمرُ كليًّا عن الأصوليّة وتزمّتها وتكفيرها للآخر، وقطعيّة عقيدتها التي تعتبر أنّها تحتكرُ صور الصّواب ونهائيّته بالمُطلق. إنها إلغائية بطبيعتها وتناقضُ الذكاء العاطفي وانفتاحهُ على الذّات والآخر. إنّها تحجر على العقول وتختم على الأفئدة. إنها أزمة ذاتٍ تعيشُ داخل وهم الخلاص الأسطوريّ. يتعطّلُ الذكاءُ والكفاءة العاطفيين لدى الإنسان الأصوليّ تماماً، بمقدار تمسّكه وانشداده للعقيدة التّقليدانية.

المسألة لا تعود إلى الفرد ذاته، وإنما إلى إلغاء العقيدة الأصوليّة لفرديّته وذاتيّته، واستلابه إلى عوالم العصبيّة الأصوليّة. يذوبُ الإنسانُ في أوهام “الخير”، التي تدّعي لذاتها الصواب وخالص النقاء في مقابل الكُفر الشّيطاني.

  • ما المقصود هنا بالضّبط؟

ما أود قوله هو أنّ الإنسان الأصوليّ يجدُ، من خلال ذوبانه في أوهام “الخير” المُطلق، قيمةً بديلةً عن انعدام قيمته. إنّه يعيشُ داخل نوع من التّحول السّحري للمصير من القهر والهدر إلى القيمة المطلقة المتمثّلة في العَقيدة المُطلقة. تتضخّم هذه القيمة البديلة حين تتحوّل من التهميش وانعدام الكيان الذي يطالُ الإنسان المقهور، فتغدو بالتّالي مرجعية إطلاقية غايتها التحليل والتّحريم. إنها عُقدة، أو قل، نوعٌ من التّحوّل الوهميّ للمصير. إنه هروبٌ فجّ من الواقع المعيش عبر الاحتماء بواقع أسطوري لا وجود له. لنقل بكلّ جرأة إنّه مأزق أكثر من أي شيء آخر، لأنّه لا يبني مستقبلاً واقعيًّا وفعليًّا.

  • وهل يكفي ذلك لكي تقوم الذات الأصولية (المتطرّفة) بتفخيخ نفسها وتفجير الآخر والقضاء على الحاضر والمستقبل؟

طبعاً، لأنّ تفخيخ الذّات وتفجيرها بشكل انتحاريّ يشملُ الآخر، هو الشّكل الأقصى من تحوّل المصير، حيثُ يصبحُ الواحدُ من هؤلاء، بطل القضية السامية (الجهاد) وشهيدها. يُقبل الإرهابيّ على فعل التفجير عن قناعة ذاتية تولّدت من جراء عملية طويلة من غير دفاع.

لننتبه أنّ الإقدام على نسف الذات عبر تفجيرها، بغية نسف الواقع “الكافر”، يبدو لنا في مطلق الهمجية والسلبية والوحشية، بينما يبدو للأصوليّ بمثابة تضحية، للعبور إلى حالة الكيان المتعالي على كل هذه الحياة بما فيها من هدر وقهر وانعدام قيمة الذّات ومعنى وجودها. إنّ هذا بالضّبط ما يرسمُ نفسيّة الأصوليّ الذي يختار العمل الإرهابيّ.

  • الملاحظُ أنّ هناك دعوات كثيرة مرفوعة اليوم لتجفيف منابع الإرهاب في المنطقة. ما هو التّدخل العلاجي الذي يراه مصطفى حجازي ممكناً ومناسباً لتجسير السّبل صوبَ التسامح والتعددية والعيش المشترك، في بلدان شمال أفريقيا والشّرق الأوسط؟

لنتّفق أوّلا أنّ الإرهابُ لم يأتِ من العدم، بل هو في شطر كبير منهُ، صنيعة أنظمة المخابرات الدّولية متواطئاً مع أجندة المخابرات المحلية، على صعيد التمويل والتسليح، وحتى توفير المساعدات التّقنية الخاصّة بالترويج الإعلامي. طبعاً، هناك أفعال إرهابية وتنظيمات في المنطقة تمتح من التّأويل المتطرّف للدّين، هذا لا جدال فيه.

لكن، أريد أن أقدّم داعش كأنموذج بليغ للطّرح الأول. من المعرُوف أنّ أنظِمة الاستبداد في بعض دول المَشرق قد أطلقت القادة الإرهابيين، وغذّت الفكر المتطرّف لمحاربة التّحركات الشعبية المطالبة بالتّحرير والتنمية والكرامة والعدالة، إلخ.

وردتنا أخبارٌ كثيرة عن ضلوع المخابرات الأجنبية، وعلى رأسها المخابرات الأمريكية، التي دعمت وموّلت وزوّدت الإرهابيين بالخبرة التقنية والإعلامية لتنفيذ مشروع ضرب الكيانات الوطنية الناشئة وتفتيتها. لا أتحدّث من فراغ أو إيماناً بوجود المؤامرة، إنّما هناك دراسات موثّقة في هذا المجال، في بلاد الشام والعراق. إلاّ أنّ السّحر انقلب على السّاحر، خصوصاً حين أخذت هذه الحَركات الإرهابية، تصيبُ بالأضرار البليغة من أطلقوها في بادئ الأمر. لذلك، ابتدأت حملة الحرب على الإرهاب.

  • هذا الطّرح تمّ تفنيده مراراً، على اعتبار أنّ الإرهاب ليس بالضّرورة صناعة غربية “برّانية” وإنما نبتة “جُوّانية” أينعت في الثّقافة الإسلامية؟

لا يخفى إطلاقاً أنّ جذور الحَركات الإرهابية موجُودة في الدّعوات الدّينية المتطرّفة. فقه التكفير المعروف في التاريخ الإسلامي مثلاً، غاصٌّ بما يفيد في ذلك. بيد أنّ الاستبداد المحلي، بتواطؤ مع المخابرات الأجنبية، لعب دوراً مهمًّا في تحريكِ الفكرة المتطرّفة وإشعال جذوتها، عبر التمويل والتسليح، إلخ.

لذلك، نحنُ ننتبه إلى أنّ مسألة نشر التّسامح ثقافيًّا، كما يجري العمل عليه الآن، هي عملية أقرب للمثالية غير الواقعية. هي دعوات لا تعالج لبّ المشكلة التي أدّت إلى انتشار الفكر الأصوليّ الإرهابي، وتجاوُبِ الشّرائح الأكثر فقراً وقهراً وهدراً معَه.

الحلّ في نظري لا يكمنُ في التّبشير بالتّسامح، وإنما يتجسّد في أمرين اثنين: الأوّل أن يتمّ تجفيفُ منابع الإرهاب الفقهية، التي تغرسُ بذور التشدّد والتّطرف والتكفير؛ بدءا من إعادة النّظر في التعليم الديني ومحتوياته البيداغوجية، ثمّ في إعداد المشايخ والوُعاظ وأئمّة المساجد، بحيثُ يتمّ إبراز قيم العمل والاتقان وإعمار الأرض والتّعاضد والتّساند والتّراحم والتّسامح، في نوع من الثورة الشّاملة في التعليم الديني الشّائع في بلادنا.

أمّا الأمر الثاني، فيتعلّق بمحاربة الاستبداد والعصبيات، وكلاهما لا يؤمنُ بالأوطان، ولا يعترفُ بكرامة الإنسان وحقوقه، تماماً كالفكر الأصوليّ وفقهه الذي لا يعترفُ بالرّوابط الوطنية وقيم الحرية.

ثلاثية الاستبداد والعصبيات والفقه الأصوليّ تتحالفُ معاً، وتصارعُ بشراسة لوضع اليد على الإنسان لقهره وإضعافه وإذلاله وإحكام القبضة على الكيان الوطني بالتالي. إنّها ثلاثية لا تعترفُ إلا بكيانها هي، ولا تنظرُ إلى الإنسان إلا بمثابة أداة لخدمة مشاريعها. إننا نغدو أمام رحلةُ تدجين للإنسان، وتحويله إلى قطيع تابع (رعايا)، وتحوّل الأوطان إلى مناطق نفوذ.

في المحصّلة، فإنّه، عندما يُكرّمُ الإنسان ويُعترف له بإنسانيته، من خلال حصوله على حقوقه وتنمية طاقاته وإمكاناته، وتوظيفها في مشروع وطنيّ إنتاجيّ يقوم به الجميع ويكون لخدمتهم، عندها، لا يعودُ مكان للإرهاب. ويمكنُ للقارئ العودة إلى كتابنا بعنوان: “العصبيات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان”، حيثُ طرحتُ هذه القضايا بتفصيل دقيق.

في الجزء الثالث والأخير من هذا الحوار، يفصّل لنا حجازي في الاستلاب الذي يتعرّض له الإنسان المقهور من طرف الرّقمية، وكذلك استحالة أي تنمية ممكنة دون إشراك فعليّ للعنصر النسوي.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *