نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: التاريخ بين الرواية والايديولوجية 2/4
إن تدوين التاريخ الإسلامي، خاصة فترة صدر الإسلام، كان خاضعا للصراعات المذهبية والسياسية المستعرة آنذاك بين مختلف الاتجاهات، وكان محاولة لإيجاد المشروعية لتعضيد حجة كل طرف. لعل هذا ما يفسر اختلاف الروايات وتناقضها داخل الكتاب الواحد عند المؤرخ الواحد، فبالأحرى بين الطوائف والمذاهب، ما يجعلها في أغلب الأحوال كتابات تبريرية، تحاول تبرير الصراعات المتفجرة التي ألقت بالمجتمعات الاسلامية في سديم من التفرقة.
توقفنا في الجزء الأول من هذا الملف عند إشكالية الوعي التاريخي في المجتمعات الإسلامية، وطرحنا إطارا نظريا عاما.
في هذا الجزء الثاني، نحاول توضيح الأمر بالعودة إلى المرحلة التأسيسية، لنقف على بعض من إشكالياتها، في محاولة لفهم أسبابها ودوافعها، والوقوف على الإشكاليات المرتبطة بهذه الفترة، ودورها في تأسيس مخيال اجتماعي جريح، يستنجد بالوجدان عوض الحقائق، ولنقف أيضا على هول التناقض بين ما تقدمه الروايات التاريخية المعتمدة، والصور والتمثلات المحركة للمجتمعات “الإسلامية”.
روايات متضاربة وحقائق غيبتها الصراعات الأيديولوجية
لعبت الذاكرة إذن دورا أساسيا في تشكيل الوعي التاريخي الإسلامي، حيث أن التدوين التاريخي انطلق مع ما عرف بالقصاصين في العهد الأموي. والقصاصون هم مجموعة من رجال الدين كانوا يقصون الأحاديث والقصص على الناس في المساجد عقب كل صلاة. غير أن أغلب قصصهم اقتصرت على الأمم السابقة للإسلام والملوك والبلدان الأخرى،
يقف الباحث في التاريخ الاسلامي على إشكالية حقيقية، وهي تعدد وتناقض الروايات حول الحادثة الواحدة، إذ ليس من الشاذ ولا النادر أن تجد الرواية ونقيضها في نفس الكتاب، بل ونفس الصفحة وحول نفس الحادثة؛ ولعل هذا يرجع إلى “المنهج” الإسلامي في التدوين، الذي كان يعتمد على الروايات الشفوية، وعلى جمع الأحاديث والروايات دونما تمحيص، بل اهتم بالسند أكثر من اهتمامه بالمتن.
رغم تطور منهج الكتابة التاريخية متأثرا بتطور علم الحديث وتدوينه، فإن الكتابات التاريخية ظلت روايات شفوية مكتوبة، متأثرة بشخصية المؤرخ والرواة والوسط والفارق الزمني والصراعات الإيديولوجية. بمعنى آخر، كانت الكتابة التاريخية تمتح من الذاكرة، وهذه الأخيرة تشكل التاريخ لا كما حدث فعلا ولكن… كما تريد تشكيله أو كما تريد رؤيته.
لعبت الذاكرة إذن دورا أساسيا في تشكيل الوعي التاريخي الإسلامي، حيث أن التدوين التاريخي انطلق مع ما عرف بالقصاصين في العهد الأموي. والقصاصون هم مجموعة من رجال الدين كانوا يقصون الأحاديث والقصص على الناس في المساجد عقب كل صلاة. غير أن أغلب قصصهم اقتصرت على الأمم السابقة للإسلام والملوك والبلدان الأخرى، وخاصة ما يعرف بالإسرائيليات، أي القصص التوراتية التي ستدخل العوالم الإسلامية، وستصبح فيما بعد جزء مشكلا للمخيال الجمعي الإسلامي، وأحد عناصر الفقه والتاريخ الإسلاميين.
إضافة إلى القصاصين، كانت مجالس العلم والسمر تحوي كثيرا من الأخبار التاريخية، غير أنها لم تكن منفصلة عن الشعر والأدب والحديث، وكلها كانت روايات شفوية، حيث لن يعرف التدوين التاريخي انطلاقته الرسمية إلا بعد 120 سنة من وفاة النبي.
ما نلاحظ أن سلسلة المؤرخين الأوائل، شيعة وسنة، كلهم ولدوا بعد القرن الأول (أبو مخنف، أبو الهيثم، الواقدي، ابن إسحاق… إلخ)؛ وأغلب كتاباتهم وصلت في وقت متأخر عن طريق تلاميذهم سماعا وليس كتابة، وبعض هذه الكتابات ضاع ولم يعثر عليه لحد الآن.
تدوين التاريخ الإسلامي، خاصة فترة صدر الإسلام، كان خاضعا للصراعات المذهبية والسياسية المستعرة آنذاك بين مختلف الاتجاهات، وكان محاولة لإيجاد المشروعية لتعضيد حجة كل طرف. لعل هذا ما يفسر اختلاف الروايات وتناقضها داخل الكتاب الواحد عند المؤرخ الواحد، فبالأحرى بين الطوائف والمذاهب
يلاحظ المتتبع هنا أيضا أن الكتابات التاريخية ركزت على الفترة اللاحقة للنبي، كما تركزت على الأنساب والمغازي، إذ أن تناول سيرته، بشكل مفصل، لم يتم، كما أسلفنا، إلا مع ابن إسحاق الذي ضاع كتابه، قبل أن يبعثه ابن هشام.
يمكن أن نفهم التركيز على الفترة اللاحقة للنبي، بسبب الصراعات التي تفجرت عقب وفاته؛ وهو ما يبرر أيضا التركيز على كتابة الأنساب، لحاجة الأمويين ثم بني العباس ومعارضيهم، إلى تأكيد شرعية انحدارهم من النبي للحصول على شرعية الحكم.
أما المغازي، فكانت هي التي تضفي الشرعية على الغزوات التي قام بها المسلمون. كان نوعا من اجترار النموذج المؤسس من أجل شرعية الحاضر.
بمعنى آخر، نقول إن تدوين التاريخ الإسلامي، خاصة فترة صدر الإسلام، كان خاضعا للصراعات المذهبية والسياسية المستعرة آنذاك بين مختلف الاتجاهات، وكان محاولة لإيجاد المشروعية لتعضيد حجة كل طرف. لعل هذا ما يفسر اختلاف الروايات وتناقضها داخل الكتاب الواحد عند المؤرخ الواحد، فبالأحرى بين الطوائف والمذاهب، ما يجعلها في أغلب الأحوال كتابات تبريرية، تحاول تبرير الصراعات المتفجرة التي ألقت بالمجتمعات الاسلامية في سديم من التفرقة.
رغم ذلك، وإن كانت الكتابة التاريخية الإسلامية كتابة بعدية، إلا أنها تكشف، في جوانب كثيرة منها، عن الواقع التاريخي المادي وطبيعة الصراعات المتأثرة بالتاريخ، وليست المتعالية عليه، كما تحاول تقديمه الكتابات الأصولية المعاصرة. هذه الأخيرة التي قامت بمحاولة “ترسيم الوعي التاريخي” عبر ترسيخ كتابة تاريخية تبجيلية انتقائية، من خلال عملية انتقاء للروايات التي تستجيب لتصوراتها السياسية والمداعبة للوجدان والعواطف، وإقصاء الروايات الأخرى، والتي أحيانا كثيرة ما تكون أكثر قوة ومنطقا وإقناعا.
لم تسلم سيرة النبي المؤسس من هذه العملية، وفي الجزء القادم من هذا المقال، نتناول سيرة النبي التي لم تكتب.
لقراءة الجزء الأول: نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: الوعي التاريخي الإسلامي الشقي والمزيف 1/4
لقراءة الجزء الثالث: نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: النبي المؤسس: سيرة لم تكتب 3/4
لقراءة الجزء الرابع: نحو إعادة تشكيل الوعي التاريخي: سيرة النبي مشذبة أم متخيلة؟ 4/4
مقالات قد تهمك
المرأة والفقه: القرآن ولغة الأعراب. أصل الحكاية… 1\3
علي عبد الرازق… الأزهري الذي جلد نظام الخلافة وكشف حقيقته في التاريخ الإسلامي
التاريخ الإسلامي لإسبانيا… من حضارة غير مسبوقة إلى محنة الدم والدين والطرد 1\10